{ 9-14 } { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ }
يخبر تعالى عن المشركين ، أنك لو { سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ } الله وحده لا شريك له ، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات ، العليم بظواهر الأمور وبواطنها ، وأوائلها وأواخرها ، فإذا كانوا مقرين بذلك ، فكيف يجعلون له الولد والصاحبة والشريك ؟ ! وكيف يشركون به من لا يخلق ولا يرزق ، ولا يميت ولا يحيي ؟ !
وقوله تعالى : { ولئن سألتهم } الآية ابتداء احتجاج على قريش يوجب عليهم التناقض في أمرهم ، وذلك أنهم يقرون أن الخالق الموجد لهم وللسماوات والأرض هو الله تعالى ، وهم مع ذلك يعبدون أصناماً ويدعونها آلهتهم ، ومقتضى جواب قريش أن يقولوا «خلقهن الله » فلما ذكر تعالى المعنى جاءت العبارة عن الله ب { العزيز العليم } ليكون ذلك توطئة لما عدد بعد من أوصافه التي ابتدأ الإخبار بها وقطعها من الكلام الذي حكى معناه عن قريش .
لما كان قوله : { وكم أرسلنا من نبيء في الأولين } [ الزخرف : 6 ] موجهاً إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم للتسلية والوعد بالنصر ، عطف عليه خطاب الرّسول صلى الله عليه وسلم صريحاً بقوله : { ولئن سألتهم } الآية ، لقصد التعجيب من حال الذين كذّبوه فإنهم إنما كذبوه لأنه دعاهم إلى عبادة إله واحد ونبْذِ عبادة الأصنام ، ورأوا ذلك عجباً مع أنهم يقرّون لله تعالى بأنّهُ خالق العوالم وما فيها . وهل يستحق العبادةَ غيرُ خالق العابدين ، ولأنّ الأصنام من جملة ما خلق الله في الأرض من حجارة ، فلو سألهم الرّسول صلى الله عليه وسلم في محاجّته إياهم عن خالق الخلق لما استطاعوا غير الإقرار بأنه الله تعالى .
فجملة { ولئن سألتهم } معطوفة على جملة { وكم أرسلنا من نبيء في الأولين } [ الزخرف : 6 ] عطف الغرض ، وهو انتقال إلى الاحتجاج على بطلان الإشراك بإقرارهم الضِمْنيّ : أن أصنامهم خالية عَن صفة استحقاققِ أنْ تُعبد . وتأكيد الكلام باللام الموطئة للقسم ولام الجواب ونون التوكيد لتحقيق أنهم يجيبون بذلك تنزيلاً لغير المتردد في الخبر منزلة المتردّد ، وهذا التنزيل كناية عن جدارة حالتهم بالتعجيب من اختلال تفكيرهم وتناقض عقائدهم وإنّما فُرض الكشف عن عقيدتهم في صورة سؤالهم عن خالقهم للإشارة إلى أنهم غافلون عن ذلك في مجرى أحوالهم وأعمالهم ودعائهم حتى إذا سألهم السائل عن خالقهم لم يتريّثوا أن يجيبوا بأنه الله ثم يرجعون إلى شركهم .
وتاء الخطاب في { سألتهم } للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر سياق التسلية ، أو يكون الخطاب لغير معيّن ليعمّ كل مخاطب يتصور منه أن يسألهم .
و { العزيز العليم } هو الله تعالى . وليس ذكر الصفتين العليتين من مقول جوابهم وإنما حكي قولهم بالمعنى ، أي ليقولن خلقهنّ الذي الصفتان من صفاته ، وإنما هم يقولون : خلقهن الله ، كما حكي عنهم في سورة لقمان ( 25 ) و { لئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولُنّ الله } وذلك هو المستقرَى من كلامهم نثراً وشعراً في الجاهلية . وإنما عُدل عن اسم العليّ إلى الصفتين زيادة في إفحامهم بأن الذي انصرفوا عن توحيده بالعبادة عزيز عليم ، فهو الذي يجب أن يرجوه النّاس للشدائد لعزّته وأن يخلصوا له باطنهم لأنه لا يخفى عليه سرّهم ، بخلاف شركائهم فإنها أذلّة لا تعلم ، وإنهم لا ينازعون وصفه ب { العزيز العليم } .
وتخصيص هاتين الصفتين بالذكر من بين بقية الصفات الإلهية لأنها مضادة لصفات الأصنام فإن الأصنام عاجزة عن دفع الأيدي .
والتقدير : ولئن سألتهم مَن خلق السماوات والأرض ليقولُنّ الله ، وإن سألتهم : أهو العزيز العليم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولئن سألتهم} يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لئن سألت كفار مكة.
{من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز} في ملكه، {العليم} بخلقه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك: من خلق السموات السبع والأرضين، فأحدثهنّ وأنشأهنّ؟ ليقولنّ: خلقهنّ العزيز في سلطانه وانتقامه من أعدائه، العليم بهنّ وما فيهنّ من الأشياء، لا يخفى عليه شيء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
في قولهم وجوابهم أن الله خلق السماوات والأرض دلالة أنهم قد عرفوا أنه رسول، لكن كذّبوه عنادا ومكابرة؛ لأن أهل مكة كانوا لا يؤمنون بالرسل، ويزعمون أنا عرفنا أن الله خلق السماوات الأرض بقولهم، لا يُنكرون رسالته خاصة، بل ينكرون الرسل أجمع.
ثم هم ما عرفوا أن الله هو خالق السماوات والأرض إلا بالرسل، إذ هم ليسوا من الذين عادتُهم الاستدلال والنظر في الدلائل ليعرفوا الله تعالى بالدلائل العقلية، والظاهر في العوامّ جملة المعرفة بالدلائل السمعية، فكان الظاهر هذا أن معرفتهم أن الله خلق السماوات والأرض لقول الرسل عليهم السلام لكنهم كذّبوهم ولم يصدّقوهم عنادا منهم ومكابرة، وما به عرفوا سائر الرسل من المعجزات موجود ومعايَن لهم في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم لا بد أن يعرفوه رسولا، لكنهم كذّبوه عنادا، فدلّ أن قولهم هذا دليل على معرفتهم برسالته.
ثم تمام الاحتجاج بهذا أن يقال لهم: قد عرفتم أن الله، هو خالق السماوات والأرض، فهلاّ عرفتم أنه لم يخلقهما عبثا باطلا؟ إذ لو كان على ما يزعمون أن لا رُسل ولا بعث ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب، يكون خلقه إياها عبثا باطلا. فكان إقرارهم بخلقه إياها إقرارا بخلقه على وجه الحكمة، ولن يخرج خلقُه على الحكمة إلا بالإقرار بالرسل والبعث والثواب والعقاب على ما عرّف غير مرّة. أو أن يقال: فإذا عرفتم أن الله تعالى، هو خلق السماوات والأرض وما ذكر إلى آخره، فكيف أنكرتم قدرته على البعث والإعادة بعد الموت؟ والأعجوبة في خلق السماوات والأرض أعظم وأكثر من الأعجوبة في بعثكم وإعادتكم، فكيف أنكرتم ما هو أقل في القدرة والأعجوبة؟
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولئن سألتهم} أيضاً عما هو أكبر من ذلك وأدل على القدرة، وجميع صفات الكمال فقلت لهم: {من خلق السماوات} على علوها وسعتها {والأرض} على كثرة عجائبها وعظمتها {ليقولن} أي من غير توقف.
ولما كان السؤال عن المبتدأ، كان الجواب المطابق ذكر الخبر، فكان الجواب هنا: الله -كما في غيره من الآيات، لكنه عدل عنه إلى المطابقة المعنوية لافتاً القول عن مظهر العظمة إلى ما يفيد من الأوصاف القدرة على كل شيء، وأنه تعالى يغلب كل شيء، ولا يغلبه شيء مكرراً للفعل تأكيداً لاعترافهم زيادة في توبيخهم وتنبيهاً على عظيم غلطهم، فقال معبراً بما هو لازم لاعترافهم له سبحانه بالتفرد بالإيجاد؛ لأنه أنسب الأشياء لمقصود السورة وللإبانة التي هي مطلعها. {خلقهن} الذي هو موصوف بأنه {العزيز العليم} أي الذي يلزم المعترف بإسناد هذا الخلق إليه أن يعترف بأنه يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، وأن علمه محيط بكل شيء، فيقدر على إيجاده على وجه من البداعة ثم على أكمل منه ثم أبهج منه وهلم جرا إلى ما لا نهاية له- هذا هو الأليق بكمال ذاته وجليل صفاته،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
العجيب -كان- في أمر القوم أنهم كانوا يعترفون بوجود الله، وخلقه للسماوات والأرض. ثم لا يرتبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية من توحيد الله، وإخلاص التوجه إليه فكانوا يجعلون له شركاء، يخصونهم ببعض ما خلق من الأنعام؛ كما كانوا يزعمون أن الملائكة بناته، ويعبدونهم من دونه في صورة أصنام! والقرآن يعرض اعترافهم، ويرتب عليه نتائجه، ويوجههم إلى منطق الفطرة الذي يجانبونه وإلى السلوك الواجب تجاه نعمته عليهم فيما خلق لهم من الفلك والأنعام.