وإن كانت أذية المؤمنين عظيمة ، وإثمها عظيمًا ، ولهذا قال فيها : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } أي : بغير جناية منهم موجبة للأذى { فَقَدِ احْتَمَلُوا } على ظهورهم { بُهْتَانًا } حيث آذوهم بغير سبب { وَإِثْمًا مُبِينًا } حيث تعدوا عليهم ، وانتهكوا حرمة أمر اللّه باحترامها .
ولهذا كان سب آحاد المؤمنين ، موجبًا للتعزير ، بحسب حالته وعلو مرتبته ، فتعزير من سب الصحابة أبلغ ، وتعزير من سب العلماء ، وأهل الدين ، أعظم من غيرهم .
وقوله : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } أي : ينسبون إليهم ما هم بُرَآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه ، { فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } وهذا هو البهت البين أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه ، على سبيل العيب والتنقص{[24036]} لهم ، ومَنْ أكثر مَنْ يدخل في هذا الوعيد الكفرةُ بالله ورسوله{[24037]} ، ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد بَرَّأهم الله منه ، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم ؛ فإن الله ، عز وجل ، قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم ، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم{[24038]} ، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا ، فهم في الحقيقة منكوسو القلوب{[24039]} يذمون الممدوحين ، ويمدحون المذمومين .
وقال{[24040]} أبو داود : حدثنا القَعْنَبِيّ ، حدثنا عبد العزيز - يعني : ابن محمد - عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أنه قيل : يا رسول الله ، ما الغيبة ؟ قال : " ذكرُكَ أخاك بما يكره " . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه " .
وهكذا رواه الترمذي ، عن قتيبة ، عن الدراوردي ، به . قال : حسن صحيح{[24041]} .
وقد قال{[24042]} ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سلمة ، حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن عمار بن أنس ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أيُّ الربا أربى عند الله ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " أربى الربا عند الله استحلالُ عرض امرئ مسلم " ، ثم قرأ : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }{[24043]} .
ألحقت حُرمة المؤمنين بحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم تنويهاً بشأنهم ، وذكروا على حدة للإِشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول عليه الصلاة والسلام . وهذا من الاستطراد معترض بين أحكام حُرمة النبي صلى الله عليه وسلم وآداب أزواجه وبناته والمؤمنات .
وعطف { المؤمنات } على { المؤمنين } للتصريح بمساواة الحكم وإن كان ذلك معلوماً من الشريعة ، لوَزْع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم .
والمراد بالأذى : أذى القول بقرينة قوله : { فقد احتملوا بهتاناً } لأن البهتان من أنواع الأقوال وذلك تحقير لأقوالهم ، وأتبع ذلك التحقير بأنه إثم مبين . والمراد بالمبين العظيم القوي ، أي جُرماً من أشد الجرم ، وهو وعيد بالعقاب عليه .
وضمير { اكتسبوا } عائد إلى المؤمنين والمؤمنات على سبيل التغليب ، والمجرور في موضع الحال . وهذا الحال لزيادة تشنيع ذلك الأذى بأنه ظلم وكذب .
وليس المراد بالحال تقييد الحكم حتى يكون مفهومه جواز أذى المؤمنين والمؤمنات بما اكتسبوا ، أي أن يُسبوا بعمل ذميم اكتسبوه لأن الجزاء على ذلك ليس موكولاً لعموم الناس ولكنه موكول إلى ولاة الأمور كما قال تعالى : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } [ النساء : 16 ] . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغِيبة وقال : « هي أن تذكر أخاك بما يكره . فقيل : وإن كان حقاً . قال : إن كان غير حق فذلك البهتان » فأما تغيير المنكر فلا يصحبه أذى .
وما صْدَق الموصول في قوله : { ما اكتسبوا } سيّئاً ، أي بغير ما اكتسبوا من سيّىء . ومعنى { احتملوا } كَلَّفوا أنفسهم حَملاً ، وذلك تمثيل للبهتان بحمل ثقيل على صاحبه ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمَل بهتاناً وإثماً مبيناً } في سورة النساء ( 112 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَالّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ" كان مجاهد يوجه معنى قوله "يُؤْذُونَ "إلى يقفون... فمعنى الكلام على ما قال مجاهد: والذين يقفون المؤمنين والمؤمنات، ويعيبونهم طلبا لشينهم "بغَيْرِ ما اكْتَسَبُوا" يقول: بغير ما عملوا...
وقوله: "فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتانا وإثْما مُبِينا" يقول: فقد احتملوا زورا وكذبا وفرية شنيعة وبهتان: أفحش الكذب "وإثْما مُبِينا" يقول: وإثما يبينُ لسامعه أنه إثم وزور.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال الحسن وقتادة: إيّاكم وأذى المؤمن فإنّه حبيب ربّه أحبَّ الله فأحبّه، وغضب لربّه فغضب الله له، وإنَّ الله يحوطه ويؤذي من آذاه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وقد ميز الله تعالى بين أذاه وأذى الرسول وأذى المؤمنين فجعل الأول كفرا والثاني كبيرة، فقال في أذى المؤمنين:"فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا" وقد بيناه.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
في البهتان وهو ذكر الإنسان بما ليس فيه وهو أشد من الغيبة، مع أن الغيبة محرمة وهي ذكره ما فيه مما يكره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من أعظم أذاه صلى الله عليه وسلم أذى من تابعه، وكان الأتباع لكونهم غير معصومين يتصور أن يؤذوا بالحق، قال مقيداً للكلام بما يفهم: {والذين يؤذون المؤمنين} أي الراسخين في صفة الإيمان {والمؤمنات} كذلك. ولما كان الأذى بالكذب أشد في الفساد وأعظم في الأذى قال: {بغير ما اكتسبوا} أي بغير شيء واقعوه متعمدين له حتى أباح أذاهم {فقد احتملوا} أي كلفهم أنفسهم أن حملوا {بهتاناً} أي كذباً وفجوراً زائداً على الحد موجباً للخزي في الدنيا، ولما كان من الناس من لا يؤثر فيه العار، وكان الأذى قد يكون بغير القول، قال: {وإثماً مبيناً} أي ذنباً ظاهراً جداً موجباً للعذاب في الأخرى.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ولهذا كان سب آحاد المؤمنين موجبًا للتعزير بحسب حالته وعلو مرتبته، فتعزير من سب الصحابة أبلغ، وتعزير من سب العلماء وأهل الدين أعظم من غيرهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذا التشديد يشي بأنه كان في المدينة يومذاك فريق يتولى هذا الكيد للمؤمنين والمؤمنات، بنشر قالة السوء عنهم، وتدبير المؤامرات لهم، وإشاعة التهم ضدهم.
وهو عام في كل زمان وفي كل مكان. والمؤمنون والمؤمنات عرضة لمثل هذا الكيد في كل بيئة من الأشرار المنحرفين والمنافقين والذين في قلوبهم مرض، والله يتولى عنهم الرد على ذلك الكيد، ويصم أعداءهم بالإثم والبهتان.
والحق سبحانه حين شرع هذه الحدود وهذا الإيذاء، إنما شرعه ليكون عقوبة لمن يتعدّى حدود الله، وتطهيرا له من ذنبه، ثم لتكون رادعا للآخرين.