{ وَتِلْكَ عَادٌ } الذين أوقع الله بهم ما أوقع ، بظلم منهم لأنهم { جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } ولهذا قالوا لهود : { ما جئتنا ببينة } فتبين بهذا أنهم متيقنون لدعوته ، وإنما عاندوا وجحدوا { وَعَصَوْا رُسُلَهُ } لأن من عصى رسولا ، فقد عصى جميع المرسلين ، لأن دعوتهم واحدة .
{ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ } أي : متسلط على عباد الله بالجبروت ، { عنيد } أي : معاند لآيات الله ، فعصوا كل ناصح ومشفق عليهم ، واتبعوا كل غاش لهم ، يريد إهلاكهم لا جرم أهلكهم الله .
والآن وقد هلكت عاد . يشار إلى مصرعها إشارة البعد ، ويسجل عليها ما اقترفت من ذنب ، وتشيع باللعنة والطرد ، في تقرير وتكرار وتوكيد :
( وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد . وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة . ألا إن عادا كفروا ربهم . ألا بعدا لعاد قوم هود ) . .
( وتلك عاد ) . . بهذا البعد . وقد كان ذكرهم منذ لحظة في السياق ، وكان مصرعهم معروضا على الأنظار . . ولكنهم انتهوا وبعدوا عن الأنظار والأفكار . .
( وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ) . .
وهم عصوا رسولا واحدا . ولكن أليست هي رسالة واحدة جاء بها الرسل جميعا ؟ فمن لم يسلم لرسول بها فقد عصى الرسل جميعا . ولا ننسى أن هذا الجمع في الآيات وفي الرسل مقصود من ناحية أسلوبية أخرى لتضخيم جريمتهم وإبراز شناعتها . فهم جحدوا آيات ، وهم عصوا رسلا . فما أضخم الذنب وما أشنع الجريمة !
( واتبعوا أمر كل جبار عنيد ) . .
أمر كل متسلط عليهم ، معاند لا يسلم بحق ، وهم مسؤولون أن يتحرروا من سلطان المتسلطين ، ويفكروا بأنفسهم لأنفسهم . ولا يكونوا ذيولا فيهدروا آدميتهم .
وهكذا يتبين أن القضية بين هود وعاد كانت قضية ربوبية الله وحده لهم والدينونة لله وحده من دون العباد . . كانت هي قضية الحاكمية والاتباع . . كانت هي قضية : من الرب الذي يدينون له ويتبعون أمره ؟ يتجلى هذا في قول الله تعالى :
( وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ، واتبعوا أمر كل جبار عنيد ) . .
فهي المعصية لأمر الرسل والاتباع لأمر الجبارين ! والإسلام هو طاعة أمر الرسل - لأنه أمر الله - ومعصية أمر الجبارين . وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية والإسلام وبين الكفر والإيمان . . في كل رسالة وعلى يد كل رسول .
وهكذا يتبين أن دعوة التوحيد تصر أول ما تصر على التحرر من الدينونة لغير الله ؛ والتمرد على سلطان الأرباب الطغاة ؛ وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية ، واتباع الجبارين المتكبرين جريمة شرك وكفر يستحق عليها الخانعون الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة . . لقد خلق الله الناس ليكونوا أحرارا لا يدينون بالعبودية لأحد من خلقه ، ولا ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ولا رئيس ولا زعيم . فهذا مناط تكريمهم . فإن لم يصونوه فلا كرامة لهم عند الله ولا نجاة . وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي الكرامة ، وتدعي الإنسانية ، وهي تدين لغير الله من عباده . والذين يقبلون الدينونة لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين أن يكونوا على أمرهم مغلوبين . فهم كثرة والمتجبرون قلة . ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما يضحونه مرغمين للأرباب المتسلطين من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال .
{ وتلك عاد } أنت اسم الإشارة باعتبار القبيلة أو لأن الإشارة إلى قبورهم وآثارهم . { جحدوا بآيات ربهم } كفروا بها . { وعصوا رسله } لأنهم عصوا رسولهم ومن عصي رسولا فكأنما عصى الكل لأنهم أمروا بطاعة كل رسول . { واتّبعوا أمر كل جبّار عنيد } يعني كبراءهم الطاغين و{ عنيد } من عند عنداً وعنداً وعنوداً إذا طغى ، والمعنى عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم .
الإشارة ب { تِلك } حاضر في الذّهن بسبب ما أجري عليه من الحديث حتى صار كأنّه حاضر في الحسّ والمشاهدة . كقوله تعالى : { تلك القرى نقصّ عليك من أنبائها } [ الأعراف : 101 ] وكقوله : { أولئك على هدىً من ربّهم } [ البقرة : 5 ] ، وهو أيضاً مثله في أنّ الإتيان به عقب الأخبار الماضية عن المشار إليهم للتنبيه على أنّهم جديرون بما يأتي بعد اسم الإشارة من الخبر لأجل تلك الأوصاف المتقدّمة .
وتأنيث اسم الإشارة بتأويل الأمّة .
و { عاد } بيان من اسم الإشارة .
وجملة { جحدوا } خبر عن اسم الإشارة . وهو وما بعده تمهيد للمعطوف وهو { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة } لزيادة تسجيل التّمهيد بالأجرام السّابقة ، وهو الذي اقتضاه اسم الإشارة كما تقدّم ، لأنّ جميع ذلك من أسباب جمع العذابين لهم .
والجحد : الإنكار الشّديد ، مثل إنكار الواقعات والمشاهدات . وهذا يدلّ على أنّ هوداً أتاهم بآيات فأنكروا دلالتها . وعدي { جَحدوا } بالباء مع أنّه متعدّ بنفسه لتأكيد التّعدية ، أو لتضمينه معنى كفروا فيكون بمنزلة ما لو قيل : جحدوا آيات ربّهم وكفروا بها ، كقوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [ النمل : 14 ] .
وجمع الرسل في قوله : { وعصَوا رُسلَه } وإنّما عَصَوْا رَسولاً واحداً ، وهو هود عليه السّلام لأنّ المراد ذكر إجرامهم فناسب أن يناط الجرم بعصيان جنس الرسل لأن تكذيبهم هوداً لم يكن خاصاً بشخصه لأنهم قالوا له : { وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك } [ هود : 53 ] ، فكل رسول جاء بأمر ترك عبادة الأصنام فهم مكذبون به . ومثله قوله تعالى : { كذّبت عادٌ المرسلين } [ الشعراء : 123 ] .
ومعنى اتباع الآمر : طاعة ما يأمرهم به ، فالاتّباع تمثيل للعمل بما يملى على المتبع ، لأنّ الآمر يشبه الهادي للسائر في الطريق ، والممتثلَ يشبه المتبع للسائر .
والجبار : المتكبّر . والعنيد : مبالغة في المعاندة . يقال : عند مثلث النون إذا طغى ، ومن كان خلقه التجبّر ، والعنود لا يأمر بخير ولا يدعو إلاّ إلى باطل ، فدلّ اتّباعهم أمر الجبابرة المعاندين على أنّهم أطاعوا دعاة الكفر والضلال والظلم .
و { كل } من صيغ العموم ، فإنْ أريد كلّ جبار عنيد من قومهم فالعموم حقيقي ، وإنْ أريد جنس الجبابرة ف { كلّ } مستعملة في الكثرة كقول النابغة :
ومنه قوله تعالى : { يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامرٍ } في سورة [ الحج : 27 ] .
وإتْباع اللعنة إيّاهم مستعار لإصابتها إيّاهم إصابة عاجلة دون تأخير كما يتبع الماشي بمن يلحقه . وممّا يزيد هذه الاستعارة حسناً ما فيها من المشاركة ومن مماثلة العقاب للجرم لأنّهم اتّبعوا الملعونين فأتبعوا باللّعنة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.