ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن ، ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه القرآن ، ودعا إليه الناس فقال : { وَمَا صَاحِبُكُمْ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { بِمَجْنُونٍ } كما يقوله أعداؤه المكذبون برسالته ، المتقولون عليه من الأقوال ، التي يريدون أن يطفئوا بها ما جاء به ما شاءوا وقدروا عليه ، بل هو أكمل الناس عقلا ، وأجزلهم رأيا ، وأصدقهم لهجة .
فهذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه ، فأما الرسول الذي حمله إليكم فهو( صاحبكم ) . . عرفتموه حق المعرفة عمرا طويلا . فما لكم حين جاءكم بالحق تقولون فيه ما تقولون . وتذهبون في أمره المذاهب ، وهو( صاحبكم )الذي لا تجهلون . وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن يقين :
( وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين . وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون ? إن هو إلا ذكر للعالمين ) . .
ولقد قالوا عن النبي الكريم الذي يعرفونه حق المعرفة ، ويعرفون رجاحة عقله ، وصدقه وأمانته وتثبته ، قالوا عنه : إنه مجنون .
وإن شيطانا يتنزل عليه بما يقول . قال بعضهم هذا كيدا له ولدعوته كما وردت بذلك الأخبار . وقاله بعضهم عجبا ودهشة من هذا القول الذي لا يقوله البشر فيما يألفون ويعهدون . وتمشيا مع ظنهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالقول الفريد . وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد . وأن الشيطان يمس بعض الناس فينطق على لسانهم بالقول الغريب ! وتركوا التعليل الوحيد الصادق ، وهو أنه وحي وتنزيل من رب العالمين .
فجاء القرآن يحدثهم في هذا المقطع من السورة عن جمال الكون البديع ، وحيوية مشاهده الجميلة . ليوحي إلى قلوبهم بأن القرآن صادر عن تلك القدرة المبدعة ، التي أنشأت ذلك الجمال . على غير مثال . وليحدثهم بصفة الرسول الذي حمله ، والرسول الذي بلغه . وهو صاحبهم الذي عرفوه . غير مجنون . والذي رأى الرسول الكريم - جبريل - حق الرؤية ، بالأفق المبين الواضح الذي تتم فيه الرؤية عن يقين . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] لمؤتمن على الغيب ، لا تظن به الظنون في خبره الذي يرويه عنه ، فما عرفوا عنه إلا الصدق واليقين . ( وما هو بقول شيطان رجيم )فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم .
عطف على جملة : { إنه لقول رسول كريم } [ التكوير : 19 ] فهو داخل في خبر القَسَم جواباً ثانياً عن القَسَم ، والمعنى : وما هو ( أي القرآن ) بقول مجنون كما تزعمون ، فبعد أن أثنى الله على القرآن بأنه قول رسول مُرسَلٍ من الله وكان قد تضمن ذلك ثناءً على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فيما بلغه عَن الله تعالى ، أعقبه بإبطال بهتان المشركين فيما اختلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم : { معلّم مجنون } [ الدخان : 14 ] وقولهم : { افترى على اللَّه كذباً أم به جنة } [ سبأ : 8 ] ، فأبطل قولهم إبطالاً مؤكداً ومؤيداً ، فتأكيده بالقَسم وبزيادة الباء بعد النفي ، وتأييده بما أومأ إليه وصفه بأن الذي بلّغه صاحِبُهم ، فإن وصف صاحب كناية عن كونهم يعلمون خُلقه وعقلَه ويعلمون أنه ليس بمجنون ، إذ شأن الصاحب أن لا تَخفى دقائقُ أحواله على أصحابه .
والمعنى : نفي أن يكون القرآن من وساوس المجانين ، فسلامة مُبَلِّغِه من الجنون تقتضي سلامة قوله عن أن يكون وَسْوَسَة .
ويجري على ما تقدم من القول بأن المراد ب { رسول كريم } [ التكوير : 19 ] النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون قوله : { صاحبكم } هنا إظهاراً في مقام الإِضمار للتعريض بأنه معروف عندهم بصحة العقل وأصالة الرأي .
والصاحب حقيقته : ذو الصحبة ، وهي الملازمة في أحوال التجمع والانفراد للمؤانسة والموافقة ، ومنه قيل للزوج : صاحبةٌ وللمسافر مع غيره صاحبٌ ، قال امرؤ القيس :
بَكَى صاحبي لَمَّا رأي الدَّرْبَ دونَه
وقال تعالى حكاية عن يوسف : { يا صاحبي السجن } [ يوسف : 39 ] ، وقال الحريري في « المقامة الحادية والعشرين » : « ولا لَكم مني إلا صُحْبَة السفينة » .
وقد يتوسعون في إطلاقه على المخالِط في أحوال كثيرة ولو في الشر ، كقول الحجاج يخاطب الخوارج : « ألسْتُم أصحابي بالأهواز حينَ رمتم الغدر ، واستبطنتم الكفر » . وقول الفضل اللّهبِي :
كلّ له نيَّة في بُغْضضِ صاحبه *** بنعمةِ اللَّه نَقْلِيكم وتَقْلُونا
والمعنى : أن الذي تخاصمونه وتكذبونه وتصفونه بالجنون ليس بمجنون وأنكم مخالطوه وملازموه وتعلمون حقيقته فما قولكم عليه : « إنه مجنون » إلا لقصد البهتان وإساءة السمعة .
فهذا موقع هذه الجملة مع ما قبلها وما بعدها ، والقصد من ذلك إثبات صدق محمد صلى الله عليه وسلم ولا يخطر بالبال أنها مسوقة في معرض الموازنة والمفاضلة بين جبريل ومحمد عليهما السلام والشهادة لهما بمزاياهما حتى يشم من وفرة الصفات المجراة على جبريل أنه أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم .
ولا أن المبالغة في أوصاف جبريل مع الاقتصاد في أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم تؤذن بتفضيل أولهما على الثاني .
ومن أسمج الكلام وأضعف الاستدلال قول صاحب « الكشاف » : « وناهيك بهذا دليلاً على جلالة مكانة جبريل عليه السلام ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم إذا وازنت بين الذِّكْرين وقايست بين قوله : { إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين } [ التكوير : 19 ، 20 ] ، وبين قوله : { وما صاحبكم بمجنون } اه .
وكيف انصرف نظرُه عن سياق الآية في الرد على أقوال المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقولوا في جبريل شيئاً لأن الزمخشري رام أن ينتزع من الآية دليلاً لمذهب أصحاب الاعتزال من تفضيل الملائكة على الأنبياء ، وهي مسألة لها مجال آخر ، على أنك قد علمتَ أن الصفات التي أجريت على { رسول في قوله تعالى : { إنه لقول رسول كريم } إلى قوله : { أمين } [ التكوير : 19 21 ] ، غيرُ متعين انصرافُها إلى جبريل فإنها محتملة الانصراف إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقد يطغى عليه حب الاستدلال لعقائد أهل الاعتزال طغياناً يرمي بفهمه في مهاوي الضَّآلة ، وهل يسمح بال ذي مسكة من علم بمجاري كلام العقلاء أن يتصدى متصد لبيان فضل أحد بأن ينفي عنه أنه مجنون ، وهذا كله مبني على تفسير : { رسول كريم } بجبريل فأما إن أريد به محمد صلى الله عليه وسلم أوْ هو وجبريل عليهما السلام فهذا مقتلَع من جذره .
ولا يخفى أن العدول عن اسم النبي العَلَم إلى { صاحبكم } لما يؤذن به { صاحبكم } من كونهم على علم بأحواله ، وأما العدول عن ضميره إن كان المراد ب { رسول } خصوص النبي صلى الله عليه وسلم فمن الإظهار في مقام الإِضمار للوجه المذكور وإذا أريد ب { رسول } كلاهما فذكر { صاحبكم } لتخصيص الكلام به .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.