تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجۡنُونٖ} (22)

الآية 22 وقوله تعالى : { وما صاحبكم بمجنون } فمنهم من يقول : إن الكفرة نسبوه إلى الجنون حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل على صورته ، فغشي عليه ، وكان يتغير في كل مرة يأتي بها{[23196]} جبرائيل عليه الصلاة والسلام ، بالوحي{[23197]} لون وجهه ، فينسبونه إلى الجنون لهذا .

ومنهم من يقول : إنما نسبوه إلى الجنون لأنه أظهر المخالفة لأهل الأرض ، وكان في الأرض الجبابرة والفراعنة الذين من عادتهم القتل والتعذيب لمن أظهر الخلاف لهم ، فكان ذلك منه مخاطرة بنفسه وروحه حين{[23198]} انتصب لمعاداة من لا طاقة له بهم [ ومن قام بخلاف من لا طاقة به ]{[23199]} وانتصب لمعاداته ، فذلك منه حمق وجنون في الشاهد ، نسبوه إلى الجنون لهذا .

ومنهم من ذكر أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لما ذكرنا ، ولكن شدة سفههم [ هي التي حملتهم ]{[23200]} على هذا ، فنسبوه إلى الجنون مرة وإلى أنه ساحر أخرى ، ومرة قالوا : { إنما يعلمه بشر } [ النحل : 103 ] ومرة قالوا : { إن هذا إلا اختلاق } [ ص : 7 ] فكانوا ينسبونه إلى كل ما ذكرنا لا عن بحث منهم في حاله ولكن على السفه والعناد .

ألا ترى أنهم ينسبونه إلى الجنون مرة وإلى السحر ثانيا ، وهما أمران متناقضان ، لأن الساحر ، هو الذي بلغ في العلم غايته ، والجنون ، هو النهاية في الجهل ؟ ولو كانوا يقولونه عن بحث وتدبر لكانوا لا يأتون بالمختلف من القول ، فيظهر جهلهم لمن يريدون صده عن إتباع النبي صلى الله عليه وسلم بل كانوا يتفقون على كلمة واحدة ، فيصدون عنها حتى يقع التلبيس منهم موقعه ، فيصلون إلى مرادهم من صد الناس عن إتباع النبي صلى الله عليه وسلم .

وكذلك في ما زعموا أنه { يعلمه بشر } [ النحل : 103 ] وأنه { إلا إفك افتراه } [ الفرقان : 4 ] أتوا بالمختلف من القول لأن اختلافه / 628 – ب/ وافتراءه يثبت أنه عالم بنفسه مستغن عن تعليم غيره ، وحاجته إلى أن يتعلم من غيره تثبت عجزه وجهله عن الاختلاف بنفسه .

فهذا كله يدل على أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لأعلام ظهرت لهم ، ولكن قرفوه بكل ما حضرهم سفها منهم وعنادا .

ثم إن كانوا نسبوه إلى الجنون لما غشي عليه عندما رأى جبرائيل عليه الصلاة والسلام ، على صورته ، فقد أتاهم بما لو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس بصاحبهم جنة كما قال الله تعالى : { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة } [ سبإ : 46 ] وذلك أنه{[23201]} أتاهم بحكمة أعجزت{[23202]} حكماء الإنس والجن عن إتيان مثلها{[23203]} ، وأتاهم بكتاب عجز أهل الكتاب عن إتيان مثله .

فلو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس من فعل المجانين ولا من علومهم ، ولكنه من عند الله ، أكرم به ، وإن كانوا بما نسبوه إلى الجنون لما خاطر بروحه ، فهم بحمد الله تعالى لم يتهيأ لهم أن يمكروا به ولا أن يقتلوه ، بل أظفره الله عليهم ، وأظهره على الدين كله ، فصار ذلك الوجه الذي به نسبوه إلى الجنون آية رسالته وعلم نبوته .


[23196]:في الأصل وم: به.
[23197]:من م ، في الأصل الوحي.
[23198]:في الأصل وم: حيث.
[23199]:من م، ساقطة من الأصل.
[23200]:في الأصل وم : هو الذي حملهم .
[23201]:في الأصل وم: أنهم.
[23202]:في الأصل وم: أعجز.
[23203]:في الأصل وم: مثله.