{ 56 - 58 } { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ * قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } لهؤلاء المشركين الذين يدعون مع الله آلهة أخرى : { إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } من الأنداد والأوثان ، التي لا تملك نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، فإن هذا باطل ، وليس لكم فيه حجة بل ولا شبهة ، ولا اتباع الهوى الذي اتباعه أعظم الضلال ، ولهذا قال { قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا } أي : إن اتبعت أهواءكم { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } بوجه من الوجوه . وأما ما أنا عليه ، من توحيد الله وإخلاص العمل له ، فإنه هو الحق الذي تقوم عليه البراهين والأدلة القاطعة .
( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . قل لا أتبع أهواءكم . قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين . . قل إني على بينة من ربي - وكذبتم به - ما عندي ما تستعجلون به . إن الحكم إلا لله يقص الحق ، وهو خير الفاصلين . قل : لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ، والله أعلم بالظالمين ) . .
تحتشد هذه الموجة بالمؤثرات الموحية ، التي تتمثل في شتى الإيقاعات التي تواجه القلب البشري بحقيقة الألوهية في شتى مجاليها . . ومن بين هذه المؤثرات العميقة ، ذلك الإيقاع المتكرر : " قل . . قل . . قل . . " خطابا لرسول الله [ ص ] ليبلغ عن ربه ، ما يوحيه إليه ؛ وما لا يملك غيره ؛ ولا يتبع غيره ؛ ولا يستوحي غيره :
( قل : إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . قل : لا أتبع أهواءكم . قد ضللت إذا ، وما أنا من المهتدين ) . .
يأمر الله - سبحانه - رسوله [ ص ] ، أن يواجه المشركين بأنه منهي من ربه عن عبادة الذين يدعونهم من دون الله ويتخذونهم أندادا لله . . ذلك أنه منهي عن اتباع أهوائهم - وهم إنما يدعون الذين يدعون من دون الله عن هوى لا عن علم ، ولا عن حق - وأنه إن يتبع أهواءهم هذه يضل ولا يهتدي . فما تقوده أهواؤهم وما تقودهم إلا إلى الضلال .
يأمر الله - سبحانه - نبيه [ ص ] أن يواجه المشركين هذه المواجهة ، وأن يفاصلهم هذه المفاصلة ، كما أمره من قبل في السورة بمثل هذا وهو يق 1 ( أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ؟ قل : لا أِشهد . قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون . .
ولقد كان المشركون يدعون رسول الله [ ص ] أن يوافقهم على دينهم ، فيوافقوه على دينه ! وأن يسجد لآلهتم فيسجدوا لإلهه ! كأن ذلك يمكن أن يكون ! وكأن الشرك والإسلام يجتمعان في قلب ! وكأن العبودية لله يمكن أن تقوم مع العبودية لسواه ! وهو أمر لا يكون أبدا . فالله أغنى الشركاء عن الشرك وهو يطلب من عباده أن يخلصوا له العبودية ؛ ولا يقبل منهم عبوديتهم له إذا شابوها بشيء من العبودية لغيرة . . في قليل أو كثير . .
ومع أن المقصود في الآية أن يواجههم رسول الله [ ص ] بأنه منهي عن عبادة أي مما يدعون ويسمون من دون الله ، فإن التعبير ب( الذين )في قوله تعالى :
( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ) . .
يستوقف النظر . فكلمة الذين تطلق على العقلاء . ولو كان المقصود هي الأوثان ، والأصنام ، وما إليها لعبر ب " ما " بدل( الذين ) . . فلا بد أن يكون المقصود بالذين نوعا آخر - مع الأصنام والأوثان وما إليها - نوعا من العقلاء الذين يعبر عنهم بالاسم الموصول : ( الذين )فغلب العقلاء ، ووصف الجميع بوصف العقلاء . . وهذا الفهم يتفق مع الواقع من جهة ؛ ومع المصطلحات الإسلامية في هذا المقام من جهة :
فمن جهة الواقع نجد أن المشركين ما كانوا يشركون بالله الأصنام والأوثان وحدها . ولكن كانوا يشركون معه الجن والملائكة والناس . . وهم ما كانوا يشركون الناس إلا في أن يجعلوا لهم حق التشريع للمجتمع وللأفراد . حيث يسنون لهم السنن ، ويضعون لهم التقاليد ؛ ويحكمون بينهم في منازعاتهم وفق العرف والرأي . .
وهنا نصل إلى جهة المصطلحات الإسلامية . . فالإسلام يعتبر هذا شركا ؛ ويعتبر أن تحكيم الناس في أمور الناس تأليه لهم ؛ وجعلهم أندادا من دون الله . . وينهى الله عنه نهيه عن السجود للأصنام والأوثان ؛ فكلاهما في عرف الإسلام سواء . . شرك بالله ، ودعوة أنداد من دون الله !
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُلْ لاّ أَتّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم من قومك ، العادلين به الأوثان والأنداد ، الذين يدعونك إلى موافقتهم على دينهم وعبادة الأوثان : إن الله نهاني أن أعبد الذين تدعون من دونه ، فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من ذلك ولا أوافقكم عليه ، ولا أعطيكم محبتكم وهواكم فيه ، وإن فعلت ذلك فقد تركت محجة الحقّ وسلكت على غير الهدى ، فصرت ضالاّ مثلكم على غير استقامة . وللعرب في «ضللت » لغتان : فتح اللام وكسرها ، واللغة الفصيحة المشهورة هي فتحها ، وبها قرأ عامة قراء الأمصار ، وبها نقرأ لشهرتها في العرب وأما الكسر فليس بالغالب في كلامها والقراء بها قليلون ، فمن قال ضَلَلْتُ قال أضِلّ ، ومن قال ضَلِلْتُ قال في المستقبل أَضَلّ ، وكذلك القراءة عندنا في سائر القرآن : وقالوا أئِذا ضَلَلْنا بفتح اللام .
أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يجاهرهم بالتبري مما هم فيه و { أن أعبد } هو بتأويل المصدر ، والتقدير :«عن عبادة » ، ثم حذف الجار فتسلط الفعل ثم وضع { أن أعبد } موضع المصدر ، وعبر عن الأصنام ب { الذين } على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل ، و { تدعون } معناه تعبدون ، ويحتمل أن يريد تدعون في أموركم وذلك من معنى العبادة واعتقادها آلهة وقرأ جمهور الناس «قد ضلَلت » بفتح اللام ، قرأ يحيى بن وثاب وأبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف «ضلِلت » بكسرها ، وهما لغتان و { إذاً } في هذا الموضع متوسطة وما بعدها معتمد على ما قبلها فهي غير عاملة إلا أنها تتضمن معنى الشرط فهي بتقدير إن فعلت ذلك ف { أهواء } جمع هوى وهو الإرادة والمحبة في المرديات من الأمور هذا غالب استعمال الهوى وقد تقدم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله} من الآلهة، {قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين} إن اتبعت أهواءكم، وذلك حين دعي إلى دين آبائه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم من قومك، العادلين به الأوثان والأنداد، الذين يدعونك إلى موافقتهم على دينهم وعبادة الأوثان: إن الله نهاني أن أعبد الذين تدعون من دونه، فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من ذلك ولا أوافقكم عليه، ولا أعطيكم محبتكم وهواكم فيه، وإن فعلت ذلك فقد تركت محجة الحقّ وسلكت على غير الهدى، فصرت ضالاّ مثلكم على غير استقامة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
معناه -واللَّه أعلم -: إني نهيت بما أكرمت من العقل واللب أن أعبد الذين تعبدون من دون اللَّه.
أو يقول: إني نهيت بما أكرمت من الوحي والرسالة أن أعبد الذين تدعون من دون اللَّه.
(قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) ثم أخبر أن ما يعبدون هم من دون اللَّه إنما يعبدونه اتباعًا لهوى أنفسهم، وأن ما يعبده هو ليس يتبع هوى نفسه، ولكن إنما يتبع الحجة والسمع وما يستحسنه العقل؛ ألا ترى أنه قال (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي: على حجة من ربي يخبر أن ما يعبده هو يعبده اتباعًا للحجة والعقل، وما يعبدون اتباعًا لهوى أنفسهم، وما يُتبع بالهوى يجوز أن يُترك اتباعه ويتبع غيره لما تهوى نفسه هذا ولا تهوى الأول، وأما ما يتبع بالحجة والسمع وما يستحسنه العقل فإنه لا يجوز أن يترك اتباعه ويتبع غيره، وفيه تعريض بسفههم؛ لأنه قال (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي: لو اتبعت هواكم لضللت أنا، وأنتم إذا اتبعتم أهواءكم لعبادتكم غير اللَّه ضلال ولستم من المهتدين؛ فهو تعريض بالتسفيه لهم والشتم منه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وروى أبو العالية أن النبي (صلى الله عليه وآله) قرأ هذه الآية عند الكعبة وأظهر لهم المفارقة. وهذه الآية فيها خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) وأمر له بأن يقول للكافرين: إن الله قد نهاني أن أعبد هذه الأوثان التي تعبدونها من دون الله وتدعونها آلهة وأنها تقربكم إلى الله زلفى، وأن يقول لهم إني لا أتبع أهواءكم في عبادة الأوثان، وإني لو فعلت ذلك لكنت قد ضللت عن الصواب، وبعدت عن الرشد ولم أكن من المهتدين إلى الخير والصلاح. ومعناه معنى الشرط وتقديره قد ضللت إن عبدتها. وقال الزجاج:"وما أنا من المهتدين" أي وما أنا من النبيين الذين سلكوا طريق الهدى.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{قل لا أتبع أهواءكم} أي إنما عبدتموها على طريق الهوى لا على طريق البرهان فلا أتبعكم على هواكم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{نُهِيتُ} صرفت وزجرت، بما ركب فيّ من أدلة العقل، وبما أوتيت من أدلة السمع عن عبادة ما تعبدون {مِن دُونِ الله}، وفيه استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة. {قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} أي لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل، وهو بيان للسبب الذي منه وقعوا في الضلال، وتنبيه لكل من أراد إصابة الحق ومجانبة الباطل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يجاهرهم بالتبري مما هم فيه، و {أن أعبد} هو بتأويل المصدر، والتقدير:عن عبادة. وعبر عن الأصنام ب {الذين} على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل، و {تدعون} معناه تعبدون، ويحتمل أن يريد تدعون في أموركم، وذلك من معنى العبادة واعتقادها آلهة... {أهواء} جمع هوى، وهو الإرادة والمحبة في المُردِيات من الأمور، هذا غالب استعمال الهوى.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة ما يدل على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين، ذكر في هذه الآية أنه تعالى نهى عن سلوك سبيلهم. فقال: {قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله}، وبين أن الذين يعبدونها إنما يعبدونها بناء على محض الهوى والتقليد، لا على سبيل الحجة والدليل، لأنها جمادات وأحجار، وهي أخس مرتبة من الإنسان بكثير، وكون الأشرف مشتغلا بعبادة الأخس أمر يدفعه صريح العقل. وأيضا أن القوم كانوا ينحتون تلك الأصنام ويركبونها، ومن المعلوم بالبديهة أنه يقبح من هذا العامل الصانع أن يعبد معموله ومصنوعه. فثبت أن عبادتها مبنية على الهوى. ومضادة للهدى، وهذا هو المراد من قوله {قل لا أتبع أهواءكم}. ثم قال: {قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين} أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من المهتدين في شيء. والمقصود كأنه يقول لهم أنتم كذلك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان محط حالهم في السؤال طرد الضعفاء قصد اتباع أهوائهم، أمره تعالى بأن يخبرهم أنه مباين لهم -لما بين له بالبيان الواضح من سوء عاقبة سبيلهم- مباينة لا يمكن معها اتباع أهوائهم، وهي المباينة في الدين فقال: {قل إني نهيت} أي ممن له الأمر كله {أن أعبد الذين تدعون} أي تعبدون بناء منكم على محض الهوى والتقليد في أعظم أصول الدين، وحقر أمرهم وبين سفول رتبتهم بقوله: {من دون الله} أي الذي لا أعظم منه، فقد وقعتم في ترك الأعظم ولزوم الدون الذي هو دونكم في أعظم الجهل المؤذن بعمى القلب مع الكفر بالمحسن، فمباينتي مبناها على المقاطعة، فكيف تطمع في متابعة! ثم أكد ذلك بأمر آخر دال على أنه لا شبهة لهم في عبادتهم فقال: {قل لا أتبع أهواءكم} أي عوضاً عما أنا عليه من الحكمة البالغة المؤيدة بالبراهين الساطعة والأدلة القاطعة.
ولما كان من المعلوم أن الهوى لا يدعو إلى هدى، بل إلى غاية الردى، حقق ما أفهمته هذه الجملة بقوله: {قد ضللت إذاً} أي إذا اتبعت أهواءكم؛ ولما كان الضال قد يرجع، بين أن هذا ليس كذلك، لعراقتهم في الضلال، فقال معبراً بالجملة الاسمية الدالة على الثبات: {وما أنا} أي إذ ذاك على شيء من الهداية لأعد {من المهتدين}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"هذه الموجه عودة إلى" "حقيقة الألوهية" "بعد بيان ""حقيقية الرسالة وحقيقة الرسول"" في الموجة السابقة لها في السياق المتلاحم؛ وبعد استبانة سبيل المجرمين واستبانة سبيل المؤمنين -كما ذكرنا ذلك في نهاية الفقرة السابقة. وحقيقة الألوهية في هذه الموجة تتجلى في مجالات شتى؛ نجملها هنا- قبل تفصيلها في استعراض النصوص القرآنية: تتجلى في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجد في نفسه بينة من ربه، هو منها على يقين، لا يزعزعه تكذيب المكذبين. ومن ثم يخلص نفسه لربه، ويفاصل قومه مفاصلة المستيقن من ضلالهم يقينه من هداه (قل:إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله. قل:لا أتبع أهواءكم، قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. قل:إني على بينة من ربي وكذبتم به. ما عندي ما تستعجلون به، إن الحكم إلا الله، يقص الحق وهو خير الفاصلين).. وتتجلى في حلم الله على المكذبين، وعدم استجابته لاقتراحاتهم أن ينزل عليهم خارقة مادية حتى لا يعجل لهم بالعذاب عند تكذيبهم بها -كما جرت سنته تعالى- وهو قادر عليه. ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك هذا الذي يستعجلون به، ما أمسكه عنهم، ولضاقت بشريته بهم وبتكذيبهم. فإمهالهم هذا الإمهال هو مظهر من مظاهر حلم الله ورحمته، كما أنها مجال تتجلى فيه ألوهيته: (قل:لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم، والله أعلم بالظالمين).. وتتجلى في علم الله بالغيب؛ وإحاطة هذا العلم بكل ما يقع في هذا الوجود؛ في صورة لا تكون إلا لله؛ ولا يصورها هكذا إلا الله: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها. ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).. وتتجلى في هيمنة الله على الناس وقهره للعباد في كل حالة من حالاتهم، في النوم والصحو، في الموت والحياة، في الدنيا والآخرة: (وهو الذي يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار، ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى، ثم إليه مرجعكم، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون. وهو القاهر فوق عباده، ويرسل عليكم حفظة،حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا، وهم لا يفرطون. ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق. ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين). وتتجلى في فطرة المكذبين أنفسهم، حين يواجهون الهول؛ فلا يدعون إلا الله لرفعه عنهم.. ثم هم مع ذلك يشركون، وينسون أن الله، الذي يدعونه لكشف الضر، قادر على أن يذيقهم ألوان العذاب فلا يدفعه عنهم أحد: (قل:من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية:لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين؟ قل:الله ينجيكم منها ومن كل كرب، ثم أنتم تشركون. قل:هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم، أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض. انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) "
يأمر الله -سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يواجه المشركين هذه المواجهة، وأن يفاصلهم هذه المفاصلة، كما أمره من قبل في السورة بمثل هذا: (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل: لا أِشهد. قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون. ولقد كان المشركون يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوافقهم على دينهم، فيوافقوه على دينه! وأن يسجد لآلهتهم فيسجدوا لإلهه! كأن ذلك يمكن أن يكون! وكأن الشرك والإسلام يجتمعان في قلب! وكأن العبودية لله يمكن أن تقوم مع العبودية لسواه! وهو أمر لا يكون أبدا. فالله أغنى الشركاء عن الشرك، وهو يطلب من عباده أن يخلصوا له العبودية؛ ولا يقبل منهم عبوديتهم له إذا شابوها بشيء من العبودية لغيرة.. في قليل أو كثير.. ومع أن المقصود في الآية أن يواجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه منهي عن عبادة أي مما يدعون ويسمون من دون الله، فإن التعبير ب (الذين) في قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله).. يستوقف النظر. فكلمة الذين تطلق على العقلاء. ولو كان المقصود هي الأوثان والأصنام، وما إليها لعبر ب "ما" بدل (الذين).. فلا بد أن يكون المقصود بالذين نوعا آخر -مع الأصنام والأوثان وما إليها- نوعا من العقلاء الذين يعبر عنهم بالاسم الموصول: (الذين) فغلب العقلاء، ووصف الجميع بوصف العقلاء.. وهذا الفهم يتفق مع الواقع من جهة؛ ومع المصطلحات الإسلامية في هذا المقام من جهة: فمن جهة الواقع نجد أن المشركين ما كانوا يشركون بالله الأصنام والأوثان وحدها. ولكن كانوا يشركون معه الجن والملائكة والناس.. وهم ما كانوا يشركون الناس إلا في أن يجعلوا لهم حق التشريع للمجتمع وللأفراد. حيث يسنون لهم السنن، ويضعون لهم التقاليد؛ ويحكمون بينهم في منازعاتهم وفق العرف والرأي.. وهنا نصل إلى جهة المصطلحات الإسلامية.. فالإسلام يعتبر هذا شركا؛ ويعتبر أن تحكيم الناس في أمور الناس تأليه لهم؛ وجعلهم أندادا من دون الله..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى إبطال الشرك بالتبرّي من عبادة أصنامهم فإنَّه بعد أن أبطل إلهية الأصنام بطريق الاستدلال من قوله {قل أغير الله أتّخذ وليّاً} [الأنعام: 14] الآية. وقوله: {قُلْ أرَأيْتكُم إنْ أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة} [الأنعام: 40] الآية وقوله: {قل أرأيتُم إنْ أخَذَ الله سمعكم وأبصاركم} [الأنعام: 46] الآية. جاء في هذه الآية بطريقة أخرى لإبطال عبادة الأصنام وهي أنّ الله نهى رسوله عليه الصلاة والسلام عن عبادتها وعن اتّباع أهواء عبدتها.
وبُني {نُهيت} على صيغة المجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهور المراد، أي نهاني الله. وهو يتعدّى بحرف (عن) فحذف الحرف حذفاً مطّرداً مع (أنْ).
وأجري على الأصنام اسم الموصول الموضوع للعقلاء لأنَّهم عاملوهم معاملة العقلاء فأتى لهم بما يحكي اعتقادهم، أو لأنَّهم عبدوا الجنّ وبعض البشر فغُلِّب العُقلاء من معبوداتهم.
ومعنى {تدعون} تعبدون وتَلْجئُون إليهم في المهمّات، أي تدعونهم. و {مِن دون الله} حال من المفعول المحذوف، فعامِلُه {تدعون}. وهو حكاية لما غلب على المشركين من الاشتغال بعبادة الأصنام ودعائهم عن عبادة الله ودعائه، حتَّى كأنَّهم عبدوهم دون الله، وإن كانوا إنّما أشركوهم بالعبادة مع الله ولو في بعض الأوقات. وفيه نداء عليهم باضطراب عقيدتهم إذْ أشركوا مع الله في العبادة من لا يستحقّونها مع أنَّهم قائلون بأنّ الله هو مالك الأصنام وجاعلها شفعاء لكن ذلك كالعدم لأنّ كلّ عبادة توجَّهُوا بها إلى الأصنام قد اعتدوا بها على حقّ الله في أن يَصْرفوها إليه.
وجملة {قل لا أتَّبع أهواءكم} استئناف آخر ابتدائي، وقد عدل عن العطف إلى الاستئناف ليكون غرضاً مستقلاً. وأعيد الأمر بالقول زيادة في الاهتمام بالاستئناف واستقلاله ليكون هذا النفي شاملاً للاتِّباع في عبادة الأصنام وفي غيرها من ضلالتهم كطلب طرد المؤمنين عن مجلسه.
والأهواء جمع هَوى، وهو المحبَّة المفرطة. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {ولئن اتَّبعتَ أهواءهم} في سورة [البقرة: 120]. وإنَّما قال: {لا أتَّبع أهواءكم} دون لا أتَّبعكم للإشارة إلى أنَّهم في دينهم تابعون للهوى نابذون لدليل العقل. وفي هذا تجهيل لهم في إقامة دينهم على غير أصل متين.
وجملة {قد ضللت إذا} جواب لشرط مقدّر، أي إنْ اتَّبعتُ أهواءكم إذَنْ قد ضللتُ. وكذلك موقع (إذَنْ) حين تدخل على فعل غير مستقبل فإنَّها تكون حينئذٍ جواباً لشرط مقدّر مشروط ب (إنْ) أوْ (لوْ) مُصرّح به تارة...
... ومقدّرٍ أخرى كهذه الآية، وكقوله تعالى: {وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91].
وتقديم جواب (إذن) على (إذَنْ) في هذه الآية للاهتمام بالجواب. ولذلك الاهتمام أكّد ب {قد} مع كونه مفروضاً وليس بواقع، للإشارة إلى أنّ وقوعه محقّق لو تحقّق الشرط المقدّر الذي دلّت عليه (إذَنْ).
وقوله: {وما أنا من المهتدين} عطف على {قد ضَلَلْتُ}، عطف عليه للدلالة على أنَّه جزاء آخر للشرط المقدّر، فيدلّ على أنَّه إن فعل ذلك يخرج عن حاله التي هو عليها الآن من كونه في عداد المهتدين إلى الكون في حالة الضلال، وأفاد مع ذلك تأكيد مضمون جملة {قد ضللت} لأنَّه نفَى عن نفسه ضدّ الضلال فتقرّرت حقيقة الضلال على الفرض والتقدير.
وتأكيد الشيء بنفي ضدّه طريقة عربية قد اهتديتُ إليها ونبَّهت عليها عند قوله تعالى: {قد ضلّوا وما كانوا مُهتدين} في هذه السورة [140]. ونظيره قوله تعالى: {وأضلّ فرعون قومه وما هدى} [طه: 79].
وقد أتي بالخبر بالجار والمجرور فقيل: {من المهتدين} ولم يقل: وما أنا مهتد، لأنّ المقصود نفي الجملة التي خبرها {من المهتدين}، فإنّ التعريف في {المهتدين} تعريف الجنس، فإخبار المتكلم عن نفسه بأنّه من المهتدين يفيد أنَّه واحد من الفئة التي تُعرف عند الناس بفئة المهتدين، فيفيد أنَّه مهتد إفادة بطريقة تشبه طريقة الاستدلال.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
جملة «نُهيتُ» التي وردت بصيغة الماضي ومبنية للمجهول تشير إِلى أنّ النهي عن عبادة الأصنام ليس أمراً جديداً، بل كان دائماً قائماً وسيبقى كذلك. ثمّ بجملة (قل لا أتبع أهواءكم) يجيب بوضوح على إِصرارهم العقيم، بالنظر لأنّ عبادة الأصنام لا تتفق مع المنطق ولا مع الأدلة العقلية، لأنّ العقل يدرك بسهولة أن الإِنسان أشرف من الجماد، فكيف يمكن للإِنسان أن يخضع لأي مخلوق آخر فضلا عن المخلوق الأدنى؟