{ 56 - 58 } { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ * قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } لهؤلاء المشركين الذين يدعون مع الله آلهة أخرى : { إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } من الأنداد والأوثان ، التي لا تملك نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، فإن هذا باطل ، وليس لكم فيه حجة بل ولا شبهة ، ولا اتباع الهوى الذي اتباعه أعظم الضلال ، ولهذا قال { قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا } أي : إن اتبعت أهواءكم { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } بوجه من الوجوه . وأما ما أنا عليه ، من توحيد الله وإخلاص العمل له ، فإنه هو الحق الذي تقوم عليه البراهين والأدلة القاطعة .
( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . قل لا أتبع أهواءكم . قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين . . قل إني على بينة من ربي - وكذبتم به - ما عندي ما تستعجلون به . إن الحكم إلا لله يقص الحق ، وهو خير الفاصلين . قل : لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ، والله أعلم بالظالمين ) . .
تحتشد هذه الموجة بالمؤثرات الموحية ، التي تتمثل في شتى الإيقاعات التي تواجه القلب البشري بحقيقة الألوهية في شتى مجاليها . . ومن بين هذه المؤثرات العميقة ، ذلك الإيقاع المتكرر : " قل . . قل . . قل . . " خطابا لرسول الله [ ص ] ليبلغ عن ربه ، ما يوحيه إليه ؛ وما لا يملك غيره ؛ ولا يتبع غيره ؛ ولا يستوحي غيره :
( قل : إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . قل : لا أتبع أهواءكم . قد ضللت إذا ، وما أنا من المهتدين ) . .
يأمر الله - سبحانه - رسوله [ ص ] ، أن يواجه المشركين بأنه منهي من ربه عن عبادة الذين يدعونهم من دون الله ويتخذونهم أندادا لله . . ذلك أنه منهي عن اتباع أهوائهم - وهم إنما يدعون الذين يدعون من دون الله عن هوى لا عن علم ، ولا عن حق - وأنه إن يتبع أهواءهم هذه يضل ولا يهتدي . فما تقوده أهواؤهم وما تقودهم إلا إلى الضلال .
يأمر الله - سبحانه - نبيه [ ص ] أن يواجه المشركين هذه المواجهة ، وأن يفاصلهم هذه المفاصلة ، كما أمره من قبل في السورة بمثل هذا وهو يق 1 ( أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ؟ قل : لا أِشهد . قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون . .
ولقد كان المشركون يدعون رسول الله [ ص ] أن يوافقهم على دينهم ، فيوافقوه على دينه ! وأن يسجد لآلهتم فيسجدوا لإلهه ! كأن ذلك يمكن أن يكون ! وكأن الشرك والإسلام يجتمعان في قلب ! وكأن العبودية لله يمكن أن تقوم مع العبودية لسواه ! وهو أمر لا يكون أبدا . فالله أغنى الشركاء عن الشرك وهو يطلب من عباده أن يخلصوا له العبودية ؛ ولا يقبل منهم عبوديتهم له إذا شابوها بشيء من العبودية لغيرة . . في قليل أو كثير . .
ومع أن المقصود في الآية أن يواجههم رسول الله [ ص ] بأنه منهي عن عبادة أي مما يدعون ويسمون من دون الله ، فإن التعبير ب( الذين )في قوله تعالى :
( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ) . .
يستوقف النظر . فكلمة الذين تطلق على العقلاء . ولو كان المقصود هي الأوثان ، والأصنام ، وما إليها لعبر ب " ما " بدل( الذين ) . . فلا بد أن يكون المقصود بالذين نوعا آخر - مع الأصنام والأوثان وما إليها - نوعا من العقلاء الذين يعبر عنهم بالاسم الموصول : ( الذين )فغلب العقلاء ، ووصف الجميع بوصف العقلاء . . وهذا الفهم يتفق مع الواقع من جهة ؛ ومع المصطلحات الإسلامية في هذا المقام من جهة :
فمن جهة الواقع نجد أن المشركين ما كانوا يشركون بالله الأصنام والأوثان وحدها . ولكن كانوا يشركون معه الجن والملائكة والناس . . وهم ما كانوا يشركون الناس إلا في أن يجعلوا لهم حق التشريع للمجتمع وللأفراد . حيث يسنون لهم السنن ، ويضعون لهم التقاليد ؛ ويحكمون بينهم في منازعاتهم وفق العرف والرأي . .
وهنا نصل إلى جهة المصطلحات الإسلامية . . فالإسلام يعتبر هذا شركا ؛ ويعتبر أن تحكيم الناس في أمور الناس تأليه لهم ؛ وجعلهم أندادا من دون الله . . وينهى الله عنه نهيه عن السجود للأصنام والأوثان ؛ فكلاهما في عرف الإسلام سواء . . شرك بالله ، ودعوة أنداد من دون الله !
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُلْ لاّ أَتّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم من قومك ، العادلين به الأوثان والأنداد ، الذين يدعونك إلى موافقتهم على دينهم وعبادة الأوثان : إن الله نهاني أن أعبد الذين تدعون من دونه ، فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من ذلك ولا أوافقكم عليه ، ولا أعطيكم محبتكم وهواكم فيه ، وإن فعلت ذلك فقد تركت محجة الحقّ وسلكت على غير الهدى ، فصرت ضالاّ مثلكم على غير استقامة . وللعرب في «ضللت » لغتان : فتح اللام وكسرها ، واللغة الفصيحة المشهورة هي فتحها ، وبها قرأ عامة قراء الأمصار ، وبها نقرأ لشهرتها في العرب وأما الكسر فليس بالغالب في كلامها والقراء بها قليلون ، فمن قال ضَلَلْتُ قال أضِلّ ، ومن قال ضَلِلْتُ قال في المستقبل أَضَلّ ، وكذلك القراءة عندنا في سائر القرآن : وقالوا أئِذا ضَلَلْنا بفتح اللام .
أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يجاهرهم بالتبري مما هم فيه و { أن أعبد } هو بتأويل المصدر ، والتقدير :«عن عبادة » ، ثم حذف الجار فتسلط الفعل ثم وضع { أن أعبد } موضع المصدر ، وعبر عن الأصنام ب { الذين } على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل ، و { تدعون } معناه تعبدون ، ويحتمل أن يريد تدعون في أموركم وذلك من معنى العبادة واعتقادها آلهة وقرأ جمهور الناس «قد ضلَلت » بفتح اللام ، قرأ يحيى بن وثاب وأبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف «ضلِلت » بكسرها ، وهما لغتان و { إذاً } في هذا الموضع متوسطة وما بعدها معتمد على ما قبلها فهي غير عاملة إلا أنها تتضمن معنى الشرط فهي بتقدير إن فعلت ذلك ف { أهواء } جمع هوى وهو الإرادة والمحبة في المرديات من الأمور هذا غالب استعمال الهوى وقد تقدم .