{ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } : أي : جعل هؤلاء المشركون باللّه بين اللّه وبين الجنة نسبا ، حيث زعموا أن الملائكة بنات اللّه ، وأن أمهاتهم سروات الجن ، والحال أن الجنة قد علمت أنهم محضرون بين يدي اللّه ليجازيهم ، عبادا أذلاء ، فلو كان بينهم وبينه نسب ، لم يكونوا كذلك .
والأسطورة الأخرى . أسطورة الصلة بينه - سبحانه - وبين الجنة :
( وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً . ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ) . .
وكانوا يزعمون أن الملائكة هم بنات الله - بزعمهم - ولدتهم له الجنة ! وذلك هو النسب والقرابة ! والجن تعلم أنها خلق من خلق الله . وأنها محضرة يوم القيامة بإذن الله . وما هكذا تكون معاملة النسب والصهر !
يقول تعالى ذكره : { وجعل هؤلاء المشركون بين الله وبين الجنة نسبا } :
اختلف أهل التأويل في معنى النسب الذي أخبر الله عنهم أنهم جعلوه لله تعالى ، فقال بعضهم : هو أنهم قالوا أعداء الله : إن الله وإبليس أخوان . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وبينَ الجِنّةِ نَسَبا } : قال : زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى وإبليس أخوان .
وقال آخرون : هو أنهم قالوا : الملائكة بنات الله ، وقالوا : الجِنّة : هي الملائكة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيس وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وبينَ الجِنّةِ نَسَبا } : قال : قال كفار قريش : الملائكة بنات الله ، فسأل أبو بكر : مَنْ أمهاتهنّ ؟ فقالوا : بنات سَرَوَات الجنّ ، يحسبون أنهم خُلقِوا مما خُلق منه إبليس .
حدثنا عمرو بن يحيى بن عمران بن عفرة ، قال : حدثنا عمرو بن سعيد الأبح ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، في قوله : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وبينَ الجِنّةِ نَسَبا } : قالت اليهود : إن الله تبارك وتعالى تزوّج إلى الجنّ ، فخرج منهما الملائكة ، قال : سبحانه سبح نفسه .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وبينَ الجِنّةِ نَسَبا } : قال : الجنة : الملائكة ، قالوا : هنّ بنات الله .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبينَ الجِنّةِ نَسَبا } : الملائكة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَينَ الجِنّةِ نَسَبا } : قال : بين الله وبين الجنة نسبا افتروا .
وقوله : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنّةُ إنّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : ولقد علمت الجنة إنهم لَمُشهدون الحساب . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنّةُ إنّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } : أنها ستُحضر الحساب .
وقال آخرون : معناه : إن قائلي هذا القول سيُحضرون العذاب في النار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } : إن هؤلاء الذين قالوا هذا لمحضرون : لمعذّبون .
وأوْلى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : إنهم لمحضَرُون العذاب ، لأن سائر الاَيات التي ذكر فيها الإحضار في هذه السورة ، إنما عُنِيَ به الإحضار في العذاب ، فكذلك في هذا الموضع .
الضمير في قوله : { وجعلوا } لفرقة من كفار قريش والعرب ، قال ابن عباس في كتاب الطبري إن بعضهم قال إن الله تعالى وإبليس أخوان ، وقال مجاهد : قال قوم لأبي بكر الصديق : إن الله تعالى نكح في سروات الجن ، وقال بعضهم إن الملائكة بناته ، ف { الجنة } على هذا القول الأخير يقع على الملائكة سميت بذلك لأنها مستجنة أي مستترة ، وقوله تعالى : { ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } من جعل الجنة الشياطين جعل العلامة في { علمت } لها ، والضمير في { إنهم } عائد عليهم أي جعلوا الشياطين بنسب من الله والشياطين تعلم ضد ذلك من أنها ستحضر أمر الله وثوابه وعقابه ، ومن جعل الجنة الملائكة جعل الضمير في { إنهم } للقائلين هذه المقالة أي علمت الملائكة أن هؤلاء الكفرة سيحضرون ثواب الله وعقابه وقد يتداخل هذان القولان ، ثم نزه تعالى نفسه عما يصفه الناس ولا يليق به ، ومن هذا استثنى العباد المخلصين لأنهم يصفونه بصفاته العلى ، وقالت فرقة استثناهم من قوله { إنهم لمحضرون } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يصح على قول من رأى الجنة الملائكة .
عطف على جملة { ليقُولونَ } [ الصافات : 151 ] أي شفَّعوا قولهم : { ولَدَ الله } [ الصافات : 152 ] ، فجعلوا بين الله وبين الجنّ نسباً بتلك الولادة ، أي بينوا كيف حصلت تلك الولادة بأن جعلوها بين الله تعالى وبين الجنة نسباً .
و { الجنّة } : الجماعة من الجن ، فتأنيث اللفظ بتأويل الجماعة مثل تأنيث رَجْلَة ، الطائفة من الرجال ، ذلك لأن المشركين زعموا أن الملائكة بنات الله من سَروات الجن ، أي من فريقِ نساء من الجن من أشراف الجن ، وتقدم في قوله تعالى : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جِنة } في سورة [ الأعراف : 184 ] .
والنسب : القرابة العَمودية أو الأُفقية أي من الأطراف والكلام على حذف مضاف ، أي ذوي نسب لله تعالى وهو نسب النبوءة لزعمهم أن الملائكة بنات الله تعالى ، أي جعلوا لله تعالى نسباً للجِنّة وللجنة نسباً لله . وقوله : { بينه وبين الجِنَّة } يجوز أن يكون حالاً من { نَسَباً } أي كائناً بينه وبين الجنة ، أي أن نسبه تعالى ، أي نسله سبحانه ناشىء من بينه وبين الجن . ويجوز أن يكون متعلقاً ب { جعلوا } ، أي جعلوا في الاقتران بينه وبين الجن نسباً له ، أي جعلوا من ذلك نسباً يتولد له ، فقوله : { بينه وبين الجنة نسباً } هو كقولك : بين فلان وفلانة بنُون ، أي له منها ولها منه بنون ، وهذا المعنى هو مراد من فسره بأن جعلوا الجن أصهاراً لله تعالى ، فتفسيره النسب بالمصاهرة تفسير بالمعنى وليس المراد أن النسب يطلق على المصاهرة كما توهمه كثير ، لأن هذا الإِطلاق غير موجود في دواوين اللغة فلا تغتررْ به . ولعدم الغوص في معنى الآية ذهب من ذهب إلى أن المراد بالجنة الملائكة ، أي جعلوا بين الله وبين الملائكة نسب الأبوّة والبنوّة ، وهذا تفسير فاسد لأنه يصير قوله : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } إعادةً لما تقدم من قوله : { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله } [ الصافات : 151 - 152 ] ومن قوله : { أم خلقنا الملائِكَة إناثا وهم شاهِدونَ } [ الصافات : 150 ] .
ومن ذهب إلى أن المراد من { الجِنَّةِ } أصل الجِنّة وهو الشيطان وأن معنى الآية : أنهم جعلوا الله نسيباً للشيطان نسب الأخوة ، تعالى الله عن ذلك . على أنه إشارة إلى قول الثَّنَوية من المجوس بوجود إله للخير هو الله ، وإله للشر هو الشيطان وهم من ملل مجوس فارس وسموا إله الخير ( يَزْدَانَ ) وإله الشر ( أَهْرُمُنْ ) وقالوا : كان إله الخير وحده فخطر له خاطر في نفسه من الشر فنشأ منه إله الشر هو ( أهرمُن ) وهو ما نعاه المعري عليهم بقوله :
قال أناسٌ باطلٌ زعمهم *** فراقبــوا الله ولا تزعُمُنْ
فَكَّر ( يزدانُ ) على غِرة *** فصيغ من تفكيره ( أهرمُن )
وهذا الدين كان معروفاً عند بعض العرب في الجاهلية من عرب العراق المجاورين لبلاد فارس والخاضعين لسلطانهم ولم يكن معروفاً بين أهل مكة المخاطبين بهذه الآيات ، ولأن الجِنّة لا يشمل الشياطين إذا أطلق فإن الشيطان كان من الجن إلا أنه تميز به صنف خاص منهم .
وجملة { ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } معترضة بين جملة { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } وبين جملة { سُبحانَ الله عمَّا يصِفُونَ } [ الصافات : 159 ] و { جعلوا بينه } الخ . . . حال والواو حالية ، وضمير { أنهم } عائد إلى المشركين أو إلى الجِنة ، والوجهان مرادان فإن الفريقين معاقبان . والمحضَرون : المجلوبون للحضور ، والمراد : محضَرون للعقاب ، بقرينة مقام التوبيخ فإن التوبيخ يتبعه التهديد ، والغالب في فعل الإِحضار أن يراد به إحضار سوء قال تعالى : { ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين } [ الصافات : 57 ] ولذلك حذف متعلِّق « محضرون » ، فأما الإِتيان بأحد لإِكرامه فيطلق عليه المجيء . والمعنى : أن الجن تعلم كذب المشركين في ذلك كذباً فاحشاً يُجازَون عليه بالإِحضار للعذاب ، فجعل « محضرون » كناية عن كذبهم لأنهم لو كانوا صادقين ما عذبوا على قولهم ذلك . وظاهره أن هذا العلم حاصل للجن فيما مضى ، ولعل ذلك حصل لهم من زمان تمكنهم من استراق السمع . ويجوز أن يكون من استعمال الماضي في موضع المستقبل لتحقيق وقوعه مثل { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] ، أي ستعلم الجِنة ذلك يوم القيامة . والمقصود : أنهم يتحققون ذلك ولا يستطيعون دفع العذاب عنهم فقد كانوا يعبدون الجن لاعتقاد وجاهتهم عند الله بالصهر الذي لهم .