{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } أي : الرزق كله من الله ، فلو أمسك عنكم رزقه ، فمن الذي يرسله لكم ؟ فإن الخلق لا يقدرون على رزق أنفسهم ، فكيف بغيرهم ؟ فالرزاق المنعم ، الذي لا يصيب العباد نعمة إلا منه ، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة ، ولكن الكافرون { لَجُّوا } أي : استمروا { فِي عُتُوٍّ } أي : قسوة وعدم لين للحق { وَنُفُورٍ } أي : شرود عن الحق .
ولمسة أخرى في الرزق الذي يستمتعون به ، وينسون مصدره ، ثم لا يخشون ذهابه ، ثم يلجون في التبجح والإعراض :
( أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ? بل لجوا في عتو ونفور ) . .
ورزق البشر كله - كما سلف - معقود بإرادة الله في أول أسبابه ، في تصميم هذا الكون وفي عناصر الأرض والجو وهي أسباب لا قدرة للبشر عليها إطلاقا ، ولا تتعلق بعملهم بتاتا . فهي أسبق منهم في الوجود ، وهي أكبر منهم في الطاقة ، وهي أقدر منهم على محو كل أثر للحياة حين يشاء الله .
فمن يرزق البشر إن أمسك الماء ، أو أمسك الهواء ، أو أمسك العناصر الأولى التي منها ينشأ وجود الأشياء ? إن مدلول الرزق أوسع مدى وأقدم عهدا وأعمق جذورا مما يتبادر إلى الذهن عندما يسمع هذه الكلمة . ومرد كل صغيرة وكبيرة فيه إلى قدرة الله وقدره ، وإرساله للأسباب وإمساكها حين يشاء .
وفي هذا المدلول الكبير الواسع العميق تنطوي سائر المدلولات القريبة لكلمة الرزق ، مما يتوهم الإنسان أنها من كسبه وفي طوقه ، كالعمل ، والإبداع ، والإنتاج . . وكلها مرتبطة بقيام الأسباب والعناصر الأولى من جهة ومتوقفة على هبة الله للأفراد والأمم من جهة أخرى . فأي نفس يتنفسه العامل ، وأي حركة يتحركها ، إلا من رزق الله ، الذي أنشأه ، ومنحه المقدرة والطاقة ، وخلق له النفس الذي يتنفسه ، والمادة التي تحترق في جسده فتمنحه القدرة على الحركة ? وأي جهد عقلي يبذله مخترع إلا وهو من رزق الله الذي منحه القدرة على التفكير والإبداع ? وأي إنتاج ينتجه عامل أو مبدع إلا في مادة هي من صنع الله ابتداء ، وإلا بأسباب كونية وإنسانية هي من رزق الله أصلا ? . . ( أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ? ! ) . .
والتعبير يرسم خدا مصعرا ، وهيئة متبجحة ، بعد تقريره لحقيقة الرزق ، وأنهم عيال على الله فيه ، وأقبح العتو والنفور ، والتبجح والتصعير ، ما يقع من العيال في مواجهة المطعم الكاسي ، الرازق العائل وهم خلو من كل شيء إلا ما يتفضل به عليهم . وهم بعد ذلك عاتون معرضون وقحاء !
وهو تصوير لحقيقة النفوس التي تعرض عن الدعوة إلى الله في طغيان عات ، وفي إعراض نافر ، وتنسى أنها من صنع الله ، وأنها تعيش على فضله ، وأنها لا تملك من أمر وجودها وحياتها ورزقها شيئا على الإطلاق !
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمّنْ هََذَا الّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لّجّواْ فِي عُتُوّ وَنُفُورٍ } .
يقول تعالى ذكره : أم من هذا الذي يطعمكم ويسقيكم ، ويأتي بأقواتكم إن أمسك عنكم رزقه الذي يرزقكم .
وقوله : { بَلْ لَجّوا فِي عُتُو وَنُفُور } يقول : بل تمادوا في طغيان ونفور عن الحقّ واستكبار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : بَلْ لَجّوا فِي عُتُوّ وَنُفُورٍ يقول : في ضلال .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { بَلْ لَجّوا فِي عُتُوّ وَنُفُور } قال : كفور .
{ أمن هذا الذي يرزكم إن أمسك رزقه } .
انتقال آخر والكلام على أسلوب قوله : { أم مَن هذا الذين هو جند لكم } [ الملك : 20 ] ، وهذا الكلام ناظر إلى قوله : { وكُلوا من رزقه } [ الملك : 15 ] على طريقة اللف والنشر المعكوس .
والرزق : ما يَنتفِع به الناس ، ويطلق على المطر ، وعلى الطعام ، كما تقدم في قوله تعالى : { وَجَد عندها رزقاً } [ آل عمران : 37 ] .
وضمير { أمسَكَ } وضمير { رزقه } عائدان إلى لفظ { الرحمان الواقع في قوله : { مِن دون الرحمان } [ الملك : 20 ] .
وجيء بالصلة فعلاً مضارعاً لدلالته على التجدد لأن الرزق يقتضي التكرار إذ حاجة البشر إليه مستمرة . وكتب { أمَّن } في المصحف بصورة كلمة واحدة كما كتبت نظيرتها المتقدمة آنفاً .
استئناف بَياني وقع جواباً عن سؤال ناشىء عن الدلائل والقوارع والزواجر والعظات والعبر المتقدمة ابتداء من قوله : { الذي خلق الموت والحياة } [ الملك : 2 ] إلى هنا ، فيتجه للسائل أن يقول : لعلهم نفعت عندهم الآيات والنذر ، واعتبروا بالآيات والعِبر ، فأجيب بإبطال ظنه بأنهم لَجُّوا في عُتُوّ ونفور .
و { بل } للإضراب أو الإبطال عما تضمنه الاستفهامان السابقان أو للانتقال من غرض التعجيز إلى الإِخبار عن عنادهم .
يقال : لجّ في الخصومة من باب سمع ، أي اشتد في النزاع والخصام ، أي استمروا على العناد يكتنفهم العُتّو والنفور ، أي لا يترك مخلصاً للحق إليهم ، فالظرفية مجازية ، والعتوّ : التكبر والطغيان .
والنفور : هو الاشمئزاز من الشيء والهروب منه .
والمعنى : اشتدوا في الخصام متلبسين بالكبر عن اتباع الرسول حرصاً على بقاء سيادتهم وبالنفور عن الحق لكراهية ما يخالف أهواءهم وما ألفوه من الباطل .