ثم قال - تعالى - { واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } . أى : واستغفر الله مما هممت به من تبرئة طعمة وإدانة اليهودى ، حيث إن ظاهر الأمر يقتضى ذلك ، وهذا وإن لم يكن ذنبا . إلا أنه - سبحانه - أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار من ذلك ، لعلو مقامه على حد قول العلماء : حسنات الأبرار سيئات المقربين .
أو المعنى : واستغفر الله لهؤلاء الخائنين لكى يتوبوا إلى الله - تعالى - ببركة استغفارك لهم ، إن الله - تعالى - كان كثير المغفرة لمن تاب إليه ، وكثير الرحمة لمن آمن به واتقاه . وهذا الأمر بالاستغفار والإِنابة إلى الله موجه إلى كل مكلف فى شخص النبى صلى الله عليه وسلم
وقوله تعالى : { واستغفر الله } ذهب الطبري إلى أن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ليس بذنب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع عن الظاهر ، وهو يعتقد براءتهم ، والمعنى : استغفر للمذنبين من أمتك والمتخاصمين في الباطل ، لا أن تكون ذا جدال عنهم ، فهذا حدك ، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع ، وتستغفر للمذنب{[4275]} .
الأمرُ باستغفار الله جرى على أسلوب توجيه الخطاب إلى الرسول ، فالمراد بالأمر غيره ، أرشدهم إلى ما هو أنفع لهم وهو استغفار الله ممّا اقترفوه ، أو أراد : واستغفر الله للخائنين ليلهمهم إلى التوبة ببركة استغفارك لهم فذلك أجدر من دفاع المدافعين عنهم . وهذا نظير قوله : { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله } [ النساء : 64 ] وليس المراد بالأمر استغفار النبي لنفسه ، كما أخطأ فيه مَن تَوهَّم ذلك ، فركَّب عليه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خَطر بباله مَا أوجب أمره بالاستغفار ، وهو هَمُّه أن يجادل عن بني أبيرق ، مع علمه بأنّهم سرقوا ، خشية أن يفتضحوا ، وهذا من أفهام الضعفاء وسوء وضعهم الأخبار لتأييد سقيم أفهامهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واستغفر الله} يا محمد عن جدالك عن طعمة حين كذّبت عنه، فأبرأته من السرقة، {إن الله كان غفورا رحيما}، فاستغفر النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك،...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {واستغفر الله} ليس هو قول الناس: نستغفر الله. ولكن كأنه قال: كونوا على الحال التي تكون أعمالكم مكفرة للذنوب...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
ابن عباس قال: واستغفر الله مما هممت به من قطع يد زيد...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {واستغفر الله} ذهب الطبري إلى أن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين. وهذا ليس بذنب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع عن الظاهر، وهو يعتقد براءتهم، والمعنى: استغفر للمذنبين من أمتك والمتخاصمين في الباطل، لا أن تكون ذا جدال عنهم، فهذا حدك، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ} في الذي أمر بالاستغفار منه قولان: أحدهما: أنه القيام بعذره. والثاني: أنه العزم على ذلك...
قال الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام: دلت هذه الآية على صدور الذنب من الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه لولا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يخاصم لأجل الخائن ويذب عنه وإلا لما ورد النهي عنه.
والجواب: أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي فاعلا للمنهى عنه، بل ثبت في الرواية أن قوم طعمة لما التمسوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يذب عن طعمة وأن يلحق السرقة باليهودي توقف وانتظر الوحي فنزلت هذه الآية، وكان الغرض من هذا النهي تنبيه النبي عليه الصلاة والسلام على أن طعمة كذاب، وأن اليهودي بريء عن ذلك الجرم.
فإن قيل: الدليل على أن ذلك الجرم قد وقع من النبي عليه الصلاة والسلام قوله بعد هذه الآية {واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما} فلما أمره الله بالاستغفار دل على سبق الذنب.
والجواب من وجوه: الأول: لعله مال طبعه إلى نصرة طعمة بسبب أنه كان في الظاهر من المسلمين فأمر بالاستغفار لهذا القدر، وحسنات الأبرار سيئات المقربين. والثاني: لعل القوم لما شهدوا على سرقة اليهودي وعلى براءة طعمة من تلك السرقة ولم يظهر للرسول عليه الصلاة والسلام ما يوجب القدح في شهادتهم هم بأن يقضي بالسرقة على اليهودي، ثم لما أطلعه الله تعالى على كذب أولئك الشهود عرف أن ذلك القضاء لو وقع لكان خطأ، فكان استغفاره بسبب أنه هم بذلك الحكم الذي لو وقع لكان خطأ في نفسه وإن كان معذورا عند الله فيه. الثالث: قوله {واستغفر الله} يحتمل أن يكون المراد: واستغفر الله لأولئك الذين يذبون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته عن السرقة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وأتبع ذلك قوله: {واستغفر الله} أي الذي له الإحاطة التامة والغنى المطلق {كان} أي أزلاً وأبداً {غفوراً رحيماً} وهذا الاستغفار لا عن ذنب إذ هو منزه عن ذلك، معصوم. منه، ولكن عن مقام عال تام للارتقاء إلى أعلى منه وأتم...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
أمره بالاستغفار لزيادة الثواب وإرشاده إلى التثبت وأن ما ليس بذنب مما يكاد يعدّ حسنة من غيره إذا صدر منه عليه الصلاة والسلام بالنسبة لعظمته ومقامه المحمود يوشك أن يكون كالذنب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
واستغفر الله مما يعرض لك من شؤون البشر من نحو ميل إلى من تراه ألحن بحجته. أو الركون إلى مسلم لأجل إسلامه تحسينا للظن به، فإن ذلك قد يوقع الاشتباه، وتكون صورة صاحبه صورة من أتى الذنب الذي يوجب له الاستغفار، وإن لم يكن متعمدا للزيغ عن العدل، والتحيز إلى الخصم، فهذا من زيادة الحرص على الحق، كأن مجرد الالتفات إلى قول المخادع كاف في وجوب الاحتراس منه، وناهيك بما في ذلك من التشديد فيه.
أقول: ظاهر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم مال إلى تصديق المسلمين وإدانة اليهودي لما كان يغلب على المسلمين في ذلك العهد من الصدق والأمانة، وعلى اليهود من الكذب والخيانة، ولذلك قال العلماء في القديم والحديث إن أولئك المسلمين، لم يكونوا إلا منافقين، لأن مثل عمل طعمة وتأييد من أيده فيه لا يصدر عمدا إلا من منافق، وتبع ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ود لو يكون الفلج بالحق في الخصومة للمسلمين الذين يرجح صدقهم فأراد أن يساعدهم على ذلك ولكنه لم يفعل انتظارا لوحي الله تعالى، فعلمه الله تعالى بهذه الآيات وعلمنا أن الاعتقاد الشخصي، والميل الفطري والديني، لا ينبغي أن يظهر لهما أثر ما في مجلس القضاء، ولا أن يساعد القاضي من يظن أنه هو صاحب الحق، بل عليه أن يساوي بين الخصمين في كل شيء، وإذا كان هذا هو الواجب وكان ذلك الميل إلى تأييد من غلب على الظن صدقه يفضي إلى مساعدته في الخصومة فيكون الحاكم خصيما عنه لو فعل، وإذا كان طلب الانتصار لهم من الخائنين في الواقع ونفس الأمر في هذه القضية فقد وجب الاستغفار من هذا الاجتهاد وحسن الظن فهذا أحسن ما يوجه به ما ذهب إليه الرازي على تقدير صحة الرواية في سبب نزول الآيات. وما قاله الأستاذ الإمام أبلغ في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يليق به، أما العصمة فلا ينقضها شيء مما ورد ولا الأمر بالاستغفار، لأن الأنبياء معصومون من الحكم أو العمل بغير ما أوحاه الله تعالى إليهم أو ما يرون باجتهادهم أنه الصواب، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات بشيء، ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه تأييد للحق، ولكنه أحسن الظن في أمر بين له علام الغيوب حقيقة الواقع فيه وما ينبغي له في معاملة ذويه، {وكان الله غفورا رحيما} أي كان شأنه ذلك وتقدم شرح مثل هذه الجملة مرارا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الأمرُ باستغفار الله جرى على أسلوب توجيه الخطاب إلى الرسول، فالمراد بالأمر غيره، أرشدهم إلى ما هو أنفع لهم وهو استغفار الله ممّا اقترفوه، أو أراد: واستغفر الله للخائنين ليلهمهم إلى التوبة ببركة استغفارك لهم فذلك أجدر من دفاع المدافعين عنهم. وهذا نظير قوله: {ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله} [النساء: 64] وليس المراد بالأمر استغفار النبي لنفسه، كما أخطأ فيه مَن تَوهَّم ذلك، فركَّب عليه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خَطر بباله مَا أوجب أمره بالاستغفار، وهو هَمُّه أن يجادل عن بني أبيرق، مع علمه بأنّهم سرقوا، خشية أن يفتضحوا، وهذا من أفهام الضعفاء وسوء وضعهم الأخبار لتأييد سقيم أفهامهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وطلب الاستغفار دائم يوجهه الله تعالى إلى النبي، وإلى كل مؤمن تقي، لأن الاستغفار إنابة، وعبادة، وهي مطلوبة.. لأنه سبحانه قد ثبت واستقر له أن المغفرة بأقصى درجاتها، والرحمة بأوسع معانيها صفتان له سبحانه، وهذا معنى قوله تعالى: {إن الله كان غفورا رحيما}. وقد أكد سبحانه اتصافه تعالى بهاتين الصفتين بأربعة مؤكدات: أولها (إن) التي تفيد التوكيد وثانيها (كان) التي تفيد الاستمرار، وثالثها صيغة المبالغة في غفور ورحيم، ورابعها الجملة الإسمية...
والأمر بالاستغفار يجيء على مجرد وجود خاطر التردد بين نصرة المسلم أو نصرة اليهودي فلم يكن الرسول قد نصر أحدا على أحد بعد، ولكن مجرد هذا الخاطر يتطلب الاستغفار والذي يصدر الأمر بذلك هو الحق سبحانه لرسوله، ولا اعتراض ولا غضاضة أن يعدل لنا ربنا أمرا ما.
أو أن كل خطاب من هذا اللون موجه لمن جعل المسألة موضع مساومة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كقول "بني ظفر "عندما أرادوا ألا يحكم الرسول على اللص الذي بينهم، وتمحكوا في الإسلام لذلك يأمر الحق الذين حدثوا رسول الله عن هذا الموضوع بالاستغفار أو أن يستغفر الرسول لهم الله لأنهم لم يقولوا ذلك إلا رغبة في ألا ينفضح أمر المسلمين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} الاستغفار من وسائل التربية الروحية التي يريد الإسلام من الإنسان أن يمارسها بوعي المؤمن الذي قد يرتكب المعصية، أو وقد يهمّ بها، أو قد تطوف بخاطره، أو يعيش في مناخها... من أجل تحقيق هدفين: الأول: القرب من الله بعد أن أبعدته تلك الأجواء والمشاعر والأفكار عنه، لأنه يمثل الإحساس بالذنب في عملية اعتراف وندم وتراجع. الثاني: الحصول على المناعة الداخلية من خلال الإيحاء بالتأنيب الداخلي للذات وهو في موقع الابتهال إلى الله...
[و] الأسلوب القرآني يوحي بالخطاب للأمة من خلال خطاب النبيصلى الله عليه وسلم إمعاناً في تأكيد الأهمية للموضوع...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ الاستغفار هو لترك الأولى الذي حصل بسبب الاستعجال في الحكم في القضية التي نزلت بسببها الآيتان، أي مع أنّ ذلك القدر من الاعتراف، وشهادة الطرفين كان كافياً لإِصدار الحكم من قبل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاّ أنّه كان الأحرى أن يجري تحقيقا أكثر في ذلك المجال.
والثّاني: هو أنّ النّبي قد حكم في تلك القضية وفقاً لقوانين القضاء الإِسلامي، وبما أنّ الأدلة التي جاء بها الخائنون كانت بحسب الظاهر أقوى، لذلك أعطى الحق لهم، وبعد انكشاف الحقيقة ووصول الحق إِلى صاحبه يأتي الأمر بطلب المغفرة من الله، ليس لذنب مرتكب، بل لتعرض حق فرد مسلم إِلى خطر الزوال بسبب خيانة البعض من الأشخاص، أي أن الاستغفار بحسب الاصطلاح لأجل الحكم الحقيقي لا الحكم الظاهري...