158- قل - يأيها النبي - للناس : إني مرسل من اللَّه إليكم جميعا ، لا فرق بين عربي وعجمي وأسود وأبيض واللَّه الذي أرسلني له - وحده - ملك السماوات والأرض يدبر أمرهما حسب حكمته ، ويتصرف فيهما كيف يشاء ، ولا معبود بحق إلا هو ، وهو الذي يقدر على الإحياء والإماتة دون غيره ، فآمنوا به وبرسوله النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب ، وهو يؤمن باللَّه الذي يدعوكم إلى الإيمان ، ويؤمن بكتبه المنزلة ، واتبعوه في كل ما يفعل ويقول لتهتدوا وترشدوا .
ولما دعا أهل التوراة من بني إسرائيل ، إلى اتباعه ، وكان ربما توهم متوهم ، أن الحكم مقصور عليهم ، أتى بما يدل على العموم فقال :
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا أي : عربيكم ، وعجميكم ، أهل الكتاب منكم ، وغيرهم .
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يتصرف فيهما بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية ، وبأحكامه الشرعية الدينية التي من جملتها : أن أرسل إليكم رسولا عظيما يدعوكم إلى اللّه وإلى دار كرامته ، ويحذركم من كل ما يباعدكم منه ، ومن دار كرامته .
لا إِلَهَ إِلا هُوَ أي : لا معبود بحق ، إلا اللّه وحده لا شريك له ، ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله ، يُحْيِي وَيُمِيتُ أي : من جملة تدابيره : الإحياء والإماتة ، التي لا يشاركه فيها أحد ، الذي جعل الموت جسرا ومعبرا يعبر منه إلى دار البقاء ، التي من آمن بها صدق الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم قطعا .
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ إيمانا في القلب ، متضمنا لأعمال القلوب والجوارح . الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ أي : آمنوا بهذا الرسول المستقيم في عقائده وأعماله ، وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ في مصالحكم الدينية والدنيوية ، فإنكم إذا لم تتبعوه ضللتم ضلالا بعيدا .
ثم أمر الله رسوله أن يبين للناس أنه مرسل إلى الناس كافة ، فقال تعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } أى : قل يا محمد لكافة البشر من عرب وعجم ، إنى رسول الله إليكم جميعاً ، لا فرق بين نصرانى أو يهودى ، وإنما رسالتى إلى الناس عامة ، وقد جاء في القرآن الكريم وفى السنة النبوية ما يؤيد عموم رسالته .
أما في القرآن الكريم ، فمن ذلك قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وقال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } وقال تعالى : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } أى وأنذر من بلغه القرآن ممن سيوجد إلى يوم القيامة من سائر الأمم وفى ذلك دلالة على عموم رسالة النبى صلى الله عليه وسلم وعلى أن أحكام القرآن تعم الثقلين إلى يوم الدين .
وأما في السنة فمن ذلك ما رواه البخارى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلى : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لى الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبى يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة " .
وفى صحيح مسلم عن أبى موسى الأشعرى - رضى الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذى نفسى بيده لا يسمع بى رجل من هذه الأمة يهودى ولا نصرانى ثم لا يؤمن بى إلا دخل النار " .
قال الإمام ابن كثير : والآيات في هذا كثيرة ، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر ، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه رسول إلى الناس كلهم ه .
ثم وصف الله تعالى ذاته بما هو أهل له من صفات القدرة والوحدانية فقال تعالى : { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أى : قل - يا محمد - للناس إنى رسول إليكم من الله الذي له التصرف في السموات والأرض ، والذى لا معبود بحق سواه والذى بيده الاحياء والإماتة ، ومن كان هذا شأنه فمن الواجب أن يطاع أمره ، وأن يترك ما نهى عنه ، وأن يصدق رسوله . ثم بنى - سبحانه - على هذه النعوت الجليلة التي وصف بها نفسه الدعوة إلى الإيمان فقال تعالى : { فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أى : فآمنوا أيها الناس جمعاً بالله الواحد الأحد وآمنوا - أيضاً برسوله محمد صلى الله عليه وسلم النبى الأمى الذي يؤمن بالله ، وبما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه واسلكوا سبيله ، واقتفوا آثاره ، في كل ما يأمر به أو ينهى عنه رجاء أن تهتدوا إلى الراط المستقيم .
وفى وصفه صلى الله عليه وسل بالأمية مرة ثانية ، إشارة إلى كمال علمه ، لأنه مع عدم مطالعته للكتاب ، أو مصاحبته لمعلم . فتح الله له أبواب العلم ، وعلمه لما لم يكن يعلم من سائر العلوم التي تعلمها الناس عنه ، وصاروا بها أئمة العلماء وقادة المفكرين ، فأكرم بها من أمية تضاءل بجانبها علم العلماء في كل زمان ومكان .
وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد وصفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشرف الصفات وأقامتا أوضح الحجج وأقواها على صدقه في نبوته ، ودعتا اليهود بل الناس جميعاً إلى الإيمان به لأنه قد بشرت به الكتب السماوية السابقة ولأنه صلى الله عليه وسلم ما جاءهم إلا بالخير ، وما نهاهم إلا عن الشر . ولأن شريعته تمتاز باليسر والسماحة ، ولأن أنصاره وأتباعه هم المفلحون ، ولأن رسالته عامة للجن والانس ، ومن كانت هذه صفاته ، وتلك شريعته ، جدير أن يتبع ، وقمين أن يصدق ويطاع ، وما يعرض عن دعوته إلا من طغى وآثر الحياة الدنيا .
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَألأَرْضِ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنَتَىَ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً }
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه بإشهار الدعوة والحض على الدخول في الشرع ، وذلك أنه لما رَّجى الأمة المتبعة للنبي الأمي التي كتب لها رحمته ، عقب ذلك بدعاء الناس إلى ا?تباع الذي معه تحصل تلك المنازل ، وهذه الآية خاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم بين الرسل ، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة وإلى الجن ، قاله الحسن ، وتقتضيه الأحاديث ، وكل نبي إنما بعث إلى فرقة دون العموم ، ثم إنه لما أعلن بالرسالة من عند الله أردف بصفة الله التي تقتضي الإذعان له وهي أنه ملك السموات والأرض بالخلق والإبداع والإحياء والإماتة لا إله إلا هو ولا معبود سواه .
وقوله تعالى : { فآمنوا بالله ورسوله } الآية ، هو الحض على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { الذي يؤمن } يريد الذي يصدق { بالله وكلماته } والكلمات هنا الآيات المنزلة من عنده كالتوراة والإنجيل ، وقرأ جمهور الناس «كلماته » بالجمع ، وقرأ عيسى بن عمر «كلمته » بالإفراد الذي يراد به الجمع ، وقرأ الأعمش «الذي يؤمن بالله وآياته » بدل «كلماته » ، وقال مجاهد والسدي : المراد ب «كلماته » أو «كلمته » عيسى بن مريم ، وقوله تعالى : { لعلكم تهتدون } أي على طمعكم وبحسب ما ترونه ، وقوله : { واتبعوه } لفظ عام يدخل تحته جميع إلزامات الشريعة جعلنا الله من متبعيه على ما يلزم بمنه ورحمته .