قال الفخر الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما حكى شبهة القوم فى اقتراح المعجزات الزائدة ، وأجاب عنها ، حكى عنهم شبهة أخرى ، وهى أن القوم استبعدوا أن يبعث الله إلى الخلق رسولاً من البشر ، بل اعتقدوا أن الله - تعالى - لو أرسل رسولاً إلى الخلق ، لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة ، فأجاب الله - تعالى - عن هذه الشبهة فقال : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا . . . } .
والمراد بالناس هنا : المشركون منهم ، الذين استبعدوا واعتقدوا أن الرسول لا يكون من البشر ، ويدخل فيهم دخولاً أوليًا كفار مكة .
وجملة { أن يؤمنوا } فى محل نصب ، لأنها مفعول ثان لمنع .
وقوله : { إِلاَّ أَن قالوا } هو الفاعل ، و " إذ " ظرف للفعل منع ، أو لقوله : { أن يؤمنوا } .
والمعنى : وما صرف المشركين عن الإِيمان بالدين الحق وقت أن جاءتهم به الرسل ، إلا اعتقاد هؤلاء المشركين أن الله - تعالى - لا يبعث إليهم رجلاً من البشر لكى يبلغهم وحيه ، وإنما يبعث إليهم ملكًا من الملائكة لكى يبلغهم ذلك .
وعبر عن اعتقادهم الباطل هذا بالقول فقال : { إِلاَّ أَن قالوا . . } للإِشعار بأنه مجرد قول لاكته ألسنتهم ، دون أن يكون معهم أى مستند يستندون إليه لإِثبات قبوله عند العقلاء .
وجاء التعبير عن اعتقادهم الباطل هذا بصيغة الحصر ، لبيان أنه مع بطلانه - هو من أهم الموانع والصوارف ، التى منعتهم وصرفتهم عن الدخول فى الدين الحق ، الذى جاءتهم به الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ، وهذا لا يمنع أن هناك صوارف أخرى حالت بينهم وبين الإِيمان كالحسد والعناد .
قال صاحب الكشاف : " والمعنى . وما منعهم من الإِيمان بالقرآن ، وبنبوة النبى صلى الله عليه وسلم إلا شبهة تلجلجت فى صدورهم ، وهى إنكارهم أن يرسل الله البشر . والهمزة فى { أبعث الله } للإِنكار ، وما أنكروه فخلافه هو المنكر عند الله - تعالى - لأن قضية حكمته ، أن لا يرسل ملك الوحى إلا إلى أمثاله ، أو إلى الأنبياء " .
والمتدبر فى القرآن الكريم ، يرى أن هذه الشبهة - وهى إنكار المشركين كون الرسول بشرًا - قد حكاها فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ . . . } وقوله - تعالى - : { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ واستغنى الله والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } ومما لا شك فيه أن هذه الشبهة تدل ، على أن هؤلاء الكافرين ، لم يدركوا قيمة بشريتهم وكرامتها عند الله - تعالى - ، وذلك بسبب انطماس بصائرهم ، وكثرة جهلهم ، وعكوفهم على موروثاتهم الفاسدة .
يقول تعالى : { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } أي : أكثرهم { أَنْ يُؤْمِنُوا } ويتابعوا الرسل ، إلا استعجابهم من بعثته{[17849]} البشر رسلا كما قال تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا } [ يونس : 2 ] .
وقال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ التغابن : 6 ] ، وقال فرعون وملؤه : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } [ المؤمنون : 47 ] ، وكذلك قالت{[17850]} الأمم لرسلهم : { إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } [ إبراهيم : 10 ] ، والآيات في هذا كثيرة .
وقوله تعالى : { وما منع الناس أن يؤمنوا } هذه الآية على معنى التوبيخ والتلهف من النبي عليه السلام والبشر ، كأنه يقول متعجباً منهم ما شاء الله كان ، ما نمنع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا هذه العلة النزرة{[7712]} والاستبعاد الذي لا يستند إلى حجة ، وبعثة البشر رسلاً غير بدع ولا غريب ، فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما { لو كان في الأرض ملائكة } يسكنونها { مطمئنين } ، أي وادعين فيها مقيمين لكان الرسول إليهم من الملائكة ليقع الإفهام ، وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طباعهم من رؤيته ، ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم ، وإنما أراد الله جري أحوالهم على معتادها .
بعد أن عُدّت أشكال عنادهم ومَظاهر تكذيبهم أعقبت ببيان العلة الأصلية التي تبعث على الجحود في جميع الأمم وهي توهمهم استحالة أن يبعث الله للناس برسالة بشراً مثلهم . فذلك التوهم هو مثار ما يأتونه من المعاذير ، فالذين هذا أصل معتقدهم لا يرجى منهم أن يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية ، وما قصدهم من مختلف المقتَرحات إلا إرضاءُ أوهامهم بالتنصل من الدخول في الدين ، فلو أتاهم الرسول بما سألوه لانتقلوا فقالوا : إن ذلك سحر ، أو قلوبنا غلف ، أو نحو ذلك . ومع ما في هذا من بيان أصل كفرهم هو أيضاً رد بالخصوص لقولهم : { أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً } [ الإسراء : 92 ] ورد لقولهم : { أو ترقى في السماء } [ الإسراء : 93 ] إلى آخره .
وقوله : { إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولا } يقتضي بصريحه أنهم قالوا بألسنتهم وهو مع ذلك كناية عن اعتقادهم ما قالوه . ولذلك جعل قولهم ذلك مانعاً من أن يؤمنوا لأن اعتقاد قائليه يمنع من إيمانهم بضده ونطقهم بما يعتقدونه يمنع من يسمعونهم من متبعي دينهم .
وإلقاء هذا الكلام بصيغة الحصر وأداة العموم جعله تذييلاً لما مضى من حكاية تفننهم في أساليب التكذيب والتهكم .
فالظاهر حمل التعريف في { الناس } على الاستغراق . أي ما منع جميع الناس أن يؤمنوا إلا ذلك التوهم الباطل لأن الله حكى مثل ذلك عن كل أمة كذبت رسولها فقال حكاية عن قوم نوح { ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } [ المؤمنون : 24 ] . وحكى مثله عن هود { ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون } [ المؤمنون : 33 - 34 ] ، وعن قوم صالح { ما أنت إلا بشر مثلنا } سورة [ الشعراء : 154 ] ، وعن قوم شُعيب { وما أنت إلا بشر مثلنا } [ الشعراء : 186 ] ، وحكى عن قوم فرعون { قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا } [ المؤمنون : 47 ] . وقال في قوم محمد { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب } [ ق : 2 ] .
وإذ شمل العموم كفار قريش أمر الرسول بأن يجيبهم عن هذه الشبهة بقوله : { لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين } الآية ، فاختص الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم باجتثاث هذه الشبهة من أصلها اختصاصاً لم يُلقنه من سَبق من الرسل ، فإنهم تلقوا تلك الشبهة باستنصار الله تعالى على أقوامهم فقال عن نوح { قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجني ومن معي من المؤمنين } [ الشعراء : 118 ] .
وقال مثله عن هود وصالح ، وقال عن موسى وهارون ، { فكذبوهما فكانوا من المهلكين } [ المؤمنون : 48 ] ، فقد ادخر الله لرسوله قواطع الأدلة على إبطال الشرك وشبه الضلالة بما يناسب كونه خاتم الرسل ، ولهذا قال في خطبة حجّة الوداع : إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي أن يطاع فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما منع الناس}، يعني: رءوس كفار مكة، {أن يؤمنوا}، يعني: أن يصدقوا بالقرآن، {إذ جاءهم الهدى}، يعني: البيان، وهو القرآن؛ لأن القرآن هدى من الضلالة، {إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما منع يا محمد مشركي قومك الإيمان بالله، وبما جئتهم به من الحقّ "إذْ جاءَهُمُ الهُدَى "يقول: إذ جاءهم البيان من عند الله بحقيقة ما تدعوهم وصحة ما جئتهم به، إلاّ قولهم جهلاً منهم "أبَعَثَ اللّهُ بَشَرا رَسُولاً"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا على الإياس من إيمانهم: إنهم لا يؤمنون إلا عند معاينتهم بأس الله. والإيمان في ذلك الوقت، لا يقبل، ولا ينفعهم. وأما قوله: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا} فَيُخَرَّجُ مُخْرَجَ الاحتجاج: لو شاء الله أن نؤمن لأنزل ملائكة كقوله: {قالوا لو شاء ربنا لأنزل الملائكة} (فصلت: 14) ففيه موضع الشبهة لهم أن يقولوا: هو بشر ونحن بشر، فليس هو أولى بالرسالة إلينا من أن نكون نحن رسلا إليه. فذلك موضع الشبهة، فأجابهم لذلك لما استنكروا، واستبعدوا بعث الرسول إليهم من جوهرهم وجنسهم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً} وهذا قول كفار قريش أنكروا أن يكون البشر رُسُل الله تعالى، وأن الملائكة برسالاته أخص كما كانوا رسلاً إلى أنبيائه، فأبطل الله تعالى عليهم ذلك قوله: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً}...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
يقول الله تعالى وما صرف الناس، يعني: المشركين الذين لم يؤمنوا، وإنما أخبر عنه بالمنع مبالغة له في الصرف، لأن المنع يستحيل معه الفعل، والصرف يمكن معه الفعل، لكنه لشدة صرفه شبه بالمنع... وقوله "أن يؤمنوا "أي ما صرفهم عن التصديق بالله ورسوله حين جاءهم الهدى، يعني: الحجج والبينات، وطريق الحق إلا قولهم "أبعث الله بشرا رسولا" فدخلت عليهم الشبهة في أنه لا يجوز من الله أن يبعث رسولا إلا من الملائكة، كما دخلت عليهم الشبهة في أن عبادتهم لا تصلح لله، فوجهوها إلى الاصنام، فعظموا الله تعالى بجهلم، بما ليس فيه تعظيم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
و {الهدى} الوحي. أي: وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم، وهي إنكارهم أن يرسل الله البشر. والهمزة في {أَبَعَثَ الله} للإنكار، وما أنكروه فخلافه هو المنكر عند الله، لأن قضية حكمته أن لا يرسل ملك الوحي إلا إلى أمثاله، أو إلى الأنبياء،...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية على معنى التوبيخ والتلهف من النبي عليه السلام والبشر، كأنه يقول متعجباً منهم ما شاء الله كان، ما يمنع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا هذه العلة النزرة والاستبعاد الذي لا يستند إلى حجة، وبعثة البشر رسلاً غير بدع ولا غريب، فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما {لو كان في الأرض ملائكة} يسكنونها {مطمئنين}، أي وادعين فيها مقيمين لكان الرسول إليهم من الملائكة ليقع الإفهام، وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طباعهم من رؤيته، ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم، وإنما أراد الله جري أحوالهم على معتادها...
{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى} وتقرير هذا الجواب أن بتقدير أن يبعث الله ملكا رسولا إلى الخلق فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولا من عند الله لأجل قيام المعجز الدال على صدقه وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة ذلك الملك في ادعاء رسالة الله تعالى، فالمراد من قوله تعالى: {إذ جاءهم الهدى} هو المعجز فقط فهذا المعجز سواء ظهر على يد الملك أو على يد البشر وجب الإقرار برسالته، فثبت أن يكون قولهم بأن الرسول لا بد وأن يكون من الملائكة تحكما فاسدا وتعنتا باطلا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أمر بما تضمن أنه كإخوانه من الرسل في كونه بشراً، أتبعه قوله تعالى عطفاً على: {فأبى} أو {فقالوا}: {وما منع الناس} أي قريشاً ومن قال بقولهم لما لهم من الاضطراب {أن يؤمنوا} أي لم يبق لهم مانع من الإيمان... {إذ جاءهم الهدى} أي الدليل القاطع على الإيمان وهو القرآن وغيره من الأدلة {إلا}... {أن قالوا} أي منكرين غاية الإنكار متعجبين متهكمين: {أبعث الله} أي بما له من العظمة الباهرة من صفات الجلال والإكرام {بشراً ورسولاً} وسبب اتباع الضلال -مع وضوح ضره- وترك الهدى -مع ظهور نفعه- وقوع الشبهة أو الشهوة لضعفاء العقول -وهم أكثر الناس- في أوله ثم تقليد الرؤساء وتمكن العادة السيئة فيما بعد ذلك.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَمَا مَنَعَ الناس} أي الذين حُكيت أباطيلُهم... أي وما منعهم وقت مجيءِ الوحي المقرونِ بالمعجزاتِ المستدعيةِ للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوّتك أو ما منعهم أن يؤمنوا بذلك وقت مجيءِ ما ذكر... وليس المرادُ أن هذا القولَ صدر عن بعضهم فمنع بعضاً آخرَ منهم، بل المانعُ هو الاعتقادُ الشاملُ للكل المستتبعُ لهذا القول منهم، وإنما عبرّ عنه بالقول إيذاناً بأنه مجردُ قولٍ يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهومٌ ومِصْداقٌ، وحصرُ المانعِ من الإيمان فيما ذكر مع أن لهم موانعَ شتّى لِما أنه معظمُها أو لأنه هو المانعُ بحسب الحال...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا السبب الذي منع أكثر الناس من الإيمان، حيث كانت الرسل التي ترسل إليهم من جنسهم بشرًا. وهذا من رحمته بهم، أن أرسل إليهم بشرًا منهم، فإنهم لا يطيقون التلقي من الملائكة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد نشأ هذا الوهم من عدم إدراك الناس لقيمة بشريتهم وكرامتها على الله، فاستكثروا على بشر أن يكون رسولا من عند الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله: {إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولا} يقتضي بصريحه أنهم قالوا بألسنتهم وهو مع ذلك كناية عن اعتقادهم ما قالوه. ولذلك جعل قولهم ذلك مانعاً من أن يؤمنوا لأن اعتقاد قائليه يمنع من إيمانهم بضده ونطقهم بما يعتقدونه يمنع من يسمعونهم من متبعي دينهم. وإلقاء هذا الكلام بصيغة الحصر وأداة العموم جعله تذييلاً لما مضى من حكاية تفننهم في أساليب التكذيب والتهكم... فالظاهر حمل التعريف في {الناس} على الاستغراق. أي ما منع جميع الناس أن يؤمنوا إلا ذلك التوهم الباطل لأن الله حكى مثل ذلك عن كل أمة كذبت رسولها فقال حكاية عن قوم نوح {ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} [المؤمنون: 24]. وحكى مثله عن هود {ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون} [المؤمنون: 33 -34]، وعن قوم صالح {ما أنت إلا بشر مثلنا} سورة [الشعراء: 154]، وعن قوم شُعيب {وما أنت إلا بشر مثلنا} [الشعراء: 186]، وحكى عن قوم فرعون {قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا} [المؤمنون: 47]. وقال في قوم محمد {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} [ق: 2]...
فقد ادخر الله لرسوله قواطع الأدلة على إبطال الشرك وشبه الضلالة بما يناسب كونه خاتم الرسل، ولهذا قال في خطبة حجّة الوداع: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي أن يطاع فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الأمر الأول: قوله تعالى: {إذ جاءهم الهدى} هذه إشارة إلى أنهم لا يؤمنون بالرسالة مع أنها تحمل في نفسها دليلها؛ لأنها هادية مرشدة مقنعة مع ما تقتضيه أحكام العقول ومكارم الأخلاق.
الأمر الثاني: أن نفيهم لأن يكون البشر رسولا إنما هو قولهم لا حقيقة أمرهم، فهم لا يؤمنون بألا يكون البشر رسولا ولكنهم يقولونه قولا من غير برهان ولا إيمان...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً} في استغراب يوحي بالإنكار أو بالشك، انطلاقاً من التصور الخاطئ الذي يرى الرسالة شيئاً من شؤون الملك، لا من شؤون الإنسان. ولكن الله يعالج المسألة بتصحيح هذا التصور، فإن الرسالة تفرض الدعوة بالفكر وبالقدوة، فلا بد من أن يكون الرسول من الناس، ليكون تجسيده للرسالة في سلوكه أساساً للإيمان بواقعية الفكرة التي يدعو إليها، من خلال خصوصيته البشريّة، أما إذا كان ملكاً، فإن الناس سيحتجّون بعدم امتلاكهم قدرة الملك على تجسيد أخلاقية الرسالة في الحياة. وربّما كانت المسألة تتجه إلى المقولة التي تؤكد على أن الإنسان لا يتحمل النظر إلى الملك...