يخبر تعالى أنه المنفرد بالهداية والإضلال ، فمن يهده ، فييسره لليسرى ويجنبه العسرى ، فهو المهتدي على الحقيقة ، ومن يضلله ، فيخذله ، ويكله إلى نفسه ، فلا هادي له من دون الله ، وليس له ولي ينصره من عذاب الله ، حين يحشرهم الله على وجوههم خزيًا عميًا وبكمًا ، لا يبصرون ولا ينطقون .
{ مَأْوَاهُمْ } أي : مقرهم ودارهم { جَهَنَّمُ } التي جمعت كل هم وغم وعذاب .
{ كُلَّمَا خَبَتْ } أي : تهيأت للانطفاء { زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } أي : سعرناها بهم لا يفتر عنهم العذاب ، ولا يقضى عليهم فيموتوا ، ولا يخفف عنهم من عذابها ، ولم يظلمهم الله تعالى ، بل جازاهم بما كفروا بآياته وأنكروا البعث الذي أخبرت به الرسل ونطقت به الكتب وعجزوا ربهم وأنكروا تمام قدرته .
وقوله - سبحانه - : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ } كلام مستأنف منه - تعالى - لبيان نفاذ قدرته ومشيئته .
أى : ومن يهده الله - تعالى - إلى طريق الحق ، فهو الفائز بالسعادة ، المهدى إلى كل مطلوب حسن ، { ومن يضلل } أى : ومن يرد الله - تعالى - إضلاله { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ } أيها الرسول الكريم { أولياء } أى : نصراء ينصرونهم ويهدونهم إلى طريق الحق { من دونه } عز وجل ، إذ أن الله - تعالى - وحده هو الخالق للهداية والضلالة ، على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته .
وجاء قوله - تعالى - { فهو المهتد } بصيغة الإِفراد حملا على لفظ { من } فى قوله { وَمَن يَهْدِ الله } وجاء قوله : { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ } بصيغة الجمع حملا على معناها فى قوله : { ومن يضلل } .
قالوا : ووجه المناسبة فى ذلك - والله أعلم - أنه لما كان الهدى شيئًا واحدًا غير متشعب السبل ، ناسبه الإِفراد ، ولما كان الضلال له طرق متشعبة ، كما فى قوله - تعالى - : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } ناسبه الجمع .
ثم بين - سبحانه - الصورة الشنيعة التى يحشر عليها الضالون يوم القيامة فقال : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً . . } .
والحشر : الجمع . يقال : حشرت الجند حشرًا . أى جمعتهم . وقوله : { على وجوههم } حال من الضمير المنصوب فى نحشرهم . وقوله : { عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } أحوال من الضمير المستكن فى قوله { على وجوههم } . أى : نجمع هؤلاء الضالين يوم القيامة ، حين يقومون من قبورهم ، ونجعلهم - بقدرتنا - يمشون على وجوههم ، أو يسحبون عليها ، إهانة لهم وتعذيبًا ، ويكونون فى هذه الحالة عميا لا يبصرون ، وبكما لا ينطقون ، وصما لا يسمعون .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ } إما مشيا ، بأن يزحفوا منكبين عليها . ويشهد له ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال : " قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ فقال : " الذى أمشاهم على أرجلهم ، قادر على أن يمشيهم على وجوههم " " .
وإما سحبا بأن تجرهم الملائكة منكبين عليها ، كقوله - تعالى - : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } ويشهد له ما أخرجه أحمد والنسائى والحاكم - وصححه - " عن أبى ذر ، أنه تلا هذه الآية . { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ } فقال : حدثنى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين ، وفوج يمشون ويسعون ، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم " .
وجائز أن يكون الأمران فى حالين : الأول : عند جمعهم وقبل دخولهم النار ، والثانى عند دخولهم فيها .
ثم قال : وزعم بعضهم أن الكلام على المجاز ، وذلك كما يقال للمنصرف عن أمر وهو خائب مهموم : انصرف على وجهه . . وإياك أن تلتفت إلى - هذا الزعم - أو إلى تأويل نطقت السنة النبوية بخلافه ، ولا تعبأ بقوم يفعلون ذلك .
فإن قيل : كيف نوفق بين هذه الآية التى تثبت لهؤلاء الضالين يوم حشرهم العمى والبكم والصمم ، وبين آيات أخرى تثبت لهم فى هذا اليوم الرؤية والكلام والسمع ، كما فى قوله - تعالى - : { وَرَأَى المجرمون النار . . } وكما فى قوله - سبحانه - : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } وكما فى قوله - عز وجل - : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } فالجواب : أن المراد فى الآية هنا أنهم يحشرون عميا لا يرون ما يسرهم ، وبكما لا ينطقون بحجة تنفعهم ، وصمًا لا يسمعون ما يرضيهم . .
أو أنهم يحشرون كذلك ، ثم تعاد لهم حواسهم بعد ذلك عند الحساب وعند دخولهم النار .
أو أنهم عندما يحشرون يوم القيامة ، ويرون ما يرون من أهوال ، تكون أحوالهم كأحوال العمى الصم البكم ، لعظم حيرتهم ، وشدة خوفهم ، وفرط ذهولهم .
ثم بين - سبحانه - مآلهم بعد الحشر والحساب فقال : { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } .
ومعنى : { خبت } هدأت وسكن لهيبها . يقال : خبت النار تخبو إذا هدأ لهيبها .
أى : أن هؤلاء المجرمين مأواهم ومسكنهم ومقرهم جهنم ، كلما سكن لهيب جهنم وهدأ ، بأن أكلت جلودهم ولحومهم ، زدناهم توقدا ، بأن تبدل جلودهم ولحومهم بجلود ولحوم أخرى ، فتعود النار كحالتها الأولى ملتهبة مستعرة .
وخبو النار وسكونها لا ينقص شيئًا من عذابهم ، وعلى ذلك فلا تعارض بين هذه الآية وبين قوله - عز وجل - { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } وفى هذه الآية ما فيها من عذاب للكافرين تقشعر من هوله الأبدان ، وترتجف من تصويره النفوس والقلوب ، نسأل الله - تعالى - بفضله ورحمته أن يجنبنا هذا المصير المؤلم .
يقول تعالى مخبرًا عن تصرفه في خلقه ، ونفوذ حكمه ، وأنه لا معقب له ، بأنه من يهده فلا مضلّ له { وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ } أي : يهدونهم ، كما قال : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [ الكهف : 17 ] .
وقوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } قال الإمام أحمد :
حدثنا ابن نمير ، حدثنا إسماعيل عن نُفَيْع قال{[17854]} : سمعت أنس بن مالك يقول : قيل : يا رسول الله ، كيف يحشر{[17855]} الناس على وجوههم ؟ قال : " الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم " . وأخرجاه في الصحيحين{[17856]} .
وقال الإمام أحمد أيضًا : [ حدثنا يزيد ]{[17857]} ، حدثنا الوليد بن جُمَيْع القرشي ، عن أبيه ، حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة ، عن حذيفة بن أسيد قال : قام أبو ذر فقال : يا بني غفار ، قولوا ولا تحلفوا ، فإن الصادق المصدوق حدثني : أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج : فوج راكبين طاعمين كاسين ، وفوج{[17858]} يمشون ويسعون ، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار . فقال قائل منهم : هذان قد عرفناهما ، فما بال الذين يمشون ويسعون{[17859]} ؟ قال : يلقي الله ، عز وجل ، الآفة على{[17860]} الظهر حتى لا يبقى ظهر ، حتى إن الرجل لتكون له الحديقة المعجبة ، فيعطيها بالشارف ذات القتب ، فلا يقدر عليها{[17861]} .
وقوله : ( عُمْيًا ) أي : لا يبصرون ( وَبُكْمًا ) يعني : لا ينطقون ( وَصُمًّا ) : لا يسمعون . وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكمًا وعميًا وصمًا عن الحق فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه ( مَأْوَاهُمْ ) أي : منقلبهم{[17862]} ومصيرهم ( جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ ) قال ابن عباس : سكنت{[17863]} . وقال مجاهد : طفئت ( زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) أي : لهبًا ووهجًا وجمرًا ، كما قال : { فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } [ النبأ : 30 ] .
ثم رد الأمر إلى خلق الله تعالى واختراعه الهدى والضلال في قلوب البشر ، أي ليس بيدي من أمركم أكثر من التبليغ ، وفي قوله { فلن تجد لهم أولياء من دونه } وعيد ، ثم أخبر عز وجل أنهم يحشرون على الوجوه { عمياً وبكماً وصماً } ، وهذا قد اختلف فيه ، فقيل هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والهم والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات ، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينصفونه بحجة ، وقيل هي حقيقة كلها ، وذلك عند قيامهم من قبورهم ، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم ، فعند رد ذلك إليهم يرون النار ويسمعون زفيرها ويتكلمون بكل ما حكي عنهم في ذلك ، ويقال للمنصرف عن أمر خائفاً مهموماً : انصرف على وجهه ، ويقال للبعير : كأنما يمشي على وجهه ، ومن قال ذلك في الآية حقيقة ، قال : أقدرهم الله على النقلة على الوجوه ، كما أقدر في الدنيا على النقلة على الأقدام ، وفي هذا المعنى حديث قيل يا رسول الله : كيف يمشي الكافر على وجهه ؟ قال : «أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادراً أن يمشيه في الآخرة على وجهه » ؟ . قال قتادة{[7713]} : بلى وعزة ربنا ، وقوله { كلما خبت } أي كلما فرغت من إحراقهم فسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ، ثم تثور ، فتلك «زيادة السعير » قاله ابن عباس ، فالزيادة في حيزهم ، وأما جهنم فعلى حالها من الشدة لا يصيبها فتور ، وخبت النار معناه سكن اللهيب والجمر على حاله ، وخمدت معناه سكن الجمر وضعف ، وهمدت معناه طفيت جملة ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر : [ الهزج ]
أمن زينب ذي النار قبيل الصبح ما تخبو . . . إذا ما خبت يلقى عليها المندل الرطب{[7714]}
ومنه قول عدي بن زيد : [ الخفيف ]
وسطة كاليراع أو سرج المج . . . دل طوراً تخبو وطوراً تثير
فتخبوا ساعة وتهب ساعا . . . {[7715]}
{ وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ }
يجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى } [ الإسراء : 94 ] جمعاً بين المانع الظاهر المعتاد من الهدى وبين المانع الحقيقي وهو حرمان التوفيق من الله تعالى ، فمن أصَرّ على الكفر مع وضوح الدليل لذوي العقول فذلك لأن الله تعالى لم يوفقه . وأسباب الحرمان غضب الله على من لا يُلقِي عقله لتلقي الحق ويتخذُ هواه رائداً له في مواقف الجد .
ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة { قل كفى باللَّه شهيداً بيني وبينكم } [ الإسراء : 96 ] ارتقاء في التسلية ، أي لا يحزنك عدم اهتدائهم فإن الله حرمهم الاهتداء لما أخذوا بالعناد قبل التدبر في حقيقة الرسالة .
والمراد بالهُدى الهدى إلى الإيمان بما جاء به الرسول .
والتعريف في { المهتد } تعريف العهد الذهني ، فالمعرف مساوٍ للنكرة ، فكأنه قيل : فهو مهتدٍ . وفائدة الإخبار عنه بأنه مهتد التوطئة إلى ذكر مقابله وهو { ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء } ، كما يقال من عَرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا فُلان .
ويجوز أن تجعل التعريف في قوله : { المهتد } تعريف الجنس فيفيد قصر الهداية على الذي هداه الله قصراً إضافياً ، أي دون من تريد أنتَ هداه وأضله الله . ولا يحتمل أن يكون المعنى على القصر الادعائي الذي هو بمعنى الكمال لأن الهدى المراد هنا هدي واحد وهو الهدي إلى الإيمان .
وحُذفت ياء { المهتد } في رسم المصحف لأنهم وقفوا عليها بدون ياء على لغة من يقف على الاسم المنقوص غيرِ المنون بحذف الياء ، وهي لغة فصيحة غير جارية على القياس ولكنها أوثرت من جهة التخفيف لثقل صيغة اسم الفاعل مع ثقل حرف العلة في آخر الكلمة . ورسمت بدون ياء لأن شأن أواخر الكلم أن ترسم بمراعاة حال الوقف . وأما في حال النطق في الوصل فقرأها نافع وأبو عَمرو بإثبات الياء في الوصل وهو الوجه ، ولذلك كتبوا الياء في مصاحفهم باللون الأحمر وجعلوها أدق من بقية الحروف المرسومة في المصحف تفرقة بينها وبين ما رسمه الصحابة كتّاب المصحف . والباقون حذفوا الياء في النطقِ في الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف . وذلك وإن كان نادراً في غير الشعر إلا أن الفصحاء يُجرون الفواصل مجرى القوافي ، واعتبروا الفاصلة كل جملة ثم بها الكلام ، كما دل عليه تمثيل سيبويه في كتابه الفاصلة بقوله تعالى : { والليل إذا يسر } [ الفجر : 4 ] وقوله : { قال ذلك ما كنا نبغ } [ الكهف : 64 ] . وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى : { عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال } في سورة [ الرعد : 9 ] .
والخطاب في { فلن تجد لهم أولياء من دونه } للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن هذا الكلام مسوق لتسليته على عدم استجابتهم له ، فنفي وجدان الأولياء كناية عن نفي وجود الأولياء لهم لأنهم لو كانوا موجودين لوجدهم هو وعرفهم .
والأولياء : الأنصار ، أي لن تجد لهم أنصاراً يخلصونهم من جزاء الضلال وهو العذاب . ويجوز أن يكون الأولياء بمعنى متولي شأنهم ، أي لن تجد لهم من يُصلح حالهم فينقلهم من الضلال كقوله تعالى : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] .
وجُمع الأولياء باعتبار مقابلة الجمع بالجمع ، أي لن تجد لكل واحد ولياً ولا لجماعته ولياً ، كما يقال : ركب القوم دوابهم .
{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا }
ذكر المقصود من نفي الولي أو المَئال له بذكر صورة عقابهم بقوله : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } الآية .
والحشر : جمع الناس من مواضع متفرقة إلى مكان واحد . ولما كان ذلك يستدعي مشيهم عدي الحشر بحرف ( على ) لتضمينه معنى ( يمشون . وقد فهم الناس ذلك من الآية فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم كيف يمشون على وجوههم ؟ فقال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم . والمقصود من ذلك الجمعُ بين التشويه والتعذيب لأن الوجه أرق تحملاً لصلابة الأرض من الرجل .
وهذا جزاء مناسب للجرم ، لأنهم روّجوا الضلالة في صورة الحق ووسموا الحق بسمات الضلال فكان جزاؤهم أن حولت وجوههم أعضاءَ مشي عِوضاً عن الأرجل . ثم كانوا { عميا وبكما } جزاء أقوالهم الباطلة على الرسول وعلى القرآن ، و { صمّاً } جزاء امتناعهم من سماع الحق ، كما قال تعالى عنهم : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصّلت : 5 ] . وقال عنهم : { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } [ طه : 125 - 126 ] ، وقال عنهم : { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى } [ الإسراء : 72 ] أي من كان أعمى عن الحق فهو في الحشر يكون محروماً من متعة النظر . وهذه حالتهم عند الحشر .
والمأوى محل الأوِيِّ ، أي النزول بالمأوى . أي المنزل والمقر .
وخبت النار خُبُوّاً وخَبْواً . نقص لهيبها .
والسعير : لهب النار ، وهو مشتق من سعّر النارَ إذا هيج وقودها . وقد جرى الوصف فيه على التذكير تبعاً لتذكير اللهب . والمعنى : زدناهم لهباً فيها .
وفي قوله : { كلما خبت زدناهم سعيراً } إشكال لأن نار جهنم لا تخبو . وقد قال تعالى : { فلا يخفف عنهم العذاب } [ البقرة : 86 ] . فعن ابن عباس : أن الكفرة وقود للنار قال تعالى : { وقودها الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] فإذا أحرقتهم النار زال اللهب الذي كان متصاعداً من أجسامهم فلا يلبثون أن يعادوا كما كانوا فيعود الالتهاب لهم .
فالخُبُوّ وازدياد الاشتعال بالنسبة إلى أجسادهم لا في أصل نار جهنم . ولهذه النكتة سلط فعل { زدناهم } على ضمير المشركين للدلالة على أن ازدياد السعير كان فيهم ، فكأنه قيل : كلما خبت فيهم زدناهم سعيراً ، ولم يقل : زدناها سعيراً .
وعندي : أن معنى الآية جارٍ على طريق التهكّم وبادىء الإطماع المسفر عن خيبة ، لأنه جعل ازدياد السعير مقترناً بكل زمان من أزمنة الخبُوّ ، كما تفيده كلمة ( كلما ) التي هي بمعنى كل زمان . وهذا في ظاهره إطماع بحصول خبو لورود لفظ الخبو في الظاهر ، ولكنه يؤول إلى يأس منه إذ يدل على دوام سعيرها في كل الأزمان ، لاقتران ازدياد سعيرها بكل أزمان خبوها . فهذا الكلام من قبيل التمليح ، وهو من قبيل قوله تعالى : { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } [ الأعراف : 40 ] ، وقول إياس القاضي للخصم الذي سأله : على من قَضيت ؟ فقال : على ابن أخت خالك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن يهد الله} لدينه، {فهو المهتد ومن يضلل} عن دينه،
{فلن تجد لهم أولياء من دونه}، يعني: أصحابا من دون الله يهدونهم إلى الإسلام من الضلالة.
{ونحشرهم يوم القيامة} بعد الحساب، {على وجوههم}...
{عميا وبكما وصما}، وذلك إذا قيل لهم: {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون:108]، فصاروا فيها عميا لا يبصرون أبدا، وصما لا يسمعون أبدا،
ثم قال: {مأواهم}، يعني: مصيرهم {جهنم}،
{كلما خبت}، وذلك إذا أكلتهم النار، فلم يبق منهم غير العظام، وصاروا فحما، سكنت النار، هو الخبت،
{زدناهم سعيرا}، وذلك أن النار إذا أكلتهم بدلوا جلودا غيرها جددا في النار، فتسعر عليهم، فذلك قوله سبحانه: {زدناهم سعيرا}، يعني: وقودا، فهذا أمرهم أبدا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن يهد الله يا محمد للإيمان به، ولتصديقك وتصديق ما جئت به من عند ربك، فوفّقه لذلك، فهو المهتد الرشيد المصيب الحقّ، لا من هداه غيره، فإن الهداية بيده.
"ومن يضلل" يقول: ومن يضلله الله عن الحقّ، فيخذله عن إصابته، ولم يوفّقه للإيمان بالله وتصديق رسوله، فلن تجد لهم يا محمد أولياء ينصرونهم من دون الله، إذا أراد الله عقوبتهم والاستنقاذ منهم.
"ونَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ" يقول: ونجمعهم بموقف القيامة من بعد تفرّقهم في القبور عند قيام الساعة على وجوههم "عُمْيا وَبُكْما" وهو جمع أبكم، ويعني بالبُكْم: الخُرْس. وَصُمّا وهو جمع أصمّ.
فإن قال قائل: وكيف وصف الله هؤلاء بأنهم يحشرون عميا وبكما وصما، وقد قال: "ورأى المُجْرِمون النّارَ فَظَنّوا أنّهُمْ مُوَاقِعُوها" فأخبر أنهم يرون، وقال: "إذَا رأتْهُمْ مِنْ مكانٍ بَعيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظا وزَفِيرا وإذَا أُلْقُوا مِنْها مَكانا ضَيّقا مُقَرّنِينَ دَعَوْا هُنالكَ ثُبُورا" فأخبر أنهم يسمعون وينطقون؟ قيل: جائز أن يكون ما وصفهم الله به من العَمي والبكم والصمم يكون صفتهم في حال حشرهم إلى موقف القيامة، ثم يجعل لهم أسماع وأبصار ومنطق في أحوال أُخر غير حال الحشر، ويجوز أن يكون ذلك، كما روي عن ابن عباس... قوله "ونَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عمْيا وَبْكْما وصُمّا"... أما قوله: "عُمْيا" فلا يرون شيئا يسرّهم. وقوله: "بُكْما" لا ينطقون بحجة. وقوله: "صُمّا" لا يسمعون شيئا يسرّهم...
وقوله: "مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ" يقول جلّ ثناؤه: ومصيرهم إلى جهنم، وفيها مساكنهم، وهم وَقُودها...
"كُلّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرا" يعني بقوله خبت: لانت وسكنت.
"زِدْناهُمْ سَعيرا" وذلك إسعار النار عليهم والتهابها فيهم وتأججها بعد خبوّها، في أجسامهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ومن يهد الله فهو المهتد} أي من وفق الله لقبول ما كان له من الهدى، وعصمه عما وسوس إليه الشيطان فهو المهتدي عند الله وعند من عقل الهدى {ومن يضلل} أي من خذله، ولم يعصمه حتى يقبل من الشيطان ما جاء به من وساوسه، فهو ضال {فلن تجد لهم أولياء من دونه} يحتمل {فلن تجد لهم أولياء من دونه} يهدونهم لدينهم، ويوفقونهم. أو لن تجد لهم أولياء ينصرونهم من دونه، ويدفعون عنهم ما نزل بهم من العذاب...
{عميا وبكما وصما} هذا يحتمل وجوها:
أحدها:سماهم عميا وبكما وصما لذهاب منافع هذه الحواس ولذتها في الآخرة، ليس على حقيقة ذهابها، لكن حال بينها وبين الانتفاع بما ما ذكر {لهم من فوقهم ظلل} الآية: (الزمر: 16) فتلك الظلل تحول بينها وبين رؤية الأشياء...
والثاني: سماهم في الدنيا عميا وبكما وصما، ليس على حقيقة ذهاب أعين الحواس، ولكن لما لم ينتفعوا بهذه الحواس في الدنيا، ولم يستعملوها في ما أمروا في استعمالها، نفى ذلك عنهم. فعلى ذلك في الآخرة...
والثالث: يحتمل على حقيقة ذهاب أعين هذه الحواس عقوبة لما لم يستعملوها في الدنيا لما له خلقت كقوله: {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} (طه: 125)...
{كلما خبت زدناهم سعيرا} قال (بعضهم): يخمد لهبها من غير أن يذهب وجع ما أصابهم، ثم يزداد لهم سعيرا. وقال بعضهم: {كلما خبت} أي نضجت جلودهم، وسكنت النار {زدناهم سعيرا} أي نعود بالنار على ما كانت، وجعلت تلتهب، وتستعر كقوله: {كلما نضجت جلودهم...} (النساء: 56)...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم أخبر عن صفة حشرهم إلى أرض القيامة، يعني الكفار، إنه يحشرهم "يوم القيامة "مجرورين "على وجوههم عميا" كما عموا عن الحق في الدنيا "بكما" جزاء على سكوتهم عن كلمة الإخلاص "وصما" لتركهم سماع الحق وإصغائهم إلى الباطل... فإن قيل: لم جاز أن يكونوا عميا عن العذاب يوم القيامة، ولم يجز أن يكونوا جهالا به؟. قلنا: لأن الجاهل به لا يجد من ألمه ما يجده العالم، ولأن الحكمة تقتضي إعلامه أن عقابه من أجل جرمه، لأنه واقع موقع التوبيخ له، وموقع الزجر في الخبر به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَن يَهْدِ الله} ومن يوفقه ويلطف به {فَهُوَ المهتدى} لأنه لا يلطف إلا بمن عرف أن اللطف ينفع فيه {وَمَن يُضْلِلِ} ومن يخذل {فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء} أنصاراً... {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا} كما كانوا في الدنيا، لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق، ويتصامّون عن استماعه، فهم في الآخرة كذلك: لا يبصرون ما يقرّ أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم. ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى. ويجوز أن يحشروا مؤقي الحواس من الموقف إلى النار بعد الحساب، فقد أخبر عنهم في موضع آخر أنهم يقرؤون ويتكلمون. {كُلَّمَا خَبَتْ} كما أكلت جلودهم ولحومهم وأفنتها فسكن لهبها، بدلوا غيرها، فرجعت ملتهبة مستعرة، كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها، ولا يزالون على الإفناء والإعادة، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث؛ ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد، وقد دل على ذلك بقوله {ذَلِكَ جَزَاؤُهُم} إلى قوله {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ}.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبر عز وجل أنهم يحشرون على الوجوه {عمياً وبكماً وصماً}، وهذا قد اختلف فيه، فقيل هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والهم والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينصفونه بحجة، وقيل هي حقيقة كلها، وذلك عند قيامهم من قبورهم، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم، فعند رد ذلك إليهم يرون النار ويسمعون زفيرها ويتكلمون بكل ما حكي عنهم في ذلك... "زدناهم سعيرا"... فالزيادة في حيزهم، وأما جهنم فعلى حالها من الشدة لا يصيبها فتور...
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات القوم في إنكار النبوة وأردفها بالوعيد الإجمالي وهو قوله: {إنه كان بعباده خبيرا بصيرا} ذكر بعده الوعيد الشديد على سبيل التفصيل، أما قوله: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه} فالمقصود تسلية الرسول، وهو أن الذين سبق لهم حكم الله بالإيمان والهداية وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال واستحال أن يوجد من يصرفهم عن ذلك الضلال... أما قوله تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما} فإن قيل كيف يمكنهم المشي على وجوههم قلنا الجواب من وجهين:
الأول: إنهم يسحبون على وجوههم قال تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوههم}...
قال حكماء الإسلام الكفار أرواحهم شديدة التعلق بالدنيا ولذاتها وليس لها تعلق بعالم الأبرار وحضرة الإله سبحانه وتعالى فلما كانت وجوه قلوبهم وأرواحهم متوجهة إلى الدنيا لا جرم كان حشرهم على وجوههم.
وأما قوله: {كلما خبت زدناهم سعيرا} ففيه مباحث:
البحث الأول: قال الواحدي الخبو سكون النار، يقال: خبت النار تخبو إذا سكن لهبها ومعنى خبت سكنت وطفئت يقال في مصدره الخبو وأخبأها المخبئ إخباء أي أخمدها ثم قال: {زدناهم سعيرا} قال ابن قتيبة زدناهم سعيرا أي تلهبا.
البحث الثاني: لقائل أن يقول إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب وقوله: {كلما خبت} يدل على أن العذاب يخف في ذلك الوقت قلنا كلما خبت يقتضي سكون لهب النار، أما لا يدل هذا على أنه يخف العذاب في ذلك الوقت.
البحث الثالث: قوله: {كلما خبت زدناهم سعيرا} ظاهره يقتضي وجوب أن تكون الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى وإذا كان كذلك كانت الحالة الأولى بالنسبة إلى الحالة الثانية تخفيفا.
والجواب: الزيادة حصلت في الحالة الأولى أخف من حصولها في الحالة الثانية فكان العذاب شديدا ويحتمل أن يقال لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في أوقاته غير مشعور به نعوذ بالله منه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تقدم أنه سبحانه وتعالى أعلم بالمهتدي والضال، وكان ختم هذه الآية مرشداً إلى أن المعنى: فمن علم منه بجوابه قابلية للخير وفقه للعمل على تلك المشاكلة، ومن علم منه قابلية للشر أضله، عطف عليه قوله تعالى: {ومن يهد الله} أي الذي له الأمر كله لأنه لا شريك له... وأشار إلى قلة المهتدي على طريقة الإحسان بإفراد ضميره، وإلى كثرة الضال بجمعه فقال تعالى: {فهو} أي لا غيره {المهتد} لا يمكن أحداً غيره أن يضله {ومن يضلل} فهو الضال لا هادي له، وذلك معنى قوله تعالى: {فلن تجد لهم} أي للضالين {أولياء} أي أنصاراً في هذه الدنيا {من دونه} يهدونهم ولا ينفعونهم بشيء أراد الله غيره، ولذلك نفوا أصلاً ورأساً، لأنهم إذا انتفى نفعهم كانوا كالعدم، وإذا انتفى عن الجمع انتفى عن المفرد من باب الأولى؛ فالآية من الاحتباك: خبر الأول يدل على حذف ضده ثانياً، ونتيجة الثاني تدل على حذف ضدها من الأول.
ولما كان يوم الفصل يوماً يظهر فيه لكل أحد في كل حالة من عظمته تعالى ما يضمحل معه كل عظمة قال تعالى: {ونحشرهم} بنون العظمة أي نجمعهم بكره {يوم القيامة} أي الذي هو محط الحكمة {على وجوههم} يمشون أو مسحوبين عليها إهانة لهم فيها كما لم يذلوها بالسجود لنا {عمياً وبكماً وصماً} كما كانوا في الدنيا لا ينتفعون بأبصارهم ولا نطقهم ولا أسماعهم، بل يكون ضرراً عليهم لما ينظرون من المعاطب، ويسمعون من المصائب، وينطقون به من المعايب؛ قال الرازي في اللوامع إذ يحشر المرء على ما مات عليه، فلم يكن له في الآخرة شيء إلا حصل أوله ومبدأه في الدنيا وتمامه في الآخرة -انتهى.
ولما كان المقام للانتقال من مقام إلى آخر، قدم البصر لأنه العمدة في ذلك، وثنى بالنطق لأنه يمكن الأعمى الاسترشاد، وختم بالسمع لأنه يمكن معه وحده نوع رشاد، وعطفها بالواو إن كان لتشريك الكل في كل من الأوصاف فللتهويل، لأن المتكلم إذا نطق بالعاطف ظن السامع الانتقال إلى شيء آخر، فإذا أتى بالوصف كان أروع للعلم بأن صاحبه عريق فيه، لما تقدم في براءة، وإن كان للتنويع فلتصويرهم بأقبح صورة من حيث إنه لا ينتفع فريق منهم بالآخر كبير نفع، فكأنه قيل: إلى أيّ مكان يحشرون؟ فقال تعالى: {مأواهم جهنم} تستعر عليهم وتتجهمهم، كل واحد منهم يقاسي عذابها وحده وإن كان وجهه إلى وجه صاحبه، لأنه لا يدرك سوى العذاب للختم على مشاعره، فيا طولها من غربة! ويا لها من كربة! فكأنه قيل: هل يفتر عنهم عذابها؟ فقيل: لا بل هم كل ساعة في زيادة، لأنها {كلما خبت} أي أخذ لهبها في السكون عند إنضاجها لجلودهم {زدناهم} أي بما لنا من العظمة {سعيراً} بإعادة الجلود.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد جعل الله للهدى وللضلال سننا، وترك الناس لهذه السنن يسيرون وفقها، ويتعرضون لعواقبها. ومن هذه السنن أن الإنسان مهيأ للهدى وللضلال، وفق ما يحاوله لنفسه من السير في طريق الهدى أو طريق الضلال. فالذي يستحق هداية الله بمحاولته واتجاهه يهديه الله؛ وهذا هو المهتدي حقا، لأنه اتبع هدى الله. والذين يستحقون الضلال بالإعراض عن دلائل الهدى وآياته لا يعصمهم أحد من عذاب الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى} [الإسراء: 94] جمعاً بين المانع الظاهر المعتاد من الهدى وبين المانع الحقيقي وهو حرمان التوفيق من الله تعالى، فمن أصَرّ على الكفر مع وضوح الدليل لذوي العقول فذلك لأن الله تعالى لم يوفقه. وأسباب الحرمان غضب الله على من لا يُلقِي عقله لتلقي الحق ويتخذُ هواه رائداً له في مواقف الجد.
ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {قل كفى باللَّه شهيداً بيني وبينكم} [الإسراء: 96] ارتقاء في التسلية، أي لا يحزنك عدم اهتدائهم فإن الله حرمهم الاهتداء لما أخذوا بالعناد قبل التدبر في حقيقة الرسالة.
والمراد بالهُدى الهدى إلى الإيمان بما جاء به الرسول.
والتعريف في {المهتد} تعريف العهد الذهني، فالمعرف مساوٍ للنكرة، فكأنه قيل: فهو مهتدٍ. وفائدة الإخبار عنه بأنه مهتد التوطئة إلى ذكر مقابله وهو {ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء}، كما يقال من عَرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا فُلان.
ويجوز أن تجعل التعريف في قوله: {المهتد} تعريف الجنس فيفيد قصر الهداية على الذي هداه الله قصراً إضافياً، أي دون من تريد أنتَ هداه وأضله الله. ولا يحتمل أن يكون المعنى على القصر الادعائي الذي هو بمعنى الكمال لأن الهدى المراد هنا هدي واحد وهو الهدي إلى الإيمان.
وحُذفت ياء {المهتد} في رسم المصحف لأنهم وقفوا عليها بدون ياء على لغة من يقف على الاسم المنقوص غيرِ المنون بحذف الياء، وهي لغة فصيحة غير جارية على القياس ولكنها أوثرت من جهة التخفيف لثقل صيغة اسم الفاعل مع ثقل حرف العلة في آخر الكلمة...
والخطاب في {فلن تجد لهم أولياء من دونه} للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن هذا الكلام مسوق لتسليته على عدم استجابتهم له، فنفي وجدان الأولياء كناية عن نفي وجود الأولياء لهم لأنهم لو كانوا موجودين لوجدهم هو وعرفهم.
والأولياء: الأنصار، أي لن تجد لهم أنصاراً يخلصونهم من جزاء الضلال وهو العذاب. ويجوز أن يكون الأولياء بمعنى متولي شأنهم، أي لن تجد لهم من يُصلح حالهم فينقلهم من الضلال كقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: 257].
وجُمع الأولياء باعتبار مقابلة الجمع بالجمع، أي لن تجد لكل واحد ولياً ولا لجماعته ولياً، كما يقال: ركب القوم دوابهم.
{ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا}
ذكر المقصود من نفي الولي أو المَئال له بذكر صورة عقابهم بقوله: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} الآية.
والحشر: جمع الناس من مواضع متفرقة إلى مكان واحد. ولما كان ذلك يستدعي مشيهم عدي الحشر بحرف (على) لتضمينه معنى (يمشون. وقد فهم الناس ذلك من الآية فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم كيف يمشون على وجوههم؟ فقال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم. والمقصود من ذلك الجمعُ بين التشويه والتعذيب لأن الوجه أرق تحملاً لصلابة الأرض من الرجل.
وهذا جزاء مناسب للجرم، لأنهم روّجوا الضلالة في صورة الحق ووسموا الحق بسمات الضلال فكان جزاؤهم أن حولت وجوههم أعضاءَ مشي عِوضاً عن الأرجل. ثم كانوا {عميا وبكما} جزاء أقوالهم الباطلة على الرسول وعلى القرآن، و {صمّاً} جزاء امتناعهم من سماع الحق، كما قال تعالى عنهم: {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} [فصّلت: 5]. وقال عنهم: {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 125 -126]، وقال عنهم: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى} [الإسراء: 72] أي من كان أعمى عن الحق فهو في الحشر يكون محروماً من متعة النظر. وهذه حالتهم عند الحشر.
والمأوى محل الأوِيِّ، أي النزول بالمأوى. أي المنزل والمقر.
وخبت النار خُبُوّاً وخَبْواً. نقص لهيبها.
والسعير: لهب النار، وهو مشتق من سعّر النارَ إذا هيج وقودها. وقد جرى الوصف فيه على التذكير تبعاً لتذكير اللهب. والمعنى: زدناهم لهباً فيها.
وفي قوله: {كلما خبت زدناهم سعيراً} إشكال لأن نار جهنم لا تخبو. وقد قال تعالى: {فلا يخفف عنهم العذاب} [البقرة: 86]. فعن ابن عباس: أن الكفرة وقود للنار قال تعالى: {وقودها الناس والحجارة} [البقرة: 24] فإذا أحرقتهم النار زال اللهب الذي كان متصاعداً من أجسامهم فلا يلبثون أن يعادوا كما كانوا فيعود الالتهاب لهم.
فالخُبُوّ وازدياد الاشتعال بالنسبة إلى أجسادهم لا في أصل نار جهنم. ولهذه النكتة سلط فعل {زدناهم} على ضمير المشركين للدلالة على أن ازدياد السعير كان فيهم، فكأنه قيل: كلما خبت فيهم زدناهم سعيراً، ولم يقل: زدناها سعيراً.
وعندي: أن معنى الآية جارٍ على طريق التهكّم وبادىء الإطماع المسفر عن خيبة، لأنه جعل ازدياد السعير مقترناً بكل زمان من أزمنة الخبُوّ، كما تفيده كلمة (كلما) التي هي بمعنى كل زمان. وهذا في ظاهره إطماع بحصول خبو لورود لفظ الخبو في الظاهر، ولكنه يؤول إلى يأس منه إذ يدل على دوام سعيرها في كل الأزمان، لاقتران ازدياد سعيرها بكل أزمان خبوها. فهذا الكلام من قبيل التمليح، وهو من قبيل قوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف: 40]، وقول إياس القاضي للخصم الذي سأله: على من قَضيت؟ فقال: على ابن أخت خالك.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ومن يهد الله}، أي من سلك سبيل الحق مستقيما فإن الله يهديه، فهداية الله تعالى ليس معناها الإجبار على الهداية، وإلا ما كان الجزاء الوفاق، فإنه لا جزاء إلا مع الاختيار، وإن المهتدي يكون مختارا في ابتداء السير، ثم أخذه في النهاية إلى الطريق الموصل للغاية بلطف الله تعالى وتوفيقه... {ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه} الإضلال ليس معناه الإجبار على الضلال، وإلا ما ساغ العقاب بعد الحساب، وإنما الإضلال معناه أن يسير الضال في طريق الضلال متبعا هواه وإغواء الشيطان، فيصل إلى نهايته بتقدير الله تعالى وكتابته في سجل الضالين... (أل) التي للجنس [في المهتد] تدل على الكمال والعموم... {مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا}. أي أنهم يسكنون جهنم، والتعبير بالمأوى، وهي عادة موضع القرار والاطمئنان فيه تهكم بهم لأن جهنم لا تكون موضع استقرار واطمئنان بل تكون موضع قلق وآلام...
إن الهداية نوعان: هداية الدلالة المطلقة والتي تكون لجميع الخلق المؤمن والكافر، فقد دل الله المؤمن والكافر على الطريق المستقيم وبينه لهم وأرشدهم إليه. والأخرى: هداية التوفيق والمعونة للقيام بمطلوبات المنهج الذي آمنوا به، وهذه خاصة بالمؤمن، فبعد أن دل الله آمن وصدق واعترف لله تعالى بالفضل والجميل، بأن أنزل له منهجاً ينظم حياته. فأتحفه الله تعالى بهداية التوفيق والمعونة... والحق سبحانه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بأسلوبين قرآنيين يوضحان هذين النوعين من الهداية، يقول تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.. "56 "} (سورة القصص): فنفى عن رسول الله هداية التوفيق والمعونة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يملكها، وفي آية أخرى قال تعالى: {وإنك لتهدي على صراطٍ مستقيمٍ "52 "} (سورة الشورى): فأثبت له هداية البيان والدلالة؛ لأن هذه هي مهمته كمبلغ عن الله، وهكذا أثبت له الحدث ونفاه عنه؛ لأن الجهة منفكة أي: أن جهة الإثبات غير جهة النفي... إذن: فالحق سبحانه وتعالى يهدي الجميع هداية إرشاد وبيان ودلالة، ويختص من آمن بهداية المعونة والتوفيق للقيام بمقتضيات المنهج... {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً}... ولنا هنا لفتة على هذه الآية، فقد ورد في القرآن كثيراً: صم بكم بهذا الترتيب إلا في هذه الآية جاءت هكذا: (بكماً وصماً) ومعلوم أن الصمم يسبق البكم؛ لأن الإنسان يحكي ما سمعه، فإذا لم يسمع شيئاً لا يستطيع الكلام، واللغة بنت السماع... لكن في هذه الآية جاء البكم أولاً، لماذا؟ لأنه ساعة يفاجأ بهول البعث والحشر كان المفروض أن يسأل أولاً عما يحدث، ثم يسمع بعد ذلك إجابة على ما هو فيه، لكنه فوجئ بالبعث وأهواله، ولم يستطع حتى الاستفسار عما حوله، وهكذا سبق البكم الصمم في هذا الموقف...
ثم يقول تعالى: {مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً}: مأواهم: أي: مصيرهم ونهايتهم. خبت: خبت النار. أي: ضعفت أو انطفأت، لكن مادام المراد من النار التعذيب، فلماذا تخبو النار أو تنطفئ؟ أليس في ذلك راحة لهم من العذاب؟... المتأمل في الآية يجد أن خفوت النار وانطفاءها هو في حد ذاته لون من العذاب؛ لأن استدامة الشيء يوطن صاحبه عليه، واستدامة العذاب واستمراره يجعلهم في إلف له، فإن خبت النار أو هدأت فترة فإنهم سيظنون أن المسألة انتهت، ثم يفاجئهم العذاب من جديد، فهذا أنكى لهم وآلم في تعذيبهم. وهذا يسمونه في البلاغة "اليأس بعد الإطماع"... وكذلك من ألوان العذاب التي قد يظنها البعض لوناً من الراحة في جهنم والعياذ بالله، أن الله تعالى [ربما سقطت كلمة بدَّل والله أعلم] جلودهم بجلود أخرى جديدة، لا رحمة بهم بل نكاية فيهم، كما قال تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.." 56 "} (سورة النساء): لأن الجلود إذا نضجت وتفحمت امتنع الحس، وبالتالي امتنعت إذاقة العذاب، إذن: العلة من تبديل الجلود تجديد الحس ليذوقوا العذاب إذاقة مستديمة...