وقيض اللّه ذلك الرجل الناصح ، وبادرهم إلى الإخبار لموسى بما اجتمع عليه رَأْيُ ملئهم . فقال : { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى } أي : ركضا على قدميه من نصحه لموسى ، وخوفه أن يوقعوا به ، قبل أن يشعر ، ف { قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُون } أي : يتشاورون فيك { لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ } عن المدينة { إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ } فامتثل نصحه .
وقوله - سبحانه - : { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى . . } معطوف على كلام محذوف يرشد إليه السياق .
والتقدير : وانتشر خبر قتل موسى للقبطى بالمدينة ، فأخذ فرعون وقومه فى البحث عنه لينتقموا منه . . . وجاء رجل - قيل هو مؤمن من آل فرعون - من أقصى المدينة ، أى : من أطرافها وأبعد مكان فيها { يسعى . . } أى : يسير سيرا سريعا نحو موسى ، فلما وصل إليه قال له : { ياموسى إِنَّ الملأ } وهم زعماء قوم فرعون .
{ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } أى : يتشاورون فى أمرك ليقتلوك ، أو يأمر بعضهم بعضا بقتلك ، وسمى التشاور بين الناس ائتمارا ، لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ، ويأتمر بأمره . ومنه قوله - تعالى - : { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } أى : وتشاوروا بينكم بمعروف .
وقوله : { فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين } أى : قال الرجل لموسى : مادام الأمر كذلك يا موسى فاخرج من هذه المدينة ، ولا تعرض نفسك للخطر ، إنى لك من الناصحين بذلك ، قبل أن يظفروا بك ليقتلوك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَآءَ رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىَ قَالَ يَمُوسَىَ إِنّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ } .
ذُكِر أن قول الإسرائيليّ سمعه سامع فأفشاه ، وأعلم به أهل القتيل ، فحينئذٍ طلب فرعون موسى ، وأمر بقتله فلما أمر بقتله ، جاء موسى مخبر ، وخبره بما قد أمر به فرعون في أمره ، وأشار عليه بالخروج من مصر ، بلد فرعون وقومه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، قال : حدثنا القاسم بن أبي أيوب ، قال : ثني سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : انطلق الفرعونيّ الذي كان يقاتل الإسرائيليّ إلى قومه ، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول : أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِي كمَا قَتَلْتَ نَفْسا بالأَمْسِ ؟ فأرسل فرعون الذبّاحين لقتل موسى ، فأخذوا الطريق الأعظم ، وهم لا يخافون أن يفوتهم ، وكان رجل من شيعة موسى في أقصى المدينة ، فاختصر طريقا قريبا ، حتى سبقهم إلى موسى ، فأخبره الخبر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : أعلمهم القبطيّ الذي هو عدوّ لهما ، فأتمر الملأ ليقتلوه ، فجاء رجل من أقصى المدينة ، وقرأ : إنّ . . . إلى آخر الاَية ، قال : كنا نحدّث أنه مؤمن آل فرعون .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذهب القبطي ، يعني الذي كان يقاتل الإسرائيلي ، فأفشى عليه أن موسى هو الذي قتل الرجل ، فطلبه فرعون وقال : خذوه فإنه صاحبنا ، وقال للذين يطلبونه : اطلبوه في بنيات الطريق ، فإن موسى غلام لا يهتدي الطريق ، وأخذ موسى في بنيات الطريق ، وقد جاءه الرجل فأخبره إنّ المَلأَ يأْتَمرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن أصحابه ، قالوا : لما سمع القبطيّ قول الإسرائيليّ لموسى أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِي كمَا قَتَلْت نَفْسا بالأَمْسِ سعى بها إلى أهل المقتول فقال : إن موسى هو قتل صاحبكم ، ولو لم يسمعه من الإسرائيلي لم يعلمه أحد ، فلما علم موسى أنهم قد علموا خرج هاربا ، فطلبه القوم فسبقهم قال : وقال ابن أبي نجيح : سعى القبطي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، قال : قال الإسرائيلي لموسى : أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِي كمَا قَتَلْت نَفْسا بالأَمْسِ وقبطي قريب منهما يسمع ، فأفشى عليهما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمع ذلك عدوّ ، فأفشى عليهما .
وقوله : وَجاءَ رَجُلٌ ذُكر أنه مؤمن آل فرعون ، وكان اسمه فيما قيل : سمعان . وقال بعضهم : با كان اسمه شمعون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبئيّ ، قال : اسمه شمعون الذي قال لموسى : إنّ المَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أصبح الملأ من قوم فرعون قد أجمعوا لقتل موسى فيما بلغهم عنه ، فجاء رجل من أقصى المدينة يسعى يقال له سمعان ، فقال : يا مُوسَى إنّ المَلأَ يأتمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ، فاخْرُجْ إنّي لَكَ مِنَ النّاصحِينَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى إلى موسى قالَ يا مُوسَى إنّ المَلأَ يأتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ، فاخْرُجْ إنّي لَكَ مِنَ النّاصحِينَ .
وقوله مِنْ أقْصَى المَدِينَةِ يقول : من آخر مدينة فرعون يَسْعَى يقول : يعجل . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن حُرَيج وَجاءَ رَجُلٌ مِن أقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى قال : يعجل ، ليس بالشدّ .
وقوله : قالَ يا مُوسَى إنّ المَلأَ يأتمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ يقول جلّ ثناؤه : قال الرجل الذي جاءه من أقصى المدينة يسعى لموسى : يا موسى إن أشراف قوم فرعون ورؤساءهم يتآمرون بقتلك ، ويتشاورون ويرتؤون فيك ومنه قول الشاعر :
ما تَأْتَمِرْ فِينا فَأمْرُكَ *** في يَمِنِكَ أو شِمالكْ
يعني : ما ترتئي ، وتهمّ به ومنه قول النمر بن تولب :
أرَى النّاسَ قَدْ أحْدَثُوا شِيمَةً *** وفي كُلّ حادِثَةٍ يُؤْتَمَرْ
أَيْ يُتَشَاوَرُ وَيُرْتَأَىَ فِيهَا .
وقوله : فاخْرُجْ إنّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ يقول : فاخرج من هذه المدينة ، إني لك في إشارتي عليك بالخروج منها من الناصحين .