{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ } من دون الله ، أي : ذهبت عقائدهم وأعمالهم ، التي أفنوا فيها أعمارهم على عبادة غير الله ، وظنوا أنها تفيدهم ، وتدفع عنهم العذاب ، وتشفع لهم عند الله ، فخاب سعيهم ، وانتقض ظنهم ، ولم تغن عنهم شركاؤهم شيئًا { وَظَنُّوا } أي : أيقنوا في تلك الحال { مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } أي : منقذ ينقذهم ، ولا مغيث ، ولا ملجأ ، فهذه عاقبة من أشرك بالله غيره ، بينها الله لعباده ، ليحذروا الشرك به .
{ وضل عنهم } أي نسوا ما كانوا يقولون في الدنيا ويدعون من الآلهة والأصنام ، ويحتمل أن يريد : { وضل عنهم } الأصنام ، أي تلفت لهم فلم يجدوا منها نصراً وتلاشى لهم أمرها .
وقوله : { وظنوا } يحتمل أن يكون متصلاً بما قبله ويكون الوقف عليه ، ويكون قوله : { ما لهم من محيص } استئناف نفي أن يكون لهم منجى أو موضع روغان ، يقول : حاص الرجل : إذا راغ يطلب النجاة من شيء ، ومنه الحديث : فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب{[10093]} ، ويكون الظن على هذا التأويل على بابه ، أي ظنوا أن هذه المقالة : { ما منا من شهيد } منجاة لهم ، أو أمر يموهون به ، ويحتمل أن يكون الوقف في قوله : { من قبل } ، ويكون : { وظنوا } منصلاً بقوله : { ما لهم من محيص } أي ظنوا ذلك ، ويكون الظن على هذا التأويل بمعنى اليقين وبه فسر السدي ، وهذه عبارة يطلقها أهل اللسان على الظن ، ولست تجد ذلك إلا فيما علم علماً قوياً وتقرر في النفس ولم يتلبس به بعد ، وإلا فمتى تلبس بالشيء وحصل تحت إدراك الحواس فلست تجدهم يوقعون عليه لفظة الظن .
{ ضلّ } : حقيقته غاب عنهم ، أي لم يجدوا ما كانوا يدعونهم من قبل في الدّنيا ، قال تعالى : { بل ضلُّوا عنهم } [ الأحقاف : 28 ] . فالمراد به هنا : غيبة أصنامهم عنهم وعدم وجودها في تلك الحضرة بقطع النّظر عن كونها ملقاة في جهنّم أو بقيت في العالم الدنيوي حين فنائه . وإذ لم يجدوا ما كانوا يزعمونه فقد علموا أنّهم لا محيص لهم ، أي لا ملجأ لهم من العذاب الذي شاهدوا إعداده ، فالظّنّ هنا بمعنى اليقين .
والمحيصُ مصدر ميمي أو اسم مكان من : حاص يَحيصُ ، إذا هرب ، أي ما لهم مفر من النّار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما كانوا يدعون}: يعبدون، يقول: ما عبدوا في الدنيا.
{ما لهم من محيص}، يعني من فرار من النار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وضلّ عن هؤلاء المشركين يوم القيامة آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، فأخذ بها طريق غير طريقهم، فلم تنفعهم، ولم تدفع عنهم شيئاً من عذاب الله الذي حلّ بهم.
"وَظَنّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ": وأيقنوا حينئذٍ ما لهم من ملجأ: أي ليس لهم ملجأ يلجؤون إليه من عذاب الله...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قد يعبر بالظن عن اليقين فيما طريقه الخبر دون العيان، لأن الخبر محتمل والعيان غير محتمل...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وظنوا} يحتمل أن يكون متصلاً بما قبله ويكون الوقف عليه، ويكون قوله: {ما لهم من محيص} استئناف نفي أن يكون لهم منجى أو موضع روغان، يقول: حاص الرجل: إذا راغ يطلب النجاة من شيء، ومنه الحديث: فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، ويكون الظن على هذا التأويل على بابه، أي ظنوا أن هذه المقالة: {ما منا من شهيد} منجاة لهم، أو أمر يموهون به.
{وظنوا ما لهم من محيص} هذا ابتداء كلام من الله تعالى يقول: إن الكفار ظنوا أولا، ثم أيقنوا أنه لا محيص لهم عن النار والعذاب، ومنهم من قال إنهم ظنوا أولا أنه لا محيص لهم عن النار، ثم أيقنوا ذلك بعده، وهذا بعيد لأن أهل النار يعلمون أن عقابهم دائم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما قرر جهلهم، أتبعه عجزهم فقال: {وضل} أي ذهب وشذ وغاب وخفي {عنهم} ولما كانت معبوداتهم إما ممن لا يعقل كالأصنام، وإما في عداد ذلك لكونهم لا فعل لهم في الحقيقة، عبر عنهم بأداة ما لا يعقل فقال: {ما كانوا} أي دائماً {يدعون} في كل حين على وجه العبادة. ولما كان دعاؤهم لهم غير مستغرق لزمان القبل، أدخل الجار فقال: {من قبل} فهم لا يرونه فضلاً عن أنهم يجدون نفعه ويلقونه، كأنهم كانوا لما هم عريقون فيه من الجهل وسوء الطبع يتوقعون أن يظفروا بهم فيشفعوا لهم، فلذلك عبر بالظن في قوله: {وظنوا} أي في ذلك الحال... {ما لهم} وأبلغ في النفي بإدخال الجار على المبتدأ المؤخر فقال {من محيص}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ما عادوا يعرفون شيئاً عن دعواهم السابقة. ووقع في نفوسهم أن ليس لهم مخرج مما هم فيه وتلك أمارة الكرب المذهل، الذي ينسي الإنسان ماضيه كله؛ فلا يذكر إلا ما هو فيه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ضلّ}: حقيقته غاب عنهم، أي لم يجدوا ما كانوا يدعونهم من قبل في الدّنيا.