واللام فى قوله { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ.. } يصح أن تكون للتعليل، وأن تكون هى التى تسمى بلام العاقبة أو الصيرورة.
قال الشوكانى: " واللام فى { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ.. } لام كى. أى: لكى يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضر، حتى لكأن هذا الكفر منهم الواقع فى موقع الشكر الواجب عليهم، غرض لهم ومقصد من مقاصدهم. وهذا غاية فى العتو والعناد ليس وراءها غاية.
وقيل: اللام للعاقبة: يعنى ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلا الكفر.. ".
وقوله - سبحانه -: { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } تهديد ووعيد لهم على جحودهم لنعم الله - تعالى - والجملة الكريمة معمولة لقول محذوف.
أى: قل لهم - أيها الرسول الكريم - اعملوا ما شئتم وانتفعوا من متاع الدنيا كما أردتم فسوف تعلمون سوء عاقبتكم يوم القيامة.
فينتهوا إلى الكفر بنعمة الله عليهم ، وبالهدى الذي آتاهم . . فلينظروا إذن ما يصيبهم بعد المتاع القصير : ( فتمتعوا فسوف تعلمون ) . .
هذا النموذج الذي يرسمه التعبير هنا ( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ، ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشكرون ) . . نموذج متكرر في البشرية . ففي الضيق تتوجه القلوب إلى الله ، لأنها تشعر بالفطرة إلا عاصم لها سواه . وفي الفرج تتلهى بالنعمة والمتاع ، فتضعف صلتها بالله ، وتزيغ عنه ألوانا من الزيغ تبدو في الشرك به وتبدو كذلك في صور شتى من تأليه قيم وأوضاع ولو لم تدع باسم الإله ! .
ولقد يشتد انحراف الفطرة وفسادها ، فإذا بعضهم في ساعة العسرة لا يلجأ إلى الله ؛ ولكن يلجأ إلى بعض مخاليقه يدعوها للنصرة والإنقاذ والنجاة ، بحجة أنها ذات جاه أو منزلة عند الله ، أو بغير هذه الحجة في بعض الأحيان ، كالذين يدعون الأولياء لإنقاذهم من مرض أو شدة أو كرب . . فهؤلاء أشد انحرافا من مشركي الجاهلية الذين يرسم لهم القرآن ذلك النموذج الذي رأيناه !
وقوله : { ليكفروا } ، يجوز أن يكون اللام لام الصيرورة ، أي : فصار أمرهم ليكفروا ، وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا ، ويجوز أن تكون لام أمر على معنى التهديد والوعيد ، كقوله : { اعملوا ما شئتم }{[7342]} [ فصلت : 40 ] . والكفر هنا يحتمل أن يكون كفر الجحد بالله والشرك ، ويؤيده قوله : { بربهم يشركون } ، ويحتمل أن يكون كفر النعمة وهو الأظهر ، لقوله : { بما آتيناهم } ، أي : بما أنعمنا عليهم ، وقرأ الجمهور { فتمتعوا فسوف تعلمون } ، على معنى قل لهم يا محمد ، وروى أبو رافع عن النبي عليه السلام : «فيُمتعوا » ، بياء من تحت مضمومة . «فسوف يعلمون » ، على معنى ذكر الغائب ، وكذلك في الروم{[7343]} ، وهي قراءة أبي العالية ، وقرأ الحسن : «فتمتعوا » ، على الأمر . «فسوف يعلمون » بالياء على ذكر الغائب ، وعلى ما روى أبو رافع يكون «يمتعوا » ، في موضع نصب عطفاً على «يكفروا » ، إن كانت اللام لام كي ، أو نصباً بالفاء في جواب الأمر ، إن كانت اللام لام أمر ، ومعنى التمتع في هذه الآية بالحياة الدنيا التي مصيرها إلى الفناء والزوال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ليكفروا بما ءاتيناهم}، يعني: لئلا يكفروا بالذي أعطيناهم من الخير والخصب في كشف الضر عنهم... {فتمتعوا} إلى آجالكم قليلا، {فسوف تعلمون}، هذا وعيد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"ليَكْفُرُوا بِمَا آتَيْناهُمْ" يقول: ليجحدوا الله نعمته فيما آتاهم من كشف الضرّ عنهم. "فَتَمَتّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ"، وهذا من الله وعيد لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآيات وتهديد لهم، يقول لهم جلّ ثناؤه: تمتعوا في هذه الحياة الدنيا إلى أن توافيكم آجالكم، وتبلغوا الميقات الذي وقته لحياتكم وتمتعكم فيها، فإنكم من ذلك ستصيرون إلى ربكم، فتعلمون بلقائه وبال ما كسبت أيديكم، وتعرفون سوء مغبة أمركم، وتندمون حين لا ينفعكم الندم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فتمتعوا فسوف تعلمون} هذا وعيد من الله. ثم يقول: {فسوف تعلمون} ما ينزل بكم بكفران نعمه، وصرف الشكر عنه، أنه مهلككم ومنزل بكم العذاب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لِيَكْفُرُواْ بِمَا ءاتيناهم}، من نعمة الكشف عنهم، كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة. {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، تخلية ووعيد.
قال تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم} وفي هذه اللام وجهان: الأول: أنها لام كي والمعنى أنهم أشركوا بالله غيره في كشف ذلك الضر عنهم. وغرضهم من ذلك الإشراك أن ينكروا كون ذلك الإنعام من الله تعالى، ألا ترى أن العليل إذا اشتد وجعه تضرع إلى الله تعالى في إزالة ذلك الوجع، فإذا زال أحال زواله على الدواء الفلاني والعلاج الفلاني، وهذا أكثر أحوال الخلق.
وقال مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي رحمه الله: في اليوم الذي كنت أكتب هذه الأوراق وهو اليوم الأول من محرم سنة اثنتين وستمائة حصلت زلزلة شديدة، وهذه عظيمة وقت الصبح ورأيت الناس يصيحون بالدعاء والتضرع، فلما سكتت وطاب الهواء، وحسن أنواع الوقت نسوا في الحال تلك الزلزلة وعادوا إلى ما كانوا عليه من تلك السفاهة والجهالة، وكانت هذه الحالة التي شرحها الله تعالى في هذه الآية تجري مجرى الصفة اللازمة لجوهر نفس الإنسان.
والقول الثاني: أن هذه اللام لام العاقبة كقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} يعني أن عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفر.
واعلم أن المراد بقوله: {بما آتيناهم} فيه قولان: الأول: أنه عبارة عن كشف الضر وإزالة المكروه...
واعلم أنه تعالى توعدهم بعد ذلك فقال: {فتمتعوا} وهذا لفظ أمر، والمراد منه التهديد، كقوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} وقوله: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا}.
ثم قال تعالى: {فسوف تعلمون} أي عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا ملزوماً بجحد النعمة، وكان من شأن العاقل البصير بالأمور -كما يدعونه لأنفسهم- أن يغفل عن شيء من لوازم ما يقدم عليه، قال: {ليكفروا}، أي: يوقعوا التغطية لأدلة التوحيد التي دلتهم عليها غرائز عقولهم. {بما ءاتيناهم}، أي: من النعمة، تنبيهاً على أنهم ما أقدموا على ذلك الشرك إلا لهذا الغرض، إحلالاً لهم محل العقلاء البصراء الذين يزعمون أنهم أعلاهم، ورفعاً لهم عن أحوال من يقدم على ما لا يعلم عاقبته، ولا خزي أعظم من هذا؛ لأنه أنتج أن الجنون خير من عقل يكون هذا مآله، فهو من باب التهكم. {فتمتعوا} أي فتسبب عن هذا أن يُقبل على هذا الفريق إقبال عالم قادر عليه قائلاً: تمتعوا، {فسوف} أي: فإن تمتعكم على هذا الحال سبب لأن يقال لكم تهديداً: سوف {تعلمون} غب تمتعكم، فهو إقبال الغضب والتهديد بسوء المنقلب، وحذف المتهدد به أبلغ وأهول؛ لذهاب النفس في تعيينه كل مذهب...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والالتفاتُ إلى الخطاب للإيذان بتناهي السَّخَط... وفيه وعيدٌ أكيدٌ، منبئ عن أخذٍ شديد، حيث لم يُذكر المفعولُ إشعاراً بأنه مما لا يوصف...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نموذج متكرر في البشرية. ففي الضيق تتوجه القلوب إلى الله، لأنها تشعر بالفطرة إلا عاصم لها سواه. وفي الفرج تتلهى بالنعمة والمتاع، فتضعف صلتها بالله، وتزيغ عنه ألوانا من الزيغ تبدو في الشرك به وتبدو كذلك في صور شتى من تأليه قيم وأوضاع ولو لم تدع باسم الإله!. ولقد يشتد انحراف الفطرة وفسادها، فإذا بعضهم في ساعة العسرة لا يلجأ إلى الله؛ ولكن يلجأ إلى بعض مخاليقه يدعوها للنصرة والإنقاذ والنجاة، بحجة أنها ذات جاه أو منزلة عند الله، أو بغير هذه الحجة في بعض الأحيان، كالذين يدعون الأولياء لإنقاذهم من مرض أو شدة أو كرب.. فهؤلاء أشد انحرافا من مشركي الجاهلية الذين يرسم لهم القرآن ذلك النموذج الذي رأيناه!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لام التعليل متعلّقة بفعل {يشركون} [سورة النحل: 54] الذي هو من جواب قوله تعالى: {إذا كشف الضر عنكم} [سورة النحل: 54]. والكفر هنا كفر النّعمة، ولذلك علّق به قوله تعالى: {بما آتيناهم} أي من النّعم. وكفر النّعمة ليس هو الباعث على الإشراك فإن إشراكهم سابق على ذلك وقد استصحبوه عقب كشف الضرّ عنهم، ولكن شبهت مقارنة عودهم إلى الشرك بعد كشف الضرّ عنهم بمقارنة العلّة الباعثة على عملٍ لذلك العمل. ووجه الشبه مبادرتهم لكفر النّعمة دون تريّث. فاستعير لهذه المقارنة لام التعليل، وهي استعارة تبعيّة تمليحيّة تهكميّة ومثلها كثير الوقوع في القرآن. وقد سمى كثير من النحاة هذه اللام لام العاقبة، ومثالها عندهم قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [سورة القصص: 8]، وقد بيّناها في مواضع آخرُها عند قوله تعالى {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة} في هذه السورة [النحل: 25] وضمير {ليكفروا} عائد إلى {فريق} [سورة النحل: 54] باعتبار دلالته على جمع من الناس. والإيتاء: الإعطاء. وهو مستعار للإنعام بالحالة النافعة، لأن شأن الإعطاء أن يكون تمكيناً بالمأخوذ المحبوب. وعبّر بالموصول {بما آتيناهم} لما تؤذن به الصّلة من كونه نعمة تفظيعاً لكفرانهم بها، لأن كفران النّعمة قبيح عند جميع العقلاء. وفرع عليه مخاطبتهم بأمرهم بالتمتّع أمرَ إمهال وقلّة اكتراث بهم وهو في معنى التخلية. والتمتّع: الانتفاع بالمتاع. والمتاع الشيء الذي ينتفع به انتفاعاً محبوباً ويسرّ به. ويقال: تمتّع بكذا واستمتع. وتقدّم المتاع في آخر سورة براءة. والخطاب للفريق الذين يشركون بربّهم على طريقة الالتفات. والأظهر أنه مقول لقولٍ محذوف. لأنه جاء مفرعاً على كلام خوطب به الناس كلّهم كما تقدم، فيكون المفرع من تمام ما تفرّع عليه. وذلك ينافي الالتفات الذي يقتضي أن يكون مرجع الضمير إلى مرجع ما قبله. والمعنى: فنقول تمتّعوا بالنّعم التي أنتم فيها إلى أمدٍ. وفرع عليه التهديدُ بأنهم سيعلمون عاقبة كفران النّعمة بعد زوال التمتّع. وحذف مفعول {تعلمون} لظهوره من قوله تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم} أي تعلمون جزاء كفركم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
اللام هنا لام الأمر، كاللام في قوله تعالى: {ليقض علينا ربك} [الزخرف 77]... وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم، "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، فالأمر ليس للطلب، ولكن لبيان أنهم قد فسدت فطرتهم وضلت عقولهم، حتى صاروا جديرين بألا يكون منهم إلا الشر...
وإذا كانوا على ذلك النحو من الفساد والضلال النفسي فجدير أن يتمتعوا كما تتمتع البهائم من غير تفكر ولا تدبر؛ ولذا {فتمتعوا} (الفاء) للإفصاح إذا كنتم على هذا الضلال وكفران النعمة، والإشراك بربكم... وقوله تعالى: {فسوف تعلمون} (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي فيها بيان لما يستقبلهم، وسوف لتأكيد الفعل في المستقبل، أي إذا كنتم في حاضركم متمتعين بما تملكون مع متع، فمستقبلكم المغيب عنكم ستعلمونه علم معاينة وهو عذاب شديد...
وكلمة "تمتعوا "هنا تدل على أن الله تعالى قد يوالي نعمه حتى على من يكفر بنعمته، وإلا فلو حجب عنهم نعمه فلن يكون هناك تمتع...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي آخر آية من الآيات مورد البحث، يأتي التهديد بعد إِيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية: (ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون).
وَيُشَبَّهُ ذلك بتوجيه النصائح والإِرشادات لمنحرف متخلف لا يفيد معه هذا الأُسلوب المنطقي، فيقطع معه الحديث باللين ليواجه بالتهديد، عسى أن يرعوي، فيقال له: مع كل ما قلنا لك... افعل ما شئت، ولكن سترى نتيجة عملك عاجلا أم آجلا.
وعلى هذا فتكون اللام في «ليكفروا» يراد به التهديد، وكذا «تمتعوا» أمر يراد به التهديد أيضاً، أمّا مجيء الفعل الأوّل بصيغة الغائب «ليكفروا»، والثّاني بصيغة المخاطب «تمتعوا»، فكأنه افترض غيابهم أوّلاً، فقال: ليذهبوا ويكفروا بهذه النعم، وعند تهديدهم يلتفت إِليهم ويقول: تمتعوا بهذه النعم الدنيوية قليلا، فسيأتي اليوم الذي تدركون فيه عظم خطئكم، وسترون عاقبة أعمالكم.