ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن حاله واستمراره على كفره وطغيانه ، قال مخبرا عن نفسه ، على وجه الشكر لربه ، والإعلان بدينه ، عند ورود المجادلات والشبه : { لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا } فأقر بربوبية لربه ، وانفراده فيها ، والتزم{[489]} طاعته وعبادته ، وأنه لا يشرك به أحدا من المخلوقين ،
ثم أخبره أن نعمة الله عليه بالإيمان والإسلام ، ولو مع قلة ماله وولد ، أنها هي النعمة الحقيقية ، وأن ما عداها معرض للزوال والعقوبة عليه والنكال ، فقال : { إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا }
ثم يعلن الرجل الصالح موقفه بشجاعة ووضوح ، فيقول لصاحبه صاحب الجنتين : { لكنا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } .
أى : إن كنت أنت يا هذا قد كفرت بالله الذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ، فإنى لست بكافر ، ولكنى أنا مؤمن ، أعترف له بالعبادة والطاعة وأقول : هو الله - تعالى - وحده ربى ، ولا أشرك معه أحدا من خلقه لا فى الربوبية ، ولا فى الألوهية ، ولا فى الذات ولا فى الصفات .
وقوله - سبحانه - فى هذه الآية { لكنا . . . } أصله : " لكن أنا " أى : لكن أنا أقول هو الله ربى . فحذفت همزة " أنا " وأدغمت نون " لكن " فى نون أنا بعد حذف الهمزة .
وجمهور القراء يقرءون فى الوصل " لكن " بدون ألف بعد النون المشددة وقرأ أبو عامر فى الوصل " لكنا " بالألف - أما فى حالة الوقف فقد اتفق الجميع على إثبات الألف .
قال صاحب الكشاف : قوله : { لكنا هُوَ الله رَبِّي } أصله : لكن أنا فحذفت الهمزة ، وألقيت حركتها على نون لكن ، فتلاقت النونان فكان الإِدغام ، ونحوه قول القائل :
وترميننى بالطَّرف أى أنت مذنب . . . وتقلينَنى ، لكنَّ إياك لا أَقْلِى
و " هو " ضمير الشأن : أى : والشأن أن الله ربى : والجملة خبر أنا . والراجع منها إليه ياء الضمير .
فإن قلت : هو استدراك لأى شئ ؟ قلت : لقوله { أكفرت . . } قال لأخيه أنت كافر بالله ، لكنى مؤمن موحد ، كما تقول : زيد غائب لكن عمرا حاضر .
واختلف القراءة في قوله { لكنا } فقرأ ابن عامر ونافع في رواية المسيبي «لكنا » في الوصل والوقف ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «لكن » في الوصل و «لكنا » في الوقف ، ورجحها الطبري ، وهي رواية ورش وقالون عن نافع ، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب والحسن «لكن أنا هو الله ربي » ، وقرأ عيسى الثقفي والأعمش بخلاف «لكن هو الله ربي » فأما هذه الأخيرة فبين على الأمر والشأن ، وأما الذي قبلها فعلى معنى لكن أنا أقول ومن هذه الفرقة ، من قرأ «لكننا » ، على حذف الهمزة وتخفيف النونين ، وفي هذا نظر ، وأما من قرأ «لكننا » ، فأصله عنده لكن أنا : حذفت الهمزة على غير قياس ، وأدغمت النون في النون ، وقد قال بعض النحويين : نقلت حركة الهمزة إلى النون فجاء لكننا ، ثم أدغمت بعد ذلك فجاء «لكنا » ، فرأى بعض القراء أن بالإدغام استغني عن الألف الأخيرة ، فمنهم من حذفها في الوصل ، ومنهم من أثبتها في الوصل والوقف ، ليدل على أصل الكلمة ، ويتوجه في «لكنا » أن تكون لكن لحقتها نون الجماعة التي في «خرجنا وضربنا » ، ووقع الإدغام لاجتماع المثلين ، ثم وجد في { ربي } على المعنى ، ولو اتبع اللفظ لقال ربنا ذكره أبو علي ، ويترجح بهذا التعليل قول من أثبت الألف في حال الوصل ، والوقف ، ويتوجه في { لكنا } أن تكون المشهورة من أخوات إن ، المعنى : لكن قولي : هو { الله ربي } ، أما أني لا أعرف من يقرأ بها وصلاً ووقفاً ، وذلك يلزم من يوجه هذا الوجه ، وروى هارون عن أبي عمرو «ولكنه هو الله ربي » بضمير لحق «لكن » وباقي الآية بين .
لفظ { لكنا } مركب من ( لكنْ ) بسكون النون الذي هو حرف استدراك ، ومن ضمير المتكلم ( أنا ) . وأصله : لكن أنا ، فحذفت الهمزة تخفيفاً كما قال الزجاج ، أي على غير قياس لا لعلة تصريفية ، ولذلك لم يكن للهمزة حكم الثابت فلم تمنع من الإدغام الذي يمنع منه ما هو محذوف لعلة بناءً على أن المحذوف لعلةٍ بمنزلة الثابت ، ونقلت حركتها إلى نون ( لكنْ ) الساكنة دليلاً على المحذوف فالتقى نونان متحركتان فلزم إدغامهما فصار ( لكنا ) . ولا يجوز أن تكون ( لكِنّ ) المشددة النون المفتوحتها أشبعت فتحتها ، لأن لكن المشددة من أخوات إنّ تقتضي أن يكون الاسم بعدها منصوباً وليس هنا ما هو ضمير نصب ، ولا يجوز اعتبار ضمير ( أنا ) ضمير نصب اسم ( لكنّ ) لأن ضمير المتكلم المنصوب يجب أن يكون بياء المتكلم ، ولا اعتبارهُ ضميرَ المتكلم المشارك لمنافاته لإفراد ضمائره بعده في قوله : { هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً } .
( فأنا ) مبتدأ ، وجملة { هو الله ربي } ضمير شأن وخبرُه ، وهي خبر ( أنا ) ، أي شأني هو الله ربي . والخبر في قوله : { هو الله ربي } مستعمل في الإقرار ، أي أعترف بأنه ربي خلافاً لك .
وموقع الاستدراك مضادةُ ما بعد ( لكن ) لما قبلها ، ولا سيما إذا كان الرجلان أخوين أو خليلين كما قيل فإنه قد يتوهم أن اعتقادهما سواء .
وأكد إثبات اعترافه بالخالق الواحد بمؤكدات أربعة ، وهي : الجملتان الاسميتان ، وضمير الشأن في قوله : { لكنا هو الله ربي } ، وتعريف المسند والمسند إليه في قوله : { الله ربي } المفيد قصر صفة ربوبية الله على نفس المتكلم قصراً إضافياً بالنسبة لمخاطبه ، أي دونك إذ تعبد آلهة غير الله ، وما القصر إلا توكيد مضاعف ، ثم بالتوكيد اللفظي للجملة بقوله : { ولا أشرك بربي أحداً } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.