وبعد أن بين القرآن ما أصاب الظالمين من عذاب دنيوى .
عقبه ببيان ما سيحل بهم من عذاب أخروى ، فقال :
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } .
والمراد بالذين أرسل إليهم جميع الأمم التي بلغتها دعوة الرسل ، يسأل كل فرد منها عن رسوله إليه وعن تبليغه لدعوة الله ، ويسأل المرسلون عن التبليغ منهم وعن إجابة أقوامهم لهم ، وقد ورد ذلك في كثير من آيات القرآن . قال - تعالى - : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } وقال تعالى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين } والمعنى : فلنسألن المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم الذين جاءوا لهدايتهم ، ولنسألن المرسلين عما أجيبوا به من أقوامهم وعن تبليغهم لرسالات الله ، ولنقصن على الرسل والمرسل إليهم كل ما وقع منهم عن علم دقيق وإحصاء شامل ، لأننا لا يغيب عنا شىء من أحوالهم .
وعطفت جملة { فَلَنَسْأَلَنَّ } على ما قبلها بالفاء ، لأن هذا السؤال سيكون في الآخرة ، وما ذكر قبل ذلك من عقوبات هو آخر أمرهم في الدنيا . فالآية الكريمة بيان لعذابهم الأخروى إثر بيان عذابهم الدنيوى .
وأكد الخبر بلام القسم ونون التوكيد ، لأن المخاطبين كانوا ينكرون البعث والجزاء .
فإن قيل : قد أخبر الله عنهم قبل ذلك أنهم قالوا عند نزول العذاب بهم { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } فلماذا يسألون يوم القيامة مع أنهم اعترفوا بظلمهم في الدنيا ؟
فالجواب : أنهم لما اعترفوا سئلوا بعد ذلك عن سبب هذا الظلم ، والمقصود من هذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم لكفرهم وعنادهم .
فإن قيل : فما فائدة سؤال الرسل مع العلم بأنهم قد بلغوا الأمانة ونصحوا للأمة ؟
فالجواب من فوائده الرد على من أنكر من المشركين أن الرسل قد بلغوهم ، فقد حكى القرآن أن بعضهم قال : { مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } ومن فوائده - أيضاً - مضاعفة الثواب لهؤلاء الرسل الكرام حيث إنهم قد بذلوا قصارى جهدهم في التبشير والإنذار ، ولم يصدر عنهم تقصير قط . فسؤال المرسل إليهم إنما هو سؤال توبيخ وإفضاح ، وسؤال المرسلين إنما هو سؤال استشهاد بهم وإفصاح .
فإن قيل : هناك بعض الآيات تثبت أن المجرمين لن يسألوا يوم القيامة كما في قوله تعالى : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } وكما في قوله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } فكيف نجمع بين هذه الآيات الت تنفى السؤال
والآيات التي تثبته كما في قوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } .
فالجواب ، أن في يوم القيامة مواقف متعددة ، فقد يسألون في موقف الحساب ولا يسألون في موقف العقاب .
أو أن المراد بالسؤال في قوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ الذين } التوبيخ والتقريع . والمنفى في قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ } سؤال الاستعلام ، أى أن المذنب لا يسأل يوم القيامة هل أذنبت أو لا ، لأن الله لا تخفى عليه خافية ، وإنما يسأل : لم فعلت كذا ؟ بعد أن يعرفه - سبحانه - بما فعله ،
بينما المشهد هكذا معروضاً في الدنيا إذا السياق ينتقل ، وينقل معه السامعين من فوره إلى ساحة الآخرة . بلا توقف ولا فاصل . فالشريط المعروض موصول المشاهد ، والنقلة تتخطى الزمان والمكان ، وتصل الدنيا بالآخرة ، وتلحق عذاب الدنيا بعذاب الآخرة ؛ وإذا الموقف هناك في لمحة خاطفة :
( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم ، وما كنا غائبين . والوزن يومئذ الحق . فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ) . .
إن التعبير على هذا النحو المصور الموحي ، خاصية من خواص القرآن . . إن الرحلة في الأرض كلها تطوى في لمحة . وفي سطر من كتاب . لتلتحم الدنيا بالآخرة ؛ ويتصل البدء بالختام !
فإذا وقف هؤلاء الذين تعرضوا لبأس الله في هذه الأرض وقفتهم هناك للسؤال والحساب والجزاء ، فإنه لا يكتفى باعترافهم ذاك حين واجهوا بأس الله الذي أخذهم وهم غارون : ( إنا كنا ظالمين ) . .
ولكنه السؤال الجديد ، والتشهير بهم على الملأ الحاشد في ذلك اليوم المشهود :
( فلنسألن الذين أرسل إليهم ، ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم - وما كنا غائبين )
فهو السؤال الدقيق الوافي ، يشمل المرسل إليهم ويشمل المرسلين . . وتعرض فيه القصة كلها على الملأ الحاشد ؛ وتفصل فيه الخفايا والدقائق ! . . يسأل الذين جاءهم الرسل فيعترفون . ويسأل الرسل فيجيبون .
وقوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } الآية ، كقوله [ تعالى ]{[11552]} { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 65 ] وقوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ } [ المائدة : 109 ] فالرَّبُّ تبارك وتعالى يوم القيامة يسأل الأمم عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به ، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ{[11553]} رسالاته ؛ ولهذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } قال : يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين ، ويسأل المرسلين عما بلغوا .
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، حدثنا أبو سعيد الكنْدي ، حدثنا المحاربي ، عن لَيْث ، عن نافع ، عن ابن عمر [ رضي الله عنهما ]{[11554]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلكم رَاعٍ وكلكم مسئول عن رَعِيَّتِهِ ، فالإمام يُسْأل عن الرجل{[11555]} والرجل يسأل عن أهله{[11556]} والمرأة تسأل عن بيت زوجها ، والعبد يسأل عن مال سيده " . قال الليث : وحدثني ابن طاوس ، مثله ، ثم قرأ : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ }{[11557]} .
وهذا الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين بدون هذه الزيادة{[11558]}
وقوله تعالى : { فلنسئلن الذين أرسل إليهم } الآية وعيد من الله عز وجل لجميع العالم ، أخبر أنه يسأل الأمم أجمع عما بلغ إليهم عنه وعن جميع أعمالهم ويسأل النبيين عما بلغوا .
قال القاضي أبو محمد : وقد ُنفي السؤال في آيات وذلك هو سؤال الاستفهام الحقيقي . وقد ُأثبت في آيات كهذه الآية وهذا هو سؤال التقرير ، فإن الله قد أحاط علماً بكل ذلك قبل السؤال فأما الأنبياء والمؤمنون فيعقبهم جوابهم رحمة وكرامة ، وأما الكفار ومن نفذ عليه الوعيد من العصاة فيعقبهم جوابهم عذاباً وتوبيخاً ، فمن أنكر منهم قص عليه بعلم ، وقرأ ابن مسعود ابن عباس «فلنسألن الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا ولنسألن المرسلين » .