ولما كانت هذه الأقوال منهم عجيبة جدا قال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ } وهي : أنه هلا كان ملكا وزالت عنه خصائص البشر ؟ أو معه ملك لأنه غير قادر على ما قال ، أو أنزل عليه كنز ، أو جعلت له جنة تغنيه عن المشي في الأسواق أو أنه كان مسحورا .
{ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا } قالوا أقوالا متناقضة كلها جهل وضلال وسفه ، ليس في شيء منها هداية بل ولا في شيء منها أدنى شبهة تقدح في الرسالة ، فبمجرد النظر إليها وتصورها يجزم العاقل ببطلانها ويكفيه عن ردها ، ولهذا أمر تعالى بالنظر إليها وتدبرها والنظر : هل توجب التوقف عن الجزم للرسول بالرسالة والصدق ؟
وقد رد الله - تعالى - على مقترحاتهم الفاسدة ، بالتهوين من شأنهم و بالتعجيب من تفاهة تفكيرهم ، وبالتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم فقال : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } .
أى : انظر - أيها الرسول الكريم - إلى هؤلاء الظالمين ، وتعجب من تعنتهم ، وضحالة عقولهم . وسوء أقاويلهم . حي وصفوك تارة بالسحر . وتارة بالشعر . وتارة بالكهانة . وقد ضلوا عن الطريق المستقيم فى كل ما وصفوك به . وبقوا متحيرين فى باطلهم ، دون أن يستطيعوا الوصول إلى السبيل الحق . وإلى الصراط المستقيم .
فالآية الكريمة تعجيب من شأنهم ، واستعظام لما نطقوا به . وحكم عليهم بالخيبة والضلال ، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما قالوه فى شأنه .
وهي كلمة ظالمة فاحشة حكاها عنهم هنا ، وحكاها عنهم كذلك في سورة الإسراء . ورد عليها هنا وهناك ردا واحدا :
( انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) . .
وكلتا السورتين تعالجان موضوعا متقاربا ، في جو متقارب هنا وهناك . . وقولتهم تلك يقصدون بها الإساءة إلى شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والتنقص منه . إذ يمثلونه برجل سحر عقله ، فهو يقول كلاما غريبا لا يقوله الطبيعيون من الناس ! ولكنها في الوقت ذاته تشي بشعورهم الداخلي بأن ما يقوله غير طبيعي . ولا مألوف ، ولا هو من عادة البشر ولا من مستوى البشر . . والرد عليهم يوحي بالتعجيب من أمرهم : ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال )وشبهوك بالمسحورين مرة ، واتهموك بالتزوير مرة ، ومثلوك برواة الأساطير مرة . . وكله ضلال ، وبعد عن إدراك الحق( فضلوا )ضلوا عن كل طريق للحق ، وكل سبيل للهدي ( فلا يستطيعون سبيلا ) .
قال الله تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ } أي : جاءوا بما يقذفونك به ويكذبون به عليك ، من قولهم " ساحر ، مسحور ، مجنون ، كذاب ، شاعر " وكلها أقوال باطلة ، كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك ؛ ولهذا قال : { فضلوا } أي : عن طريق الهدى ، { فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } وذلك لأن كل من خرج عن الحق فإنه ضال حيثما توجه ؛ لأن الحق واحد ومنهج متحد ، يُصَدّق بعضه بعضا .
معنى : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا } أنهم ضربوا لك الأمثال الباطلة بأن مثلوك برجل مسحور .
وقوله : { انظر } مستعار لمعنى العلم تشبيهاً للأمر المعقول بالأمر المرئي لشدة وضوحه .
و ( كيف ) اسم للكيفية والحالة مجرد هنا عن معنى الاستفهام .
وفرع على هذا التعجيب إخبار عنهم بأنهم ضلوا في تلفيق المطاعن في رسالة الرسول فسلكوا طرائق لا تصل بهم إلى دليل مقنع على مرادهم ، ففعل { ضلوا } مستعمل في معنييه المجازيين هما : معنى عدم التوفق في الحجة ، ومعنى عدم الوصول للدين الحق ، وهو هنا تعجيب من خَطَلِهم وإعراضٌ عن مجاوبتهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد إلى هؤلاء المشركين الذين شبهوا لك الأشباه بقولهم لك: هو مسحور، فضلّوا بذلك عن قصد السبيل وأخطأوا طريق الهُدَى والرشاد "فلا يَسْتَطِيعُونَ "يقول: فلا يجدون "سَبِيلاً" إلى الحقّ، إلاّ فيما بعثتك به، ومن الوجه الذي ضلوا عنه... عن ابن عباس: "انْظُرْ كَيْف ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلّوا فَلا يَسْتَطيعُونَ سَبِيلاً" أي التمسوا الهدى في غير ما بعثتك به إليهم فضلوا، فلن يستطيعوا أن يصيبوا الهُدَى في غيره. وقال آخرون في ذلك...: عن مجاهد: "فلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً" قال: مَخْرجا يخرجهم من الأمثال التي ضربوا لك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله "انظر كيف ضربوا لك الامثال "يعني الأشباه، لأنهم قالوا تارة: هو مسحور، وتارة مثلوه بالمحتاج المتروك، حتى تمنوا له الكنز. وتارة بأنه ناقص عن القيام بالأمور، وكل ذلك جهل منهم وذهاب عن وجه الصواب، فقال الله تعالى "فضلوا" بضرب هذه الأمثال عن طريق الحق"، فلا يستطيعون سبيلا" معناه لا يستطيعون طريقا إلى الحق، مع تمسكهم بطريق الجهل وعدولهم عن الداعي إلى الرشد. وقيل معناه "لا يستطيعون سبيلا" إلى إبطال أمرك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ضَرَبُواْ لَكَ الامثال} أي: قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة. من نبوّة مشتركة بين إنسان وملك. وإلقاء كنز عليك من السماء وغير ذلك، فبقوا متحيرين ضلالاً، لا يجدون قولاً يستقرّون عليه. أو فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقاً إليه.
...كأنه تعالى قال انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلا البتة، إذ الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول..
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{فلا يستطيعون سبيلاً} إلى حجة وبرهان على ما يقولون، فمرة يقولون هو بليغ فصيح يتقول القرآن من نفسه ويفتريه، ومرة مجنون، ومرة ساحر، ومرة مسحور.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{انظر} ثم أشار إلى التعجب منهم بأن ما قالوه يستحق الاستفهام بقوله: {كيف ضربوا} وقدم ما به العناية فقال: {لك الأمثال} فجعلوك تارة مثلهم في الاحتياج إلى الغذاء، وتارة نظيرهم في التوسل إلى التوصل إلى الأرباح والفوائد، بلطيف الحيلة وغريز العقل، وتارة مغلوب العقل مختلط المزاج تأتي بما لا يرضى به عاقل، وتارة ساحراً تأتي بما يعجز عنه قواهم، وتحير فيه أفكارهم {فضلوا} أي عن جميع طرق العدل، وسائر أنحاء البيان بسبب ذلك فلم يجدوا قولاً يستقرون عليه وأبعدوا جداً {فلا يستطيعون} في الحال ولا في المآل، بسبب هذا الضلال {سبيلاً} أي سلوك سبيل من السبل الموصلة إلى ما يستحق أن يقصد، بل هم في مجاهل موحشة، وفيافي مهلكة.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} استعظامٌ للأباطيل التي اجترأوا على التَّفوه بها وتعجيبٌ منها أي انظُر كيف قالوا في حقِّك تلكَ الأقاويلَ العجيبةَ الخارجة عن العقول، الجاريةَ لغرابتها مجرى الأمثالِ واخترعُوا لك تلك الصِّفاتِ والأحوالِ الشَّاذةَ البعيدة من الوقوعِ {فُضّلُواْ} أي عن طريقِ المُحاجّةِ حيث لم يأتُوا بشيءٍ يُمكن صدورُه عمَّن له أدنى عقلٍ وتمييزٍ فبقُوا مُتحيِّزين {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} إلى القدح في نبوتك بأنْ يجدوا قولاً يستقرُّون عليه وإنْ كان باطلاً في نفسِه أو فضلُّوا عن الحقِّ ضلالاً مبيناً فلا يجدون طريقاً موصِّلاً إليه فإنَّ مَن اعتاد استعمال أمثال هذه الأباطيلِ لا يكادُ يهتدِي إلى استعمال المقدِّماتِ الحقَّةِ.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}. الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، و {ضربوا} معناها بينوا، والأمثال هي الأحوال المتشابهة في زعم القائل، أن انظر كيف حاولوا أن تكون الرسالة مع ملك من السماء يكون ردءا للرسول في إنذاره، ثم كيف حاولوا أن يجعلوه كالملك الذي تجري كنوز الأرض تحت يديه، أو كحواشي الملوك الذين يقطنون الإقطاعات الواسعة، حاولوا، عقد المشابهة بين هذه الأحوال والرسالة، وهذه أمور دنيوية تنأى عن معنى الرسالة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة، فهم من خلال مجموعة من الأقوال الواهية التي لا أساس لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآن الذي محتواه شاهد ناطق على ارتباطه بالله ليخفوا وجه الحقيقة. حقّاً، إن مثلهم كمثل من يريد أن يقف أمام استدلالاتنا المنطقية من خلال حفنة من الحجج، الواهية: فنقول من دون الإجابة عليها بالتفصيل: انظر بأية ادعاءات واهية يريدون أن يقفوا معها أمام الدليل المنطقي. و هكذا كانت أقوالهم في جميع مواردها، لأن:
أوّلا: لماذا يجب أن يكون الرّسول من جنس الملائكة؟ بل ينبغي أن يكون قائد البشر منهم، كما يحكم به العقل والعلم، حتى يدرك جميع آلام ورغبات وحاجات ومشكلات ومسائل حياة الإنسان تماماً، ليكون قدوة عملية له على كل المستويات، وحتى يستلهم الناس منه في جميع المناهج، ومن المسلّم أن تأمين هذه الأهداف لم يكن ليتحقق لو كان من الملائكة، ولقال الناس إذا حدثهم عن الزهد وعدم الاهتمام بالدنيا: إنّه ملك، وليست له حاجات مادية تجرّه إلى الدنيا وإذا دعا إلى الطهارة والعفة لقال الناس: إنه لا يدري ما عاصفة الغريزة الجنسية، وعشرات (إذا) مثل تلك.
ثانياً: ما ضرورة أن ينزل ملك ليرافق بشراً من أجل تصديقه؟ أفليست المعجزات كافية لإدراك هذه الحقيقة، وخاصّة معجزة عظيمة كالقرآن!
ثالثاً: أكل الطعام كسائر الناس، والمشي في الأسواق يكون سبباً للاندماج بالناس أكثر، والغوص في أعماق حياتهم، ليؤدي رسالته بشكل أفضل.
رابعاً: عظمة الرّسول وشخصيته مردهما ليس إلى الكنز والنفائس ولا بساتين النخيل والفواكه الطازجة، هذا نمط تفكير الكفار المنحرف الذي يعتبر أن المكانة و حتى القرب من الله في الأثرياء خاصّة، في حال أنّ الأنبياء جاؤوا ليقولوا: أيّها الإِنسان، إنّ قيمة وجودك ليست بهذه الأشياء، إنّها بالعلم والتقوى والإِيمان. خامساً: بأي مقياس كانوا يعتبرونه «مسحوراً» أو «مجنوناً»؟ الشخص الذي كان عقله معجزاً بشهادة تأريخ حياته وانقلابه العظيم وتأسيسه الحضارة الإِسلامية، كيف يمكن اتهامه بهذه التهمة المضحكة؟ أيصح أن نقول إن تحطيم الأصنام ورفض الاتباع الأعمى للأجداد دليل على الجنون؟!
اتضح بناءً على ما قلناه أن (الأمثال) هنا، خاصّة مع القرائن الموجودة في الآية، بمعنى الأقوال الفارغة الواهية، ولعل التعبير عنها ب (الأمثال) بسبب أنّهم يلبسونها لباس الحق فكأنها مثله، وأقوالهم مثل الأدلة المنطقية، في حال أنّها ليست كذلك واقعاً.
و ينبغي أيضاً الالتفات إلى هذه النكتة، وهي أنّ أعداء النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتهمونه ب «الساحر» وأحياناً ب «المسحور» وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل أن «المسحور» بمعنى «الساحر» (لأن اسم المفعول يأتي بمعنى اسم الفاعل أحياناً) ولكن الظاهر أن بينهما فرقاً. عندما يقال عنه بأنّه ساحر، فلأن كلامه كان ذا نفوذ خارق في القلوب، ولأنّهم ما كانوا يريدون الإِقرار بهذه الحقيقة، فقد لجأوا إلى اتهامه ب «الساحر». أمّا «المسحور» فمعناه أن السحرة تدخّلوا في عقله وتصرفوا به، وعملوا على اختلال حواسه، هذا الاتهام نشأ من أن الرّسول كان محطماً لسنتهم، ومخالفاً لعاداتهم وأعرافهم الخرافية، وقد وقف في وجه مصالحهم الفردية.
أمّا جواب جميع هذه الاتهامات فقد اتضح من الكلام أعلاه و هنا يأتي هذا السؤال، وهو أنّه لماذا قال تعالى: (فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا). الجواب هو أنّ الإِنسان يستطيع أن يكتشف الطريق إلى الحق بصورة ما،إذا كان مريداً للحق باحثاً عنه.