{ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي : بسبب صدقهم ، في أقوالهم ، وأحوالهم ، ومعاملتهم مع اللّه ، واستواء ظاهرهم وباطنهم ، قال اللّه تعالى : { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } الآية .
أي : قدرنا ما قدرنا ، من هذه الفتن والمحن ، والزلازل ، ليتبين الصادق من الكاذب ، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم ، عند حلول الفتن ، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه .
{ إِنْ شَاءَ } تعذيبهم ، بأن لم يشأ هدايتهم ، بل علم أنهم لا خير فيهم ، فلم يوفقهم .
{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة ، وهذا هو الغالب ، على كرم الكريم ، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة ، والفضل ، والإحسان فقال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رحيمًا } غفورًا لذنوب المسرفين على أنفسهم ، ولو أكثروا من العصيان ، إذا أتوا بالمتاب . { رَحِيمًا } بهم ، حيث وفقهم للتوبة ، ثم قبلها منهم ، وستر عليهم ما اجترحوه .
ثم بين - سبحانه - الحكمة من هذا الابتلاء والاختبار فقال : { لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ } .
أى : فعل - سبحانه - ما فعل فى غزوة الأحزاب من أحداث ، ليجزى الصادقين فى إيمانهم الجزاء الحسن الذى يستحقونه بسبب صدقهم ووفائهم .
{ وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ } أى : إن شاء تعذيبهم بسبب موتهم على نفاقهم .
{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } من نفاقهم بفضله وكرمه فلا يعذبهم .
قال الجمل : وقوله : { وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ } جوابه محذوف ، وكذلك مفعول { شَآءَ } محذوف - أيضا - إن شاء تعذيبهم عذبهم .
والمراد بتعذيبهم إماتتهم على النفاق ، بدليل العطف فى قوله { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } .
{ إِنَّ الله } - تعالى - { كَانَ } وما زال { غَفُوراً رَّحِيماً } أى : واسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده .
وهذه الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين تذكر هنا تكملة لصورة الإيمان ، في مقابل صورة النفاق والضعف ونقض العهد من ذلك الفريق . لتتم المقابلة في معرض التربية بالأحداث وبالقرآن .
ويعقب عليها ببيان حكمة الابتلاء ، وعاقبة النقض والوفاء ؛ وتفويض الأمر في هذا كله لمشيئة الله :
( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين - إن شاء - أو يتوب عليهم . إن الله كان غفورا رحيما ) . .
ومثل هذا التعقيب يتخلل تصوير الحوادث والمشاهد - ليرد الأمر كله إلى الله ، ويكشف عن حكمة الأحداث والوقائع . فليس شيء منها عبثا ولا مصادفة . إنما تقع وفق حكمة مقدرة ، وتدبير قاصد . وتنتهي إلى ما شاء الله من العواقب . وفيها تتجلى رحمة الله بعباده . ورحمته ومغفرته أقرب وأكبر : ( إن الله كان غفورا رحيما ) . .
وقوله : { لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي : إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز{[23292]} الخبيث من الطيب ، فيظهر أمر هذا بالفعل ، وأمر هذا بالفعل ، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه ، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم ، حتى يعملوا بما يعلمه فيهم{[23293]} ، كما قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ{[23294]} الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ{[23295]} أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] ، فهذا علم بالشيء بعد {[23296]} كونه ، وإن كان العلم {[23297]} السابق حاصلا به قبل وجوده . وكذا قال تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } [ آل عمران : 179 ] . ولهذا قال هاهنا : { لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي : بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه ، وقيامهم به ، ومحافظتهم عليه . { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ } : وهم الناقضون لعهد الله ، المخالفون لأوامره ، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه ، ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا ، إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه به فيعذبهم عليه ، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى الإيمان ، وعمل{[23298]} الصالح بعد الفسوق والعصيان . ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة لغضبه قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } .
واللام في قوله تعالى : { ليجزي } لام الصيرورة والعاقبة ، ويحتمل أن تكون لام كي ، وتعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم والتوبة موازية لتلك الإدامة وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما درجتان : إقامة على نفاق ، أو توبة منه ، وعنهما ثمرتان تعذيب ، أو رحمة ، فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدة من هاتين ، وواحدة من هاتين ، ودل ما ذكر على ما ترك ذكره ويدلك على أن معنى قوله «ليعذب » ليديم على النفاق قوله { إن شاء } ومعادلته بالتوبة وبحرف { أو } ولا يجوز أحد أن { إن شاء } يصح في تعذيب منافق على نفاقه بل قد حتم الله على نفسه بتعذيبه{[9491]} .
لام التعليل يتنازعه من التعلق كل من { صدقوا } و { ما بَدلوا } [ الأحزاب : 23 ] أي : صدق المؤمنون عهدهم وبدَّله المنافقون ليجزي الله الصادقين ويعذّب المنافقين .
ولام التعليل بالنسبة إلى فعل { ليجزي الله الصادقين } مستعمل في حقيقة معناه ، وبالنسبة إلى فِعل { ويُعذب } مستعار لمعنى فاء العاقبة تشبيهاً لعاقبة فعلهم بالعلة الباعثة على ما اجترحُوه من التبديل والخيس بالعهد تشبيهاً يفيد عنايتهم بما فعلوه من التبديل حتى كأنهم ساعون إلى طلب ما حَقَّ عليهم من العذاب على فعلهم ، أو تشبيهاً إياهم في عنادهم وكيدهم بالعالم بالجزاء الساعي إليه وإن كان فيه هلاكه .
والجزاء : الثواب لأن أكثر ما يستعمل فعل جَزى أن يكون في الخير ، ولأن ذكر سبب الجزاء وهو { بصدقهم } يدل على أنه جزاء إحسان ، وقد جاء الجزاء في ضد ذلك في قوله تعالى { اليوم تُجْزَوْن عذابَ الهون } في سورة الأنعام ( 93 ) . وإظهار اسم الجلالة في مقام إضماره للدلالة على عظمة الجزاء .
وتعليق التعذيب على المشيئة تنبيه لهم بسَعَة رحمة الله وأنه لا يقطع رجاءهم في السعي إلى مغفرة ما أتوه بأن يتُوبوا فيتوب الله عليهم فلما قابل تعذيبه إياهم بتوبته عليهم تعين أن التعذيب باققٍ عند عدم توبتهم لقوله في الآية الأخرى : { إن الله لا يغفر أن يُشْرَك به } [ النساء : 48 ] . والتوبة هنا هي التوبة من النفاق ، أي : هي إخلاص الإيمان ، وقد تاب كثير من المنافقين بعد ذلك ، منهم معتِّب بن قشير .
وجملة { إن اللَّه كان غفوراً رحيماً } تعليل للجزاء والتعذيب كليهما على التوزيع ، أي غفور للمذنب إذا أناب إليه ، رحيم بالمحسن أن يجازيه على قدر نصبه .
وفي ذكر فعل كان } إفادة أن المغفرة والرحمة صفتان ذاتيتان له كما قدمناه غير مرة ، من ذلك عند قوله تعالى { أكان للناس عجباً أن أوحينا } في أول سورة يونس ( 2 ) .