البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّـٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (24)

{ ليجزي الله الصادقين } : أي الذين { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } ، { بصدقهم } : أي بسبب صدقهم .

{ ويعذب المنافقين إن شاء } ، وعذابهم متحتم .

فكيف يصح تعليقه على المشيئة ، وهو قد شاء تعذيبهم إذا وفوا على النفاق ؟ فقال ابن عطية : تعذيب المنافقين ثمرته إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم ، والتوبة موازية لتلك الإقامة ، وثمرة التوبة تركهم دون عذاب .

فهما درجتان : إقامة على نفاق ، أو توبة منه .

وعنهما ثمرتان : تعذيب ، أو رحمة .

فذكر تعالى ، على جهة الإيجاز ، واحدة من هاتين ، وواحدة من هاتين .

ودل ما ذكر على ما ترك ذكره ، ويدلك على أن معنى قوله : { ليعذب } ، أي : ليديم على النفاق ، قوله : { إن شاء } ، ومعادلته بالتوبة ، وحذف أو .

أنتهى .

وكان ما ذكر يؤول إلى أن التقدير : ليقيموا على النفاق ، فيموتوا عليه ، إن شاء فيعذبهم ، أو يتوب عليهم فيرحمهم .

فحذف سبب التعذيب ، وأثبت المسبب ، وهو التعذيب .

وأثبت سبب الرحمة والغفران ، وحذف المسبب ، وهو الرحمة والغفران ، وهذا من الإيجاز الحسن .

وقال الزمخشري : ويعذبهم إن شاء إذا لم يتوبوا ، ويتوب عليهم إذا تابوا . انتهى .

ولا يجوز تعليق عذابهم إذا لم يتوبوا بمشيئته تعالى ، لأنه تعالى قد شاء ذلك وأخبر أنه يعذب المنافقين حتماً لا محالة .

واللام في { ليجزي } ، قيل : لام الصيرورة ؛ وقيل : لام التعليل ، ويتعلق بقوله : { وما بدلوا تبديلاً } .

قال الزمخشري : جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم ، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم ، لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبة من الثواب والعقاب ، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما .

وقال السدي : المعنى : إن شاء يميتهم على نفاقهم ، أو يتوب عليهم بفعلهم من النفاق بتقبلهم الإيمان .

وقيل : يعذبهم في الدنيا إن شاء ، ويتوب عليهم إن شاء .

{ إن الله كان غفوراً رحيماً } : غفوراً للحوية ، رحيماً بقبول التوبة .