{ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } أي : تختبر سرائر الصدور ، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على صفحات الوجوه قال تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } ففي الدنيا ، تنكتم كثير من الأمور ، ولا تظهر عيانًا للناس ، وأما في القيامة ، فيظهر بر الأبرار ، وفجور الفجار ، وتصير الأمور علانية .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ . يَوْمَ تبلى السرآئر . فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِر } . بيان لكمال قدرته - تعالى- وأنه كما أنشأ الإِنسان من ماء مهين ، قادر على إعادته إلى الحياة بعد موته . والضمير فى قوله : { إنه } يعود إلى الله - عز وجل - لأن الخالق للإِنسان من ماء دافق هو الله - تعالى - .
والضمير فى قوله " رجعه " يعود إلى الإِنسان المخلوق .
وقوله : { تبلى } من البلاء بمعنى الاختبار والامتحان . ومنه قوله - تعالى - { إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين } والمراد بقوله { تبلى } هنا : الكشف والظهور .
و { السرائر } جمع سريرة ، وهى ما أسره الإِنسان من أقوال وأفعال ، والظرف " يوم " متعلق بقوله : { رجعه } .
أى : إن الله - تعالى - الذى قدر على خلق الإِنسان من ماء دافق .
يخرج من بين الصلب والترائب . . لقادر - أيضا - على إعادة خلق هذا الإِنسان بعد موته ، وعلى بعثه من قبره للحساب والجزاء ، يوم القيامة ، يوم تكشف المكنونات ، وتبدو ظاهرة للعيان ، وترفع الحجب عما كان يخفيه الإِنسان فى دنياه من عقائد ونيات وغيرهما .
وفى هذا اليوم لا يكون للإِنسان من قوة تحميه من الحساب والجزاء ، ولا يكون له من ناصر ينصره من بأس الله - تعالى - أو من مدافع يدافع عنه .
ابن العربي: قال مالك: في رواية أشهب عنه وسأله عن قوله تعالى: {يوم تبلى السرائر} أبلغك أن الوضوء من السرائر؟ قال: قد بلغني ذلك فيما يقول الناس، فأما حديث أخذته فلا. والصلاة من السرائر والصيام من السرائر، إن شاء قال: صليت ولم يصل. ومن السرائر ما في القلوب يجزي الله به العباد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
عُنِي بقوله:"يَوْمَ تُبْلى السّرَائِرُ "يوم تُخْتَبرُ سرائر العباد، فيظهر منها يومئذٍ ما كان في الدنيا مستخفيا عن أعين العباد، من الفرائض التي كان الله ألزمه إياها، وكلّفه العمل بها... عن قتادة "يَوْمَ تُبْلَى السّرائِرُ" إن هذه السرائر مختبرة، فأسِرّوا خيرا وأعلنوه إن استطعتم، ولا قوّة إلا بالله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي يظهر ما كان أخفي منها... سمى ذلك ابتلاء لأن الابتلاء، هو الاختبار؛ وإنما يكون الابتلاء بالسؤال أو بالأمر والنهي، فسمى ما يسأل عنه في الآخرة ابتلاء...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معناه تختبر بإظهارها وإظهار موجبها، لأن الابتلاء والاختبار والاعتبار كله إنما هو بإظهار موجب المعنى، ففي الطاعة الحمد والثواب، وفى المعصية الذم والعقاب، وواحد السرائر سريرة وهي الطوية في النفس، وهو إسرار المعنى في النفس، وقد يكون الإسرار من واحد بعينه مع إطلاع غيره عليه فلا يكون سريرة. وقيل: إن الله يفضح العاصي بما كان يستر من معاصيه ويجل المؤمن بإظهار ما كان يسره من طاعته ليكرمه الناس بذلك ويجلوه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفى من الأعمال وبلاؤها. تعرّفها وتصفحها، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث...
وفي كيفية الابتلاء والاختبار ههنا أقوال:
الأول: ما ذكره القفال معنى الاختبار ههنا أن أعمال الإنسان يوم القيامة تعرض عليه وينظر أيضا في الصحيفة التي كتبت الملائكة فيها تفاصيل أعمالهم ليعلم أن المذكور هل هو مطابق للمكتوب، ولما كانت المحاسبة يوم القيامة واقعة على هذا الوجه جاز أن يسمى هذا المعنى ابتلاء، وهذه التسمية غير بعيدة لعباده لأنها ابتلاء وامتحان، وإن كان عالما بتفاصيل ما عملوه وما لم يعملوه.
والوجه الثاني: أن الأفعال إنما يستحق عليها الثواب والعقاب لوجوهها، فرب فعل يكون ظاهره حسنا وباطنه قبيحا، وربما كان بالعكس...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يوم تبلى} وبناه للمفعول إشارة مع التنبيه على السهولة إلى أن- من الأمر البين غاية البيان أن الذي يبلوها هو الذي يرجعها، وهو الله سبحانه وتعالى من غير احتياج إلى ذكره {السرائر} أي كل ما انطوت عليه الصدور من العقائد والنيات، و أخفته الجوارح...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وبَلْو السرائر، اختبارها وتمييز الصالح منها عن الفاسد، وهو كناية عن الحساب عليها والجزاء، وبلوُ الأعمال الظاهرة والأقوال مستفاد بدلالة الفحوى من بلو السرائر. ولما كان بلو السرائر مؤذناً بأن الله عليم بما يستره الناس من الجرائم وكان قوله: {يوم تبلى السرائر} مشعراً بالمؤاخذة على العقائد الباطلة والأعمال الشنيعة فرع عليه قوله: {فما له من قوة ولا ناصر}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهي الأشياء الخفية التي كان الإنسان يسرّها ويخفيها في نفسه عندما كان في الدنيا، من أعماله التي كان يكتمها عن الآخرين، مما لا يستطيع أن يتحمل مسؤوليته أمامهم. فإنها تختبر وتكشف وتظهر حين يقف الإنسان للحساب على أساسها، فلا يبقى هناك سرّ هارب من المعرفة، أو بعيدٌ عن المسؤولية، بل يقف الإنسان هناك، في يوم القيامة، عارياً من كل ثيابه، ومن كل أسراره، ومن كل عناصر قوّته، وهذا ما يريد القرآن من الإنسان أن يتمثله في وعيه المسؤول، فلا يشعر بالحماية الطبيعية لأسراره السيّئة التي يملك أمر كتمانها، بل يفكر بأن الله سوف يظهرها على رؤوس الأشهاد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(يوم تبلى السرائر). «تبلى»: من (البلوى)، بمعنى الاختبار والامتحان، وهو هنا الظهور والبروز، لأنّ الامتحان يكشف عن حقيقة الأشياء ويظهرها. «السرائر»: جمع (سريرة)، وهي صفات ونوايا الإنسان الداخلية. نعم، فأسرار الإنسان الدفينة ستظهر في ذلك اليوم، «يوم البروز» و«يوم الظهور»، فسيظهر على الطبيعة كلّ من: الإيمان، الكفر، النفاق، نيّة الخير، نيّة الشر، الإخلاص، الرياء...
وسيكون ذلك الظهور مدعاة فخر ومزيد نعمة للمؤمنين، ومدعاة ذلّة ومهانة وحسرة للمجرمين... وما أشد ما سيلاقي من قضى وطراً من عمره بين النّاس بظاهر حسن ونوايا خبيثة! وما أتعسه حينما تهتك أقنعته المزيفة فيظهر على حقيقته أمام كلّ الخلائق! وربّما ذلك من أشدّ عذاب جهنم عليه... نعم، فكما إنّ «الطارق» والنجوم الأخرى تظهر من خفائها ليلاً على صفحة السماء، فكذا حال الإنسان في عرصة يوم القيامة، فالحفظة والمراقبين الإلهيين المكلفين لتسجيل أعمال الإنسان سيظهرون كلّ شيء، كظهور ضوء النجم في الليل الداج...