{ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ } والحق حقه أن يتبع ، ويشكر الله على تيسيره لهم ، وإتيانهم به ، فقابلوه بضد ما يجب مقابلته به فاستحقوا العقاب الشديد . { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : فسوف يرون ما استهزأوا به ، أنه الحق والصدق ، ويبين الله للمكذبين كذبهم وافتراءهم ، وكانوا يستهزئون بالبعث والجنة والنار ، فإذا كان يوم القيامة قيل للمكذبين : { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ }
وقال تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ }
وحين يكون الأمر كذلك . حين يكون الإعراض متعمدا ومقصودا - مع توافر الأدلة ، وتواتر الآيات ووضوح الحقائق - فإن التهديد بالبطش قد يحدث الهزة التي تفتح نوافذ الفطرة حين تسقط عنها حاجز الكبر والعناد :
( فقد كذبوا بالحق لما جاءهم . فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون ) . .
إنه الحق هذا الذي جاءهم من لدن خالق السماوات والأرض ، وجاعل الظلمات والنور ، وخالق الإنسان من طين ، والإله في السماوات وفي الأرض الذي يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما يكسبون . . إنه الحق وقد كذبوا به ، مصرين على التكذيب ، معرضين عن الآيات ، مستهزئين بالدعوة إلى الإيمان . . فليرتقبوا إذن أن يأتيهم الخبر اليقين عما كانوا به يستهزئون !
ويتركهم أمام هذا التهديد المجمل ، الذي لا يعرفون نوعه ولا موعده . . يتركهم يتوقعون في كل لحظة أن تأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ! حيث يتكشف لهم الحق أمام العذاب المرتقب المجهول !
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَدْ كَذّبُواْ بِالْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : فقد كذب هؤلاء العادلون بالله الحقّ لما جاءهم ، وذلك الحقّ هو محمد صلى الله عليه وسلم ، كذّبوا به ، وجحدوا نبوّته لما جاءهم قال الله لهم متوعدا على تكذيبهم إياه وجحودهم نبوّته : سوف يأتي المكذبين بك يا محمد من قومك وغيرهم أنْباءُ ما كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ يقول : سوف يأتيهم أخبار استهزائهم بما كانوا به يستهزءون من آياتي وأدلتي التي آتيتهم . ثم وفى لهم بوعيده لما تمادوا في غيهم وعتَوْا على ربهم ، فقتلهم يوم بدر بالسيف .
الفاء فصيحة على الأظهر أفصحت عن كلام مقدّر نشأ عن قوله : { إلا كانوا عنها معرضين } ، أي إذا تقرّر هذا الإعراض ثبت أنّهم كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم من عند الله ، فإنّ الإعراض علامة على التكذيب ، كما قدّمته آنفاً ، فما بعد فاء الفصيحة هو الجزاء . ومعناه أنّ من المعلوم سوء عواقب الذين كذّبوا بالحق الآتي من عند الله فلمّا تقرّر في الآية السابقة أنّهم أعرضوا آيات الله فقد ثبت أنّهم كذّبوا بالحقّ الوارد من الله ، ولذلك فرّع عليه قوله : { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } تأكيداً لوعد المؤمنين بالنصر وإظهار الإسلام على الدين كلّ وإنذار للمشركين بأن سيحلّ بهم ما حلّ بالأمم الذين كذّبوا رسلهم ممّن عرفوا مثل عاد وثمود وأصحاب الرسّ .
وبهذا التقدير لم تكن حاجة إلى جعل الفاء تفريعاً محضاً وجعل ما بعدها علّة لجزاء محذوف مدلول عليه بعلّته كما هو ظاهر « الكشاف » ، وهي مضمون { فقد كذّبوا } بأن يقدّر : فلا تعجب فقد كذّبوا بالقرآن ، لأنّ من قدّر ذلك أوهمه أنّ تكذيبهم المراد هو تكذيبهم بالآيات التي أعرضوا عنها ما عدا آية القرآن . وهذا تخصيص لعموم قوله : { من آية } بلا مخصّص ، فإنّ القرآن من جملة الآيات بل هو المقصود أولاً ، وقد علمت أنّ { فقد كذّبوا } هو الجزاء وأنّ له موقعاً عظيماً من بلاغة الإيجاز ، على أنّ ذلك التقدير يقتضي أن يكون المراد من الآيات في قوله : { من آيات ربّهم } ما عدا القرآن . وهو تخصيص لا يناسب مقام كون القرآن أعظمها .
والفاء في قوله : { فسوف } فاء التسبّب على قوله : { كذّبوا بالحقّ } ، أي يترتّب على ذلك إصابتهم بما توعّدهم به الله .
وحرف التسويف هنا لتأكيد حصول ذلك في المستقبل . واستعمل الإتيان هنا في الإصابة والحصول على سبيل الاستعارة . والأنباء جمع نبأ ، وهو الخبر الذي ب أهميّة . وأطلق تحقّق نبئِه ، لأنّ النبأ نفسه قد علم من قبل .
و { ما كانوا به يستهزئون } هو القرآن ، كقوله تعالى : { ذلكم بأنّكم اتَّخذتم آيات الله هزؤاً } فإنّ القرآن مشتمل على وعيدهم بعذاب الدنيا بالسيف ، وعذاب الآخرة . فتلك أنباءٌ أنبأهم بها فكذبّوه واستهزؤا به فتوعّدهم الله بأنّ تلك الأنباء سيصيبهم مضمونها . فلمّا قال لهم : { ما كانوا به يستهزئون } علموا أنّها أنباء القرآن لأنّهم يعلمون أنّهم يستهزئون بالقرآن وعلم السامعون أنّ هؤلاء كانوا مستهزئين بالقرآن . وتقدّم معنى الاستهزاء عند قوله تعالى في سورة البقرة : { إنّما نحن مستهزئون } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فقد كذبوا بالحق لما جاءهم}، يعني القرآن حين جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، استهزءوا بالقرآن بأنه ليس من الله، يعني كفار مكة... {فسوف يأتيهم أنباء}: حديث، {ما كانوا به} بالعذاب {يستهزءون} بأنه غير نازل بهم، ونظيرها في الشعراء، فنزل بهم العذاب ببدر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فقد كذب هؤلاء العادلون بالله الحقّ لما جاءهم، وذلك الحقّ هو محمد صلى الله عليه وسلم، كذّبوا به، وجحدوا نبوّته لما جاءهم قال الله لهم متوعدا على تكذيبهم إياه وجحودهم نبوّته: سوف يأتي المكذبين بك يا محمد من قومك وغيرهم أنْباءُ ما كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ يقول: سوف يأتيهم أخبار استهزائهم بما كانوا به يستهزءون من آياتي وأدلتي التي آتيتهم. ثم وفى لهم بوعيده لما تمادوا في غيهم وعتَوْا على ربهم، فقتلهم يوم بدر بالسيف.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... يحتمل الحق الآيات التي كان يأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من آيات التوحيد وآيات البعث، ويحتمل القرآن. ولو لم يكن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية كانت نفسه آية عظيمة من أول نشأته إلى آخر عمره لأنه عصم حتى لم يأت منه ما يسمج، ويستقبح قط. فدل أن ذلك لما جعله آية في نفسه وموضعا لرسالته. وعلى ذلك إجابة أبي بكر رضي الله عنه في أول دعوة دعاه إلى ذلك لما كان رأى منه آيات. فلما دعاه أجابه في ذلك مع ما كان معه آيات عظيمة وأعلام عجيبة... {فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} وهو العذاب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فقد كذبوا} مردود على كلام محذوف كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها وهو الحق {لَمَّا جَاءهُمْ} يعني القرآن الذي تحدُّوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء} الشيء الذي {كَانُواْ بِهِ يستهزئون} وهو القرآن، أي أخباره وأحواله، بمعنى: سيعلمون بأي شيء استهزءوا. وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلوّ كلمته.
قوله تعالى {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} اعلم أنه تعالى رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب، فالمرتبة الأولى: كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر في البينات، والمرتبة الثانية: كونهم مكذبين بها وهذه المرتبة أزيد مما قبلها، لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذبا به، بل يكون غافلا عنه غير متعرض له، فإذا صار مكذبا به فقد زاد على الأعراض، والمرتبة الثالثة: كونهم مستهزئين بها لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حد الاستهزاء، فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الإنكار، فبين تعالى أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب. واختلفوا في المراد بالحق فقيل إنه المعجزات: قال ابن مسعود: انشق القمر بمكة وانفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة، وقيل إنه القرآن، وقيل: إنه محمد صلى الله عليه وسلم وقيل إنه الشرع الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم والأحكام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وقيل إنه الوعد والوعيد، الذي يرغبهم به تارة ويحذرهم بسببه أخرى، والأولى دخول الكل فيه. وأما قوله تعالى: {فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} المراد منه الوعيد والزجر عن ذلك الاستهزاء، فيجب أن يكون المراد بالأنباء الأنباء لا نفس الأنباء بل العذاب الذي أنبأ الله تعالى به ونظيره قوله تعالى: {ولتعلمن نبأه بعد حين} والحكيم إذا توعد فربما قال ستعرف نبأ هذا الأمر إذ نزل بك ما تحذره، وإنما كان كذلك لأن الغرض بالخبر الذي هو الوعيد حصول العلم بالعقاب الذي ينزل فنفس العقاب إذا نزل يحقق ذلك الخبر، حتى تزول عنه الشبهة. ثم المراد من هذا العذاب يحتمل أن يكون عذاب الدنيا، وهو الذي ظهر يوم بدر ويحتمل أن يكون عذاب الآخرة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولما بين أن شأنهم الإعراض عن الآيات المنزلة وسائر ما يؤيد الله به رسله رتب عليه قوله:
{فقد كذبوا بالحق لما جاءهم} أي فبسبب ذلك الشأن الكلي العام – وهو استمرارهم على الإعراض عن النظر في الآيات – قد كذبوا بالحق الذي جاءهم لما جاءهم فلم يتريثوا ولم يتأملوا، وإنما كذبوا ما جهلوا، وما جهلوا إلا لأنهم سدوا على أنفسهم مسالك العلم، وهذا الحق الذي كذبوا به هو دين الله الذي جاءهم به خاتم رسله صلى الله عليه وسلم من العقائد والعبادات والآداب، وأحكام الحلال والحرام والمعاملات، وقد دعاهم أولا بمثل هذه السورة إلى كلياته مجملة ثم مفصله، وإنما كان يكون التفصيل بقدر الحاجة، إلى أن تم الدين كله فأكمل الله به النعمة. والحق في أصل اللغة الموافقة والمطابقة كما قال الراغب، أو الأمر الثابت المتحقق بنفسه، فهو كلي له جزئيات كثيرة، وكلما أطلق في مقام يعرف المراد منه بالقرائن اللفظية أو المعنوية، وقد أطلق في القرآن بمعناه اللغوي المطلق وعلى البارئ تعالى وعلى القرآن وعلى الدين، وذكر الدين مضافا إلى الحق إضافة بيانية كقوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} [التوبة: 33] وقوله: {ولا يدينون دين الحق} [التوبة: 29] وأطلق بمعان أخرى تفهم من السياق في كل موضع – فالأظهر عندنا أن المراد بالحق هنا الدين المبين في القرآن.
وروي عن قتادة تفسيره بالقرآن هنا وفي مثله من سورة {ق} ولا فرق بينه وبينما قبله في المعنى، فإن تكذيبهم بالدين الذي نزل به القرآن هو عين التكذيب بالقرآن الذي نزل بهذا الدين، ولكن الأظهر في توجيه اللفظ والتناسب بين هذه الآية وما قبلها وعطفها عليها بفاء السببية أن يقال: إن إعراضهم عن آيات القرآن الدالة بإعجازها على كونها من عند الله وعلى رسالة من أنزلت عليه- وبمعانيها على دلائل التوحيد والبعث، وعلى أحكام الشرائع والآداب، قد كان سببا ترتب عليه تكذيبهم بالحق الذي أنزل القرآن لبيانه وهو تلك المعاني التي هي دين الله عز وجل.
وإذا فسر الحق هنا بالقرآن نفسه يكون المعنى أنهم كانوا يعرضون عن كل آية من القرآن فكان ذلك سببا لتكذيبهم بالقرآن، وأن المعرض عنه والمكذب به واحد، ووجهه أبو السعود، بضرب من تكلفه المعهود، وقد يتخرج على القول بأن فاء السببية تأتي بمعنى لام العلة فتدل على أن ما بعدها سبب لما قبلها، وفي هذا القول مقال، وفي التخريج عليه ما لا يخفى من الضعف، ولكن يظهر ذلك على القول بأن الآيات التي شأنهم الإعراض عنها هي دلائل الأكوان أو المعجزات مطلقا، إذ يقال حينئذ في تقدير الربط- أن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية، وأظهر دلالة، وهو الحق الذي تحدوا به، فعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، وقد علمت أن المختار في الآيات الأول. وقيل إن الحق هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم قاله ابن جرير الطبري. وقيل الوعد والوعيد.
{فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون (5)} أي فعاقبة هذا التكذيب أنه سوف يحل بهم مصداق الأخبار العظيمة الشأن مما كانوا يستهزءون به من آيات القرآن. والمراد بهذه الأنباء ما في القرآن من الوعد بنصر الله لرسوله وإظهار دينه ووعيد أعدائه بتعذيبهم وخذلانهم في الدنيا ثم بهلاكهم في الآخرة. وقد أتاهم ذلك فكان من أوائله ما نزل بهم من القحط، وما حل بهم في بدر، ثم تم ذلك في يوم الفتح، وقد دلت الآية على ما جاء مصرحا به في سور أخرى من استهزاء مشركي مكة- والكلام فيهم- بوعد الله ووعيده، وكذا بآياته ورسله، ولا حاجة إلى تقدير ذلك في الكلام، فهو وإن لم يقدر من بدائع إيجاز القرآن، وقد تكرر في القرآن ذكر استهزائهم واستهزاء من قبلهم من الكفار بالرسل وبما جاءوا من الوعد والوعيد، وإنذارهم عاقبة هذا الاستهزاء في آيات، وبيان نزول العذاب بهم في آيات أخرى كقوله: {وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون} [هود: 8] وهو في سورة هود والنحل والأنبياء والزمر وأكثر الحواميم.
جاء الوعيد على الاستهزاء هنا بحرف التسويف، وجاء في آيتين مثل هاتين الآيتين في أول الشعراء بحرف التنفيس، وذلك قوله تعالى: {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين * فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون} [الشعراء: 5، 6] وقد حذف هنا معمول كذبوا، وذكر السيد الألوسي في روح المعاني تعليل ذلك بما نصه: وفي البحر إنما قيد الكذب بالحق هنا وكان التنفيس بسوف وفي الشعراء {فقد كذبوا فسيأتيهم} [الشعراء: 6] بدون تقييد الكذب، والتنفيس بالسين، لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء، فاستوفي فيها اللفظ، وحذف من الشعراء وهو مراد إحالة على الأول، وقد ناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس فجيء بالسين اه. أقول: ويحسن أن يزاد على ذلك أنه لما كان فعل الاستقبال المقرون بسوف أبعد زمانا من المقرون بالسين تعين الأول فيما نزل أولا والثاني فيما نزل آخرا.
وفي هذه الآيات عبرة لنا في حال الذين أضاعوا الدين، من أهل التقليد الجامدين، وأهل التفرنج الملحدين، فهي تنادي بقبح التقليد، وتصرح بوجوب النظر في الآيات والاستدلال بها، وبأن التكذيب بالحق والحرمان منه معلول للإعراض عنها، وتثبت أن الإسلام دين مبني على أساس الدليل والبرهان لا كالأديان المبنية على وعث التقليد للأحبار والرهبان أو الرؤساء والكهان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وحين يكون الأمر كذلك. حين يكون الإعراض متعمدا ومقصودا -مع توافر الأدلة، وتواتر الآيات ووضوح الحقائق- فإن التهديد بالبطش قد يحدث الهزة التي تفتح نوافذ الفطرة حين تسقط عنها حاجز الكبر والعناد: (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم. فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون).. إنه الحق هذا الذي جاءهم من لدن خالق السماوات والأرض، وجاعل الظلمات والنور، وخالق الإنسان من طين، والإله في السماوات وفي الأرض الذي يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما يكسبون.. إنه الحق وقد كذبوا به، مصرين على التكذيب، معرضين عن الآيات، مستهزئين بالدعوة إلى الإيمان.. فليرتقبوا إذن أن يأتيهم الخبر اليقين عما كانوا به يستهزئون! ويتركهم أمام هذا التهديد المجمل، الذي لا يعرفون نوعه ولا موعده.. يتركهم يتوقعون في كل لحظة أن تأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون! حيث يتكشف لهم الحق أمام العذاب المرتقب المجهول!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والفاء في قوله: {فسوف} فاء التسبّب على قوله: {كذّبوا بالحقّ}، أي يترتّب على ذلك إصابتهم بما توعّدهم به الله. وحرف التسويف هنا لتأكيد حصول ذلك في المستقبل. واستعمل الإتيان هنا في الإصابة والحصول على سبيل الاستعارة. والأنباء جمع نبأ، وهو الخبر الذي ب أهميّة. وأطلق تحقّق نبئِه، لأنّ النبأ نفسه قد علم من قبل. و {ما كانوا به يستهزئون} هو القرآن..