{ فَقَدْ كَذَّبُوا بالحق لَمَّا جَاءهُمْ } فإن الحق عبارةٌ عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية منه ، عبّر عنه بذلك إبانةً لكمال قُبح ما فعلوا به ، فإن تكذيب الحقِّ مما لا يُتصوَّرُ صدورُه عن أحد ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنها شيءٌ مغايِرٌ له في الحقيقة واقعٌ عَقيبَه أو حاصلٌ بسببه ، بل على أن الأول هو عينُ الثاني حقيقة ، وإنما الترتيبُ بحسَب التغايُرِ الاعتباري ، و( قد ) لتحقيق ذلك المعنى في قوله تعالى : { فَقَدْ جَاؤوا ظُلْماً وَزُوراً } بعد قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } [ الفرقان ، الآية 4 ] فإن ما جاؤوه أي فعلوه من الظلم والزور عينُ قولِهم المَحْكِيّ ، لكنه لما كان مغايراً له مفهوماً وأشنَعَ منه حالاً رُتِّبَ عليه بالفاء ترتيبَ اللازم على الملزوم تهويلاً لأمره ، كذلك مفهومُ التكذيب بالحق حيث كان أشنعَ من مفهوم الإعراضِ المذكورِ أُخرِجَ مُخرَجَ اللازم البيِّنِ البُطلان ، فرُتِّبَ عليه بالفاء إظهاراً لغاية بُطلانه ، ثم قُيد ذلك بكونه بلا تأمل تأكيداً لشناعته وتمهيداً لبيان أن ما كذبوا به آثرَ ذي أثير له عواقبُ جليلةٌ ستبدو لهم البتة ، والمعنى أنهم حيث أعرضوا عن تلك الآيات عند إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبُه أصلاً من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ، ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبةِ لتصديقه ، كقوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِيهِمُ تَأْوِيلِهِ } [ يونس ، الآية 39 ] كما يُنْبئ عنه قوله تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } فإن ( ما ) عبارةٌ عن الحق المذكور عنه بذلك تهويلاً لأمره بإبهامه ، وتعليلاً للحكم بما في حيز الصلة ، وإنباؤه عبارةٌ عما سيَحيقُ بهم من العقوبات العاجلة التي نطَقت بها آياتُ الوعيد ، وفي لفظ ( الأنباء ) إيذانٌ بغاية العِظَم لِما أن النَّبأَ لا يُطلق إلا على خبرٍ عظيمِ الوقع ، وحملُها على العقوبات الآجلةِ أو على ظهور الإسلام وعلوِّ كلمتِه تأباه الآياتُ الآتية ، و( سوف ) لتأكيد مضمونِ الجملة وتقريره ، أي فسيأتيهم البتةَ{[202]} وإن تأخرَ مِصْداقُ أنباء الشيءِ الذي كانوا يكذِّبون به قَبلُ مِنْ غير أن يتدبروا في عواقبه ، وإنما قيل : ( يستهزئون ) إيذاناً بأن تكذيبهم كان مقروناً بالاستهزاء كما أشير إليه . هذا على أن يرادَ بالآيات الآياتُ القرآنيةُ وهو الأظهر ، وأما إن أريد بها الآياتُ التكوينيةُ فالفاءُ داخلةٌ على عِلَّة جوابِ شرطٍ محذوف ، والإعراضُ على حقيقته كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن تلك الآيات فلا تعجبْ فقد فعلوا بما هو أعظمُ منها ما هو أعظمُ من الإعراض ، حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات ، ولا مَساغَ لحمل الآيات في هذا الوجه على الآيات كلها أصلاً ، وأما ما قيل من أن المعنى أنهم لمّا كانوا معرِضين عن الآيات كلِّها كذبوا بالقرآن فمِمّا ينبغي تنزيهُ التنزيلِ عن أمثاله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.