البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَقَدۡ كَذَّبُواْ بِٱلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمۡ فَسَوۡفَ يَأۡتِيهِمۡ أَنۢبَـٰٓؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (5)

{ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم } { الحق } القرآن أو الإسلام أو محمد صلى الله عليه وسلم أو انشقاق القمر أو الوعد أو الوعيد ، أقوال والذي يظهر أنه الآية التي تأتيهم وكأنه قيل : { فقد كذبوا } بالآية التي تأتيهم وهي { الحق } فأقام الظاهر مقام المضمر ، لما في ذلك من وصفه بالحق وحقيقته كونه من آيات الله تعالى ، وظاهر قوله { فقد كذبوا } أن الفاء للتعقيب وأن إعراضهم عن الآية أعقبة التكذيب .

وقال الزمخشري : { فقد كذبوا } مردود على كلام محذوف كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات .

{ فقد كذبوا } بما هو أعظم آية وأكبرها وهو الحق ، لما جاءهم يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه ؛ انتهى .

ولا ضرورة تدعو إلى شرط محذوف إذ الكلام منتظم بدون هذا التقدير .

{ فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } هذا يدل على أنهم وقع منهم الاستهزاء ، فيكون في الكلام معطوف محذوف دل عليه آخر الآية وتقديره واستهزؤوا به ، { فسوف يأتيهم } وهذه رتب ثلاث صدرت من هؤلاء الكفار ، الإعراض عن تأمل الدلائل ثم أعقب الإعراض التكذيب ، وهو أزيد من الإعراض إذ المُعْرِض قد يكون غافلاً عن الشيء ثم أعقب التكذيب الاستهزاء ، وهو أزيد من التكذيب إذ المكذب قد لا يبلغ إلى حدّ الاستهزاء وهذه هي المبالغة في الإنكار ، والنبأ الخبر الذي يعظم وقعه وفي الكلام حذف مضاف أي : { فسوف يأتيهم } مضمن { أنباء } فقال قوم : المراد ما عذبوا به في الدنيا من القتل والسبي والنهب والإجلاء وغير ذلك ، وخصص بعضهم ذلك بيوم بدر .

وقيل : هو عذاب الآخرة ، وتضمنت هذه الجملة التهديد والزجر والوعيد كما تقول : اصنع ما تشاء فسيأتيك الخبر ، وعلق التهديد بالاستهزاء دون الإعراض والتكذيب لتضمنه إياهما ، إذ هو الغاية القصوى في إنكار الحق .

وقال الزمخشري : وهو القرآن أي أخباره وأحواله بمعنى سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وسيظهر لهم أنه لم يكن موضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته ؛ انتهى .

وهو على عادته في الإسهاب وشرح اللفظ والمعنى مما لا يدلان عليه ، وجاء هنا تقييد الكذب بالحق والتنفيس ب { سوف } وفي الشعراء { فقد كذبوا فسيأتيهم } لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء ، فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مراداً حالة على الأول وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس ، فجاء بالسين والظاهر أن ما في قوله : { ما كانوا } موصولة اسمية بمعنى الذي والضمير في { به } عائد عليها .

وقال ابن عطية : يصح أن تكون مصدرية التقدير { أنباء } كونهم مستهزئين فعلى هذا يكون الضمير في { به } عائداً على الحق لا على مذهب الأخفش حيث زعم أن { ما } المصدرية اسم لا حرف ، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية .