ثم حكى - سبحانه - أنهم لم يكتفوا بكل ما أثاروه من شبه لصرف أتباعهم عن الحق بل أضافوا إلى ذلك . أن ما يقوله هذا النبى مستبعد فى العقول ، وأنه رجل افترى على الله كذبا . . .
فقال - تعالى - : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } .
ولفظ " هيهات " اسم فعل ماض ، معناه : بَعُد بعداً شديداً ، والغالب فى استعمال هذا اللفظ مكرراً ، ويكون اللفظ الثانى مؤكداً لفظياً للأول .
أى : قال الملأ من قوم هذا النبى لغيرهم ، على سبيل التحذير من اتباعه : بعد بعداً كبيراً ما يعدكم به هذا الرجل من أن هناك بعثاً وحساباً وجزاء بعد الموت ، وأن هناك جنة وناراً يوم القيامة .
قال الآلوسى : " وقوله - سبحانه - : { هَيْهَاتَ } اسم بمعنى بعد .
وهو فى الأصل اسم صوت ، وفاعله مستتر فيه يرجع للتصديق أو للصحة أو للوقوع أو نحو ذلك مما يفهم من السياق . والغالب فى هذه الكلمة مجيئها مكررة . . . وقوله ؛ { لِمَا تُوعَدُونَ } بيان لمرجع ذلك الضمير ، فاللام متعلقة بمقدر ، كما فى قولهم : سقيا له .
ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد الموت والبلى ؛ ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا الأمر الغريب .
أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ? هيهات هيهات لما توعدون : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، نموت و نحيا ، وما نحن بمبعوثين . .
ومثل هؤلاء لا يمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى ؛ ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى غايتها البعيدة . هذه الغاية التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض . فالخير لا يلقى جزاءه الكامل في الحياة الدنيا . والشر كذلك . إنما يستكملان هذا الجزء هنالك ، حيث يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى ، التي لا خوف فيها ولا نصب ، ولا تحول فيها ولا زوال - إلا أن يشاء الله - ويصل المرتكسون المنتكسون إلى درك الحياة السفلية التي تهدر فيها آدميتهم ، ويرتدون فيها أحجارا ، أو كالأحجار !
مثل هؤلاء لا يدركون هذه المعاني ؛ ولا يستدلون من أطوار الحياة الأولى - التي سبقت في السورة - على أطوارها الأخيرة ؛ ولا ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الأطوار لا تقف بالحياة عند مرحلة الموت والبلى كما يظنون . . لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك الذي يعدهم أنهم مخرجون ؛ ويستبعدون في جهالة أن ذلك يكون ؛ ويجزمون في تبجح بأن ليس هنالك إلا حياة واحدة وموت واحد . يموت جيل ويحيا بعده جيل . فأما الذين ماتوا ، وصاروا ترابا وعظاما ، فهيهات هيهات الحياة لهم ، كما يقول ذلك الرجل الغريب !
القول في تأويل قوله تعالى : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن قول الملأ من ثمود أنهم قالوا : هَيْهاتَ هَيْهاتَ أي بعيد ما توعدون أيها القوم ، من أنكم بعد موتكم ومصيركم ترابا وعظاما مخرجون أحياء من قبوركم ، يقولون : ذلك غير كائن .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : هَيْهاتَ هَيْهاتَ يقول : بعيد بعيد .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِمَا تُوعَدُونَ قال : يعني البعث .
والعرب تُدخل اللام مع «هيهات » في الاسم الذي يصحبها ، وتنزعها منه ، تقول : هيات لك هيات ، وهيهاتَ ما تبتغي هيهات وإذا أسقطت اللام رفعت الاسم بمعنى هيهات ، كأنه قال : بعيد ما ينبغي لك كما قال جرير :
فهَيْهاتَ هَيْهاتَ العَقِيقُ وَمَنْ بِهِ *** وَهَيْهاتَ خِلّ بالعَقِيقِ نُوَاصِلُهْ
كأنه قال : العقيق وأهله ، وإنما دخلت اللام مع هيهات في الاسم لأنهم قالوا : «هيهات » أداة غير مأخوذة من فعل ، فأدخلوا معها في الاسم اللام ، كما أدخلوها مع هلمّ لك ، إذ لم تكن مأخوذة من فعل ، فإذا قالوا أقبل ، لم يقولوا لك ، لاحتمال الفعل ضمير الاسم .
واختلف أهل العربية في كيفية الوقف على هيهات ، فكان الكسائي يختار الوقوف فيها بالهاء ، لأنها منصوبة وكان الفرّاء يختار الوقوف عليها بالتاء ، ويقول : من العرب من يخفض التاء ، فدلّ على أنها ليست بهاء التأنيث ، فصارت بمنزلة دَرَاكِ ونَظَارِ وأما نصب التاء فيهما ، فلأنهما أداتان ، فصارتا بمنزلة خمسةَ عَشر . وكان الفراء يقول : إن قيل إن كل واحدة مستغنية بنفسها يجوز الوقوف عليها ، وإن نصبها كنصب قوله : تُمّتَ جلست وبمنزلة قول الشاعر :
ماوِيّ يَارُبّتَما غارةٍ *** شَعْوَاءَ كاللّذْعَةِ بالمِيسَمِ
قال : فنصب «هيهات » بمنزلة هذه الهاء التي في «ربت » ، لأنها دخلت على حرف ، على «ربّ » وعلى «ثم » ، وكانا أداتين ، فلم تغيرها عن أداتهما فنصبا .
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته قرّاء الأمصار غير أبي جعفر : هَيْهاتَ هَيْهاتَ بفتح التاء فيهما . وقرأ ذلك أبو جعفر : «هَيْهاتِ هَيْهَاتِ » بكسر التاء فيهما . والفتح فيهما هو القراءة عندنا ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
جملة { هيهات } بيان لجملة { يَعِدُكم } فلذلك فُصلت ولم تعطف .
و { هيهات } كلمة مبنية على فتح الآخر وعلى كسره أيضاً . وقرأها الجمهور بالفتح . وقرأها أبو جعفر بالكسر . وتدل على البعد . وأكثر ما تستعمل مكررة مرتين كما في هذه الآية أو ثلاثاً كما جاء في شعر لحُميد الأرقط وجرير يأتيان .
واختلف فيها أهي فعل أم اسم ؛ فجمهور النحاة ذهبوا إلى أن ( هيهات ) اسم فعل للماضي من البُعد ، فمعنى هيهات كذا : بعُد . فيكون ما يلي ( هيهات ) فاعلاً . وقيل هي اسم للبُعد ، أي فهي مصدر جامد وهو الذي اختاره الزجاج في « تفسيره » .
قال الراغب : وقال البعض : غلط الزجاج في « تفسيره » واستهواه اللام في قوله تعالى : { هيهات هيهات لما توعدون } .
وقيل : هيهات ظرف غير متصرف ، وهو قول المبرد . ونسبه في « لسان العرب » إلى أبي علي الفارسي . قال : قال ابن جني : كان أبو علي يقول في هيهات : أنا أفتي مرة بكونها اسماً سمي به الفعل مثل صَهْ ومَهْ ، وأُفتي مرة بكونها ظرفاً على قدر ما يحضرني في الحال .
وفيها لغات كثيرة وأفصحها أنها بهاءين وتاء مفتوحة فتحة بناء ، وأن تاءها تثبت في الوقف وقيل يوقف عليها هاء ، وأنها لا تنون تنوين تنكير .
وقد ورد ما بعد ( هيهات ) مجروراً باللام كما في هذه الآية . وورد مرفوعاً كما في قول جرير :
فهيهاتَ هيهاتَ العقيقُ وأهلُهُ *** وهيهاتَ خِلّ بالعقيق نحاوله
وورد مجروراً ب ( مِن ) في قول حميد الأرقط :
هيهاتِ من مُصبَحها هيهاتِ *** ههياتِ حِجْرٌ من صُنَيْبِعَاتِ
فالذي يتضح في استعمال ( هيهات ) أن الأصل فيما بعدها أن يكون مرفوعاً على تأويل ( هيهات ) بمعنى فعل ماض من البُعد كما في بيت جرير ، وأن الأفصح أن يكون ما بعدها مجروراً باللام فيكون على الاستغناء عن فاعل اسم الفعل للعلم به مما يسبق ( هيهات ) من الكلام لأنها لا تقع غالباً إلا بعد كلام ، وتجعل اللام للتبيين ، أي إيضاح المراد من الفاعل ، فيحصل بذلك إجمال ثم تفصيل يفيد تقوية الخبر . وهذه اللام ترجع إلى لام التعليل . وإذا ورد ما بعدها مجروراً ب ( مِن ) ف ( مِن ) بمعنى ( عن ) أي بَعُد عنه أو بُعداً عنه .
على أنه يجوز أن تؤوّل ( هيهات ) مرة بالفعل وهو الغالب ومرة بالمصدر فتكون اسم مصدر مبنياً جامداً غير مشتق . ويكون الإخبار بها كالإخبار بالمصدر ، وهو الوجه الذي سلكه الزجاج في تفسير هذه الآية ويشير كلام الزمخشري إلى اختياره .
وجاء هنا فعل { توعدون } من ( أوعد ) وجاء قبله فعل { أيَعِدكم } وهو من ( وَعَدَ ) مع أن الموعود به شيء واحد . قال الشيخ ابن عرفة : لأن الأول : راجع إليهم في حال وجودهم فجعل وعداً ، والثاني راجع إلى حالتهم بعد الموت والانعدام فناسب التعبير عنه بالوعيد اه .
وأقول : أحسن من هذا أنه عبَّر مرة بالوعد ومرة بالوعيد على وجه الاحتباك ، فإن إعلامهم بالبعث مشتمل على وعد بالخير إن صدّقوا وعلى وعيد إن كذّبوا ، فذكر الفعلان على التوزيع إيجازاً .