{ 21 - 25 ْ } { أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ْ }
لما بيَّن تعالى كمال اقتداره وعظمته ، وخضوع كل شيء له ، أنكر على المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة من الأرض ، في غاية العجز وعدم القدرة { هُمْ يُنْشِرُونَ ْ } استفهام بمعنى النفي ، أي : لا يقدرون على نشرهم وحشرهم ، يفسرها قوله تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ْ } { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ* لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ْ } فالمشرك يعبد المخلوق ، الذي لا ينفع ولا يضر ، ويدع الإخلاص لله ، الذي له الكمال كله وبيده الأمر والنفع والضر .
وبعد أن بين - سبحانه - أن من مخلوقاته من يقوم بتسبيحه وعبادته بدون انقطاع أو فتور ، أتبع ذلك بتوبيخ المشركين وبإقامة الأدلة على وحدانيته ، واستحالة أن يكون هناك من يشاركه فى ألوهيته فقال - تعالى - : { أَمِ اتخذوا آلِهَةً . . . } .
قال الإمام الرازى : اعلم أن الكلام من أول السورة إلى هنا كان فى النبوات وما يتصل بها من الكلام سؤالا وجوابا ، وأما هذه الآيات فإنها فى بيان التوحيد ونفى الأضداد والأنداد . . . " .
والاستفهام فى قوله { أَمِ اتخذوا } . . . للإنكار والتوبيخ . وقوله : { يُنشِرُونَ } من النشر بمعنى الإحياء والبعث . يقال : أنشر الله - تعالى - الموتى : إذا بعثهم بعد موتهم .
والمعنى : إن هؤلاء الضالين قد أشركوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة ، فهل هذه الآلهة التى اتخذوها تستطيع أن تعيد الحياة إلى الأموات ؟
كلا إنها لا تستطيع ذلك بإقرارهم ومشاهدتهم ، وما دام الأمر كذلك فكيف أباحوا لأنفسهم أن يتخذوا آلهة لا تستيطع أن تفعل شيئا من ذلك أو من غيره ؟
إن اتخاذهم هذا لمن أكبر الأدلة وأوضحها على جهالاتهم وسفاهاتهم وسوء تفكيرهم .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : فإن قلت : كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر . وما كانوا يدّعون ذلك لآلهتهم ، لأنهم كانوا ينكرون البعث أصلا ويقولون : من يحيى العظام وهى رميم ؟ قلت : الأمر كما ذكرت ولكنهم بادعائهم لها الإلهية ، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار ، لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور ، والإنشار من جملة المقدورات . وفيه باب من التهكم بهم ، والتوبيخ والتجهيل ، وإشعار بأن ما استبعدوه من الله - تعالى - لا يصح استبعاده ، لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة .
وقوله - سبحانه - { مِّنَ الأرض } متعلق باتخذوا ، و " من " ابتدائية ، أى : اتخذوها من أجزاء الأرض كالحجارة وما يشبهها ، ويجوز أن يكون الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة للآلهة ، أى : اتخذوا آلهة كائنة من الأرض . . . . وعلى كلا التقديرين فالمراد بهذا التعبير التحقير والتجهيل .
وفي ظل التسبيح الذي لا يفتر ولا ينقطع لله الواحد ، مالك السماوات والأرض ومن فيهن . يجيء الإنكار على المشركين واستنكار دعواهم في الآلهة . ويعرض السياق دليل الوحدانية من المشهود في نظام الكون وناموسه الواحد الدال على المدبر الواحد ؛ ومن المنقول عن الكتب السابقة عند أهل الكتاب :
( أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ? لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا . فسبحان الله رب العرش عما يصفون . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . أم اتخذوا من دونه آلهة ? قل : هاتوا برهانكم . هذا ذكر من معي وذكر من قبلي . بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون . وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) . .
والسؤال عن اتخاذهم آلهة هو سؤال استنكار للواقع منهم . ووصف هؤلاء الآلهة بأنهم ينشرون من الأرض أي يقيمون الأموات ويبعثونهم أحياء . فيه تهكم بتلك الآلهة التي اتخذوها . فمن أول صفات الإله الحق أن ينشر الأموات من الأرض . فهل الآلهة التي اتخذوها تفعل هذا ? إنها لا تفعل ، ولا يدعون لها هم أنها تخلق حياة أو تعيد حياة . فهي إذن فاقدة للصفة الأولى من صفات الإله .
ينكر{[19609]} تعالى على من اتخذ من دونه آلهة ، فقال : بل { اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ } أي : أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض ؟ أي : لا يقدرون على شيء من ذلك . فكيف جعلوها لله ندًا وعبدوها معه .
وقوله : أم اتخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ يقول تعالى ذكره : أتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض هم ينشرون يعني بقوله «هم » : الاَلهة . يقول : هذه الاَلهة التي اتخذوها تنشر الأموات يقول : يحيون الأموات ، وينشرون الخلق ، فإن الله هو الذي يحيي ويميت . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى «ح » وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يُنْشِرُونَ يقول : يُحيون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أمِ اتّخَذُوا آلهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ يقول : أفي آلهتم أحد يحيي ذلك يُنْشِرُون ؟ وقرأ قول الله : قُلْ مَنْ يَرْزقُكمْ مِنَ السّماءِ والأرْضِ . . . إلى قوله : ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ .
هذه { أم } التي هي بمنزلة ألف الاستفهام ، وهي هاهنا تقرير وتوقيف ، ومذهب سيبويه أنها بمنزلة بل مع ألف الاستفهام ، كأن في القول إضراباً عن الأول ووقفهم الله تعالى هل { اتخذوا آلهة } يحيون ويخترعون ، أي ليست آلهتكم كذلك فهي آلهة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة . وقرأت فرقة «يُنشرون » بضم الياء بمعنى يحيون غيرهم ، وقرأت فرقة «يَنشرون »{[8203]} بمعنى يحيونهم وتدوم حياتهم يقال نشر الميت وأنشره الله تعالى .
( أم ) هذه منقطعة عاطفة الجملة على الجملة عطفَ إضراب انتقالي هو انتقال من إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية دلالة القرآن إلى إبطال الإشراك ، انتقالاً من بقية الغرض السابق الذي تهيأ السامع للانتقال منه بمقتضى التخلص ، الذي في قوله تعالى : { وله من في السماوات والأرض ومن عنده } [ الأنبياء : 19 ] كما تقدم ، إلى التمحض لغرض إبطال الإشراك وإبطال تعدد الآلهة . وهذا الانتقال وقع اعتراضاً بين جملة { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] وجملة { لا يسأل عما يفعل } [ الأنبياء : 23 ] . وليس إضرابُ الانتقال بمقتضضٍ عدم الرجوع إلى الغرض المنتقل إليه .
و ( أم ) تؤذن بأن الكلام بعدها مسوق مساق الاستفهام وهو استفهام إنكاري ، أنكر عليه اتخاذهم آلهة .
وضمير { اتخذوا } عائد إلى المشركين المتبادرين من المقام في مثل هذه الضمائر . وله نظائر كثيرة في القرآن . ويجوز جعله التفاتاً عن ضمير { ولكم الويل مما تصفون } [ الأنبياء : 18 ] ، ويجوز أن يكون متناسقاً مع ضمائر { بل قالوا أضغاث أحلام } [ الأنبياء : 5 ] وما بعده .
ووصف الآلهة بأنها من الأرض تهكم بالمشركين ، وإظهار لأفن رأيهم ، أي جعلوا لأنفسهم آلهة من عالَم الأرض أو مأخوذة من أجزاء الأرض من حجارة أو خشب تعريضاً بأن ما كان مثلَ ذلك لا يستحق أن يكون معبوداً ، كما قال إبراهيم عليه السلام : { أتعبدون ما تنحتون } في [ الصافات : 95 ] .
وذكر الأرض هنا مقابلة لقوله تعالى : { ومن عنده } [ الأنبياء : 19 ] لأن المراد أهل السماء ، وجملة { هم ينشرون } صفة ثانية ل { آلهة } .
واقترانها بضمير الفصل يفيد التخصيص أن لا ينشر غير تلك الآلهة . والمراد : إنْشار الأموات ، أي بعثُهم . وهذا مسوق للتهكم وإدماج لإثبات البعث بطريقة سَوْق المعلوم مساق غَيره المسمى بتجاهل العارف ، إذ أبرز تكذيبهم بالبعث الذي أخبرهم الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في صورة تكذيبهم استطاعة الله ذلك وعجزه عنه ، أي أن الأوْلى بالقدرة على البعث شركاؤهم فكأنّ وقوع البعث أمر لا ينبغي النزاع فيه فإنْ نازع فيه المنازعون فإنما ينازعون في نسبته إلى الله ويرومون بذلك نسبته إلى شركائهم فأنكرت عليهم هذه النسبة على هذه الطريقة المفعمة بالنكت ، والمشركون لم يدّعوا لآلهتهم أنها تبعث الموتى ولا هم معترفون بوقوع البعث ولكن نُزلوا منزلة من يزعم ذلك إبداعاً في الإلزام . ونظيره قوله تعالى في سورة [ النحل : 21 ] في ذكر الآلهة : { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون . }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"أم اتخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ" يقول تعالى ذكره: أتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض "هم ينشرون "يعني بقوله «هم»: الآلهة. يقول: هذه الآلهة التي اتخذوها تنشر الأموات، يقول: يحيون الأموات، وينشرون الخلق، فإن الله هو الذي يحيي ويميت...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أم اتخذوا} استفهام في الظاهر من الخلق، لكن ذلك من الله على الإيجاب؛ كأنه قال: قد اتخذوا آلهة. وهكذا كل ما خرج في الظاهر من الله على الاستفهام فإنه على الإيجاب لأنه عالم بما كان، ويكون، لا يخفى عليه شيء...
{هم ينشرون} [يحتمل] وجهين: أحدهما: {هم ينشرون} أي يخلقون؟ أي: اتخذوا آلهة لا يخلقون، كقوله {خلقوا كخلقه} [الرعد: 16] وكيف اتخذوا آلهة لا يخلقون، وإنما يعرف الإله بالخلق، وبآثار تكون في الخلق؟ فإذا لم يكن من هؤلاء خلق كيف اتخذوها آلهة؟ والثاني: {هم ينشرون} أي يبعثون؟ ويحيون؟ فإن كان على البعث والإحياء، فكأنه يقول: كيف اتخذوا من لا يملك البعث والإحياء آلهة؟
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
معنى قوله: (من الأرض) أي: من الخشب والحجارة، (وقد كانت عامة أصنام المشركين من الخشب والحجارة)، وهما من الأرض.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هذه أم المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة، قد آذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها، والمنكر: هو اتخاذهم {ءَالِهَةً مّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ} الموتى، ولعمري أن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات...
والإنشار من جملة المقدورات. وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل، وإشعار بأنّ ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده؛ لأنّ الإلهية لما صحت صحّ معها الاقتدار على الإبداء والإعادة.
اعلم أن الكلام من أول السورة إلى ههنا كان في النبوات وما يتصل بها من الكلام سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الأضداد والأنداد... فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة ينشرون وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم؟ قلت: لأنهم لما اشتغلوا بعبادتها، ولا بد للعبادة من فائدة هي الثواب، فإقدامهم على عبادتها يوجب عليهم الإقرار بكونهم قادرين على الحشر والنشر والثواب والعقاب، فذكر ذلك على سبيل التهكم بهم والتجهيل، يعني إذا كانوا غير قادرين على أن يحيوا ويميتوا ويضروا وينفعوا فأي عقل يجوز اتخاذهم آلهة؟
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{من الأرض} صفة لآلهة أو متعلقة بالفعل على معنى الابتداء، وفائدتها التحقير دون التخصيص.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانوا عند هذا البيان جديرين بأن يبادروا إلى التوحيد فلم يفعلوا، كانوا حقيقين بعد الإعراض عنهم -بالتوبيخ والتهكم والتعنيف فقال تعالى: {أم اتخذوا}... {هم} أي خاصة {ينشرون} أي يحيون شيئاً مما فيها من الأجسام النامية حتى يستحقوا بذلك صفة الإلهية، وإفادة السياق الحصر تفيد أنه لو وقع الإنشاء لأحد على وجه يجوّز مشاركة غيره له لم يستحق العبادة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما بيَّن تعالى كمال اقتداره وعظمته، وخضوع كل شيء له، أنكر على المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة من الأرض، في غاية العجز وعدم القدرة، {هُمْ يُنْشِرُونَ ْ} استفهام بمعنى النفي، أي: لا يقدرون على نشرهم وحشرهم، يفسرها قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ْ}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ظل التسبيح الذي لا يفتر ولا ينقطع لله الواحد، مالك السماوات والأرض ومن فيهن. يجيء الإنكار على المشركين واستنكار دعواهم في الآلهة. ويعرض السياق دليل الوحدانية من المشهود في نظام الكون وناموسه الواحد الدال على المدبر الواحد؛ ومن المنقول عن الكتب السابقة عند أهل الكتاب:
(أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون؟ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. فسبحان الله رب العرش عما يصفون. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. أم اتخذوا من دونه آلهة؟ قل: هاتوا برهانكم. هذا ذكر من معي وذكر من قبلي. بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون. وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)..
والسؤال عن اتخاذهم آلهة هو سؤال استنكار للواقع منهم. ووصف هؤلاء الآلهة بأنهم ينشرون من الأرض أي يقيمون الأموات ويبعثونهم أحياء. فيه تهكم بتلك الآلهة التي اتخذوها. فمن أول صفات الإله الحق أن ينشر الأموات من الأرض. فهل الآلهة التي اتخذوها تفعل هذا؟ إنها لا تفعل، ولا يدعون لها هم أنها تخلق حياة أو تعيد حياة. فهي إذن فاقدة للصفة الأولى من صفات الإله.
ذلك منطق الواقع المشهود في الأرض.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
(أم) هذه منقطعة عاطفة الجملة على الجملة عطفَ إضراب انتقالي هو انتقال من إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية دلالة القرآن إلى إبطال الإشراك، انتقالاً من بقية الغرض السابق الذي تهيأ السامع للانتقال منه بمقتضى التخلص، الذي في قوله تعالى: {وله من في السماوات والأرض ومن عنده} [الأنبياء: 19] كما تقدم، إلى التمحض لغرض إبطال الإشراك وإبطال تعدد الآلهة. وهذا الانتقال وقع اعتراضاً بين جملة {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 20] وجملة {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء: 23]. وليس إضرابُ الانتقال بمقتضٍ عدم الرجوع إلى الغرض المنتقل إليه.
و (أم) تؤذن بأن الكلام بعدها مسوق مساق الاستفهام وهو استفهام إنكاري، أنكر عليه اتخاذهم آلهة.
وضمير {اتخذوا} عائد إلى المشركين المتبادرين من المقام في مثل هذه الضمائر. وله نظائر كثيرة في القرآن. ويجوز جعله التفاتاً عن ضمير {ولكم الويل مما تصفون} [الأنبياء: 18]، ويجوز أن يكون متناسقاً مع ضمائر {بل قالوا أضغاث أحلام} [الأنبياء: 5] وما بعده.
ووصف الآلهة بأنها من الأرض تهكم بالمشركين، وإظهار لأفن رأيهم، أي جعلوا لأنفسهم آلهة من عالَم الأرض أو مأخوذة من أجزاء الأرض من حجارة أو خشب تعريضاً بأن ما كان مثلَ ذلك لا يستحق أن يكون معبوداً، كما قال إبراهيم عليه السلام: {أتعبدون ما تنحتون} في [الصافات: 95].
وذكر الأرض هنا مقابلة لقوله تعالى: {ومن عنده} [الأنبياء: 19] لأن المراد أهل السماء، وجملة {هم ينشرون} صفة ثانية ل {آلهة}.
واقترانها بضمير الفصل يفيد التخصيص أن لا ينشر غير تلك الآلهة. والمراد: إنْشار الأموات، أي بعثُهم. وهذا مسوق للتهكم وإدماج لإثبات البعث بطريقة سَوْق المعلوم مساق غَيره المسمى بتجاهل العارف، إذ أبرز تكذيبهم بالبعث الذي أخبرهم الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في صورة تكذيبهم استطاعة الله ذلك وعجزه عنه، أي أن الأوْلى بالقدرة على البعث شركاؤهم فكأنّ وقوع البعث أمر لا ينبغي النزاع فيه فإنْ نازع فيه المنازعون فإنما ينازعون في نسبته إلى الله ويرومون بذلك نسبته إلى شركائهم فأنكرت عليهم هذه النسبة على هذه الطريقة المفعمة بالنكت، والمشركون لم يدّعوا لآلهتهم أنها تبعث الموتى ولا هم معترفون بوقوع البعث ولكن نُزلوا منزلة من يزعم ذلك إبداعاً في الإلزام. ونظيره قوله تعالى في سورة [النحل: 21] في ذكر الآلهة: {أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون}.