{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ْ } لما مدحهم بكثرة الطاعة والخضوع لله ، مدحهم بالخوف من الله الذي هو فوقهم بالذات والقهر ، وكمال الأوصاف ، فهم أذلاء تحت قهره . { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ْ } أي : مهما أمرهم الله تعالى امتثلوا لأمره ، طوعا واختيارا ، وسجود المخلوقات لله تعالى قسمان : سجود اضطرار ودلالة على ما له من صفات الكمال ، وهذا عام لكل مخلوق من مؤمن وكافر وبر وفاجر وحيوان ناطق وغيره ، وسجود اختيار يختص بأوليائه وعباده المؤمنين من الملائكة وغيرهم [ من المخلوقات ] .
ثم وصفهم - سبحانه - بالخشية منه ، وبالخوف من عقابه فقال : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } .
أى : أن من صفات الملائكة ، أنهم يخافون ربهم الذى هو من فوقهم بجلاله وقهره وعلوه - بلا تشبيه ولا تمثيل - ، ويفعلون ما يؤمرون به من الطاعات ، ومن كل ما يكلفهم به - سبحانه - دون أن تصدر منهم مخالفة .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد وصفت الله - تعالى - بما هو أهل له - سبحانه - من صفات القدرة والجلال والكبرياء ، حتى يفئ الضالون إلى رشدهم ، ويخلصوا العبادة لخالقهم - عز وجل - .
( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )
لا يستكبرون عن عبادة الله ولا يخالفون عن أمره . والمنكرون المستكبرون من بني الإنسان وحدهم شواذ في هذا المقام العجيب .
وبهذا المشهد يختم الدرس الذي بدأ بالإشارة إلى المنكرين المستكبرين ، ليفردهم في النهاية بالإنكار والاستكبار في مشهد الوجود . . .
القول في تأويل قوله تعالى { يَخَافُونَ رَبّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يخاف هؤلاء الملائكة التي في السموات وما في الأرض من دابة ، ربّهم من فوقهم ، أن بعذّبهم إن عَصَوا أمره . ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ يقول : ويفعلون ما أمرهم الله به ، فيؤدّون حقوقه ويجتنبون سُخْطه .
{ يخافون ربهم من فوقهم } يخافونه أن يرسل عذابا من فوقهم ، أو يخافونه وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى : { وهو القاهر فوق عباده } والجملة حال من الضمير في { لا يستكبرون } ، أو بيان له وتقرير لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته . { ويفعلون ما يؤمرون } من الطاعة والتدبير ، وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء .
جملة { يخافون ربهم } بيان لجملة { وهم لا يستكبرون } .
والفوقية في قوله : { من فوقهم } فوقية تصرف ومِلك وشرف كقوله تعالى : { وهو القاهر فوق عباده } [ سورة الأنعام : 18 ] وقوله { وإنا فوقهم قاهرون } [ سورة الأعراف : 127 ] .
وقوله تعالى : { ويفعلون ما يؤمرون } ، أي يطيعون ولا تصدر منهم مخالفة .
وهنا موضع سجود للقارىء بالاتّفاق . وحكمته هنا إظهار المؤمن أنه من الفريق الممدوح بأنه مشابه للملائكة في السجود لله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعت الله الملائكة، فقال: {والملائكة وهم لا يستكبرون}، يعنى لا يتكبرون عن السجود. {يخافون ربهم من فوقهم}، الذي هو فوقهم؛ لأن الله تعالى فوق كل شيء، فوق العرش، والعرش فوق كل شيء، {ويفعلون ما يؤمرون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يخاف هؤلاء الملائكة التي في السموات وما في الأرض من دابة، ربّهم من فوقهم، أن يعذّبهم إن عَصَوا أمره.
"ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ" يقول: ويفعلون ما أمرهم الله به، فيؤدّون حقوقه ويجتنبون سُخْطه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يخافون ربهم من فوقهم} قال بعضهم: خوف الملائكة والرسل خوف هيبة الله وجلاله، لا خوف نزول شيء من نقمته عليهم، وخوف غيرهم من البشر خوف نزول شيء يضر بهم. وكذلك رجاؤهم وطمعهم رجاء نفع يصل إليهم، ورجاء الملائكة والرسل وطمعهم رجاء رضا الله عنهم لا رجاء نفع يصل إليهم. وقال بعضهم: {يخافون ربهم من فوقهم} خوف العقوبة والانتقام، لأنهم ممتحنون؛ وكل ممتحن يخاف عذاب الله ونقمته. ألا ترى أنه كيف أوعدهم الوعيد الشديد، وقال: {ومن يقل منهم إني إله من دونه} (الأنبياء: 29) وقال إبراهيم رضي الله عنه: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} (إبراهيم: 35) خاف عبادة غير الله؟ ومن خاف ذلك يخف وعيده وعذابه، والله أعلم.
و {يخافون ربهم من فوقهم} الفوق والتحت الأسفل ونحوه في المكنة، والمجلس ليس فيه فضل عز وشرف ومرتبة لما يجوز أن يكون الذي كان فوق هذا في المكان المجلس تحته وأسفل منه، فلا يزداد لهذا بما صار فوقه عزا وشرفا ومرتبة، ولا لهذا بما كان تحته ذل وهوان، لكنه لا يفهم {من فوقهم} فوق المكان ولا تحته، لأن من صعد الجبال والمكنة المرتفعة، لا يوصف بالعلو والعظمة. وإذا قيل: فلان أمير على العراق أو على خراسان، كان في ذلك تعظيم، لأنه ذكر بالقدرة والسلطان ونفاذ أمره ومشيئته وقدرته وسلطانه فيهم أو اطلاعه على جميع ما يسرون، ويضمرون، ويعلنون، ويظهرون، وعلمه بجميع أفعالهم. على هذا يجوز أن يتناول الفوق، والله أعلم.
{ويفعلون ما يؤمرون} وصفهم الله عز وجل بفضل طاعتهم له وخضوعهم إياه، وهو ما قال: {لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} {يسبحون ليلا ونهارا لا يفترون} (الأنبياء: 19 و 20) وهو ما قال: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} التحريم: 6) ومثله.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" يخافون ربهم من فوقهم، ويفعلون ما يؤمرون "قيل في معناه قولان:
أحدهما: يخافون عقاب ربهم من فوقهم، لأنه يأتي من فوق.
الثاني: أنه لما وصف بأنه عال ومتعال، على معنى قادر، لا قادر أقدر منه، فقيل صفته في أعلى مراتب صفات القادرين، حسن أن يقال "من فوقهم "ليدل على أن هذا المعنى من الاقتدار الذي لا يساويه قادر.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
..ويقال خيرُ شيء للعبد في الدنيا والآخرة الخوفُ؛ إذ يمنعه من الزَّلة ويحمله على الطاعة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يَخَافُونَ} يجوز أن يكون حالاً من الضمير في {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أي: لا يستكبرون خائفين، وأن يكون بياناً لنفي الاستكبار وتأكيداً له، لأنّ من خاف الله لم يستكبر عن عبادته {مّن فَوْقِهِمْ} إن علقته بيخافون، فمعناه: يخافونه أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم، وإن علقته بربهم حالا منه فمعناه: يخافون ربهم عالياً لهم قاهراً، كقوله {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18، 61]...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{يخافون ربهم} عام لجميع الحيوان...
{ويفعلون ما يؤمرون} أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفد من أمر الله تعالى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم علل خضوعهم بقوله دلالة على أنهم كغيرهم في الوقوف بين الخوف والرجاء: {يخافون ربهم} أي الموجد لهم، المدبر لأمورهم، المحسن إليهم، خوفاً مبتدئاً {من فوقهم} إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم، أو حال كون ربهم مع إحسانه إليهم له العلو والجبروت، فهو المخوف المرهوب، فهم عما نهوا عنه ينتهون {ويفعلون} أي بداعية عظيمة علماً منهم بما عليهم لربهم من الحق مع عدم منازع من حظ أو شهوة أو غير ذلك، ودل على أنهم مكلفون بقوله تعالى: {ما يؤمرون} فهم لرحمته لهم يرجون؛ فالآية من الاحتباك: ذكر الخوف أولاً دال على الرجاء ثانياً، وذكر الفعل ثانياً دال على الانتهاء أولاً.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} لما مدحهم بكثرة الطاعة والخضوع لله، مدحهم بالخوف من الله الذي هو فوقهم بالذات والقهر، وكمال الأوصاف، فهم أذلاء تحت قهره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لا يستكبرون عن عبادة الله ولا يخالفون عن أمره. والمنكرون المستكبرون من بني الإنسان وحدهم شواذ في هذا المقام العجيب. وبهذا المشهد يختم الدرس الذي بدأ بالإشارة إلى المنكرين المستكبرين، ليفردهم في النهاية بالإنكار والاستكبار في مشهد الوجود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {يخافون ربهم} بيان لجملة {وهم لا يستكبرون}. والفوقية في قوله: {من فوقهم} فوقية تصرف ومِلك وشرف.. وهنا موضع سجود للقارىء بالاتّفاق. وحكمته هنا إظهار المؤمن أنه من الفريق الممدوح بأنه مشابه للملائكة في السجود لله تعالى.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{من فوقهم}... ونحن نرى أن الفوقية هنا فوقيتهم هم، لا فوقية الله، والله تعالى فوق كل شيء، ومعنى فوقيتهم علوهم في الخلق والتكوين، وكونهم أرواحا طاهرة، وإنهم مع هذه الفوقية يخافون الله تعالى، فكلما علوا في الروحانية كان خوفهم بمقدار علوهم، وبذلك يستقيم الكلام من غير تقدير (يرسل) أو نحو ذلك، ويكون متفقا على ختمت به الآية السابقة في قوله تعالى عنهم: {وهم لا يستكبرون}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرةً وتأكيداً لنفي حالة الاستكبار عنهم: (يخافون ربّهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون).
كما جاء في الآية (6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة: (لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون).
ويستفاد من هذه الآية بوضوح.. أنّ علامة نفي الاستكبار شيئان:
أ -الشعور بالمسؤولية وإِطاعة الأوامر الإِلهية من دون أي اعتراض، وهو وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.
ب- ممارسة الأوامر الإِلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك.. وهذا انعكاس للأول، وهو التحقيق العيني له.
وممّا لا ريب فيه أنّ عبارة (من فوقهم) ليست إِشارة إلى العلو الحسي والمكاني، بل المراد منها العلو المقامي، لأنّ اللّه عز وجل فوق كل شي مقاماً.