اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ۩} (50)

ومعنى " يَخافُونَ ربَّهُمْ " ، أي : عقابه .

قوله : " مِنْ فَوْقِهِمْ " يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه يتعلق ب " يَخَافُونَ " ، أي : يخافون عذاب ربهم كائناً من فوقهم فقوله " مِنْ فوقِهِمْ " صفة للمضاف ، وهو عذابٌ ، وهي صفة كاشفةٌ ؛ لأن العذاب إنَّما ينزل من فوق .

الثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال من " رَبِّهمْ " ، أي : يخافون ربَّهم عالياً عليهم علوَّ الرتبة والقدرة قاهراً لهم ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ }

[ الأنعام : 18 ] .

فصل دلالة الآية على عصمة الملائكة

دلت الآية على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب ؛ لأن قوله { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يدلُّ على أنهم منقادون لخالقهم ، وأنهم ما خالفوه في أمرٍ من الأمور ، كقوله { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] ، وقوله : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] ، وكذلك قوله - جل وعز- : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] وذلك يدل على أنهم فعلوا كلَّ ما أمروا به ، فدل على عصمتهم عن كل الذنوب .

فإن قيل : هب أن الآية دلت على أنَّهم فعلوا كلَّ ما أمروا به ، فلم قلتم : إنها تدلُّ على أنهم تركوا كل ما نُهوا عنه ؟ .

فالجواب : أنَّ كلَّ من نهى عن شيءٍ ، فقد أمر بتركه ؛ وحينئذ يدخل في اللفظ ، فإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كلِّ الذنوب ، وثبت أنَّ إبليس ما كان معصوماً من الذنوب ، بل كان كافراً ؛ لزم القطع بأنَّ إبليس ما كان من الملائكةِ ، وأيضاً : فإنه - تعالى - قال في صفة الملائكة : { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } ، ثم قال عز وجل لإبليس { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } [ ص : 75 ] وقال : { فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } [ الأعراف : 13 ] وثبت أنَّ الملائكة لا يستكبرون ، وثبت أنَّ إبليس تكبَّر ، واستكبر ، فوجب أن لا يكون من الملائكة .

وللخصم أن يجيب بأن إبليس لو لم يكن من الملائكة ، لما ذمَّ على تركه المعهود من ترك مخالفة الأمرِ ، ومن الاستكبار ، فلما خالف الأمر ، واستكبر ، خرج من حيّز الملائكة ، ولعن ، وطرد ؛ لأنه خالف المعهود من حاله .

قال ابن الخطيب - رحمه الله - " ولما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة ، ثبت أنَّ القصة الخبيثة التي يذكرونها في حقِّ هاروت وماروت باطلة ، فإن الله - تبارك وتعالى - وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم من كل ذنبٍ ؛ وجب القطع بأن تلك القصة باطلة كاذبة " .

واحتجَّ الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا : إنَّ الله - تعالى - وصفهم بالخوف ، ولولا أنهم يجوِّزون من أنفسهم الإقدام على الذنوب ، وإلاَّ لم يحصل الخوفُ والجواب من وجهين :

الأول : أنه - تعالى - حَذَّرهم من العقاب ؛ فقال { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] فللخوف من العذاب يتركون الذنب .

الثاني : أن ذلك الخوف خوف الإجلال ؛ هكذا نقل عن ابن عباس ؛ كقوله تعالى { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] وكقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنِّي لأخْشَاكُم للهِ " حين قالوا له وقد بكى : أتَبْكِي وقد غَفرَ الله لَكَ مَا تقدَّم من ذَنْبِكَ وما تَأخَّر ؟ .

وهذا يدلُّ على أنه كلَّما كانت معرفة الله أتمَّ ، كان الخوف منه أعظم . وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء{[19859]} .

فصل في استدلال المشبهة بالآية والرد عليهم

استدل المشبهة بقوله تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } على أنه - تعالى - فوقهم بالذات .

والجواب : أن معناه : يخافون ربَّهم ؛ من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم ، وإذا احتمل اللفظ هذا المعنى ؛ سقط استدلالهم ، وأيضاً يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة ، والقهر والغلبة ؛ لقوله تعالى : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } [ الأعراف : 127 ]

ويقوِّي هذا الوجه أنه تعالى قال : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } فوجب أن يكون المقتضي لخوفهم هو كون ربِّهم فوقهم ؛ لأنَّ الحكم المرتب على وصف يشعر بكون ذلك الحكم معلَّلاً بذلك الوصف ، وهذا التعليل ، إنَّما يصح إذا كان المراد بالفوقية ، القهر والقدرة ؛ لأنَّها هي الموجبة للخوف ، وأما الفوقية بالجهة ، والمكان ، فلا توجب الخوف ؛ لأنَّ حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنَّه أخسُّ عبيده .

فصل في أن الملك أفضل من البشر

تمسك قومٌ بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من وجوه :

الأول : قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة } وقد تقدم أنَّ تخصيص هذين النوعين بالذكر ، إنَّما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخسَّ المراتب ، وكان الطرف الثاني أشرفها ، حتَّى يكون ذكر هذين الطرفين منبهاً على الباقي ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله - عز وجل- .

الثاني : أن قوله { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يدلُّ على أنه ليس في قلوبهم تكبر ، وترفع ، وقوله تعالى : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } يدل على أنَّ أعمالهم خالية عن الذنب ، والمعصية ، فمجموع هذين الكلامين يدلُّ على أنَّ بواطنهم ، وظواهرهم ، مبرأةٌ عن الأخلاق الفاسدة ، والأفعال الباطلة ، وأما البشر ، فليسوا كذلك ويدلُّ عليه القرآن والخبر .

أما القرآن فقوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] وهذا الحكم عامٌّ في الإنسان ، وأقلُّ مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذَّميمة .

وأما الخبر ، فقوله عليه الصلاة والسلام- : " مَا منَّا إلاَّ وقدْ عصى أو هَمَّ بِمعْصِيةٍ غير يَحْيَى بن زكريَّا{[19860]} " .

ونعلم بالضرورة أن المبرَّأ عن المعصية ، ومن لم يهمَّ بها أفضل ممَّن عصى ، أو همَّ بها .

الثالث : أنَّ الله - تعالى - خلق الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - قبل البشر بأدوار متطاولة ، وأزمان ممتدة ، ثم إنه - تعالى - وصفهم بالطاعة ، والخضوع ، والخشوع طول هذه المدَّة ، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين :

الأول : قوله - صلوات الله وسلامه عليه- : " الشَّيخ في قَومِه كالنَّبيِّ في أمَّتهِ{[19861]} " فضَّل الشيخ على الشابّ ؛ وما ذاك إلاَّ لأنَّه لما كان عمره أطول ، فالظاهر أنَّ طاعته أكثر ؛ فكان أفضل .

والثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام- : " مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسنةً فلهُ أجْرهَا وأجْرُ من عَملَ بها إلى يَوْمِ القِيامَةِ " {[19862]} فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها ، لزم أن يقال : إنهم هم الذين سنُّوا هذه السنة ، وهي طاعة الخالق ، والبشر إنما جاءوا بعدهم ، واستنُّوا بسُنَّتهِم ؛ فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كلَّ ما حصل للبشر من الثواب ، فقد حصل مثله للملائكةِ ، ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة ؛ فوجب كونهم أفضل .


[19859]:سقط من: ب.
[19860]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/38).
[19861]:أخرجه ابن حبان في "المجروحين" (2/36) من طريق عبد الله بن عمر بن غانم الإفريقي عن مالك عن نافع عن ابن عمر به. قال ابن حبان: عبد الله بن عمر يروي عن مالك ما لم يحدث به قط. ومن هذا الوجه ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/183) ونقل كلام ابن حبان وتعقبه السيوطي في "اللآليء" (1/154) فقال: ابن غانم روى له أبو داود وقال الذهبي في "الكاشف": مستقيم الحديث وهو قاضي إفريقية وقد ورد من حديث أبي رافع قال ابن أبي الفراتي في "جزئه" أنبأنا جدي أبو عمرو ثنا أحمد بن يعقوب القرشي الجرجاني الأموي ثنا عبد الله بن محمد بن سليمان السعدي المروزي ثنا أحمد بن عبد الملك القناطري ثنا إسماعيل بن إبراهيم شيخ لنا عن أبيه عن رافع ابن أبي رافع عن أبيه به، أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس" وابن النجار في "تاريخه" وقال الحافظ أبو الفضل العراقي في "تخريج الإحياء" إسناده ضعيف. وذكره ابن عراق في "تنزيه الشريعة" (1/207) وقال عن عبد الله بن غانم: وقال الحافظ في "التقريب" وثقه ابن يونس وغيره، ولم يعرفه أبو حاتم وأفرط ابن حبان في تضعيفه. والحديث في "تخريج الإحياء" (1/83) للحافظ العراقي وقال: أخرجه ابن حبان في "الضعفاء" من حديث ابن عمر وأبو منصور الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أبي رافع بسند ضعيف. وذكره السخاوي في "المقاصد الحسنة" (609) وقال: ولعل البلاء فيه من غير الإفريقي فهو جليل القدر ثقة لا ريب فيه وممن جزم بكونه موضوعا ـ أي الحديث ـ شيخنا ـ أي ابن حجر ـ ومن قبله التقي ابن تيمية.
[19862]:أخرجه مسلم (2/704 ـ 705) كتاب الزكاة: باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة (69/1017) والنسائي (5/75) كتاب الزكاة: باب التحريض على الصدقة (2554).