غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ۩} (50)

43

{ ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة } قال الأخفش : أي من الدواب : وأخبر بالواحد كما تقول : ما أتاني من رجل مثله وما أتاني من الرجال مثله .

وقال ابن عباس : يريد كل ما دب على الأرض ، والوجه في تخصيص الدابة والملائكة بالذكر أنه علم من آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة له ، فبين في هذه الآية أن الحيوانات بأسرها أيضاً كذلك . ثم عطف عليها الملائكة إما لشرفها وإما لأنها ليست مما يدب ولكنها تطير بالجناحين ، وبين النوعين مغايرة لقوله :

{ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] وعلى قاعدة الحكماء : وجه المغايرة أنها أرواح مجردة ليست من شأنها الحركة والدب . قال جار الله : ومن دابة يجوز أن يكون بياناً لما في السموات وما في الأرض جميعاً ، على أن في السموات خلقاً لله يدبون فيها كما يدب الأناسيّ في الأرض ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الخلق الذي يقال له الروح ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الملائكة . وكرر ذكرهم على معنى والملائكة خصوصاً من بين الساجدين لأنهم أطوع الخلق وأعدلهم ، ويجوز أن يراد بما في السموات ملائكتهن ، وبقوله : { والملائكة } ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم انتهى كلامه . ثم شرع سبحانه في صفة الملائكة وذكر عصمتهم قال : { وهم لا يستكبرون يخافون } على أنه حال منهم أو بيان لنفي استكبارهم لأن الخوف أثره عدم الاستكبار . وقوله { من فوقهم } إما أن يتعلق ب[ يخافون } والمعنى يخافون ربهم أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم ، وإما أن يكون حالاً من الرب أي يخافونه غالباً قاهراً . وبحث الفوقية قد تقدم في الأنعام في قوله : { وهو القاهر فوق عباده } { الأنعام : 18 ] زعم بعض الطاعنين في عصمة الملائكة أنه تعالى وصفهم بالخوف وحصول الخوف نتيجة تجويز الإقدام على الذنوب ، وهب أنهم فعلوا كل ما أمروا به فمن أين علم أنهم تركوا كل ما نهوا عنه ؟ والجواب عن الأوّل أنهم إنما يخافون من العذاب لقوله تعالى : { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } [ الأنبياء : 29 ] فمن هذا الخوف يتركون الذنب . وعن ابن عباس أن هذا الخوف خوف الإجلال كقوله :

{ إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] ولا ريب أنه كلما كانت معرفة جلال الله أتم كانت الهيبة والحيرة أعظم . وعن الثاني أن النهي عن الشيء أمر بتركه ، وفي الآية دلالة على أن إبليس لم يكن من الملائكة لأنه أبى واستكبر وإنهم لا يستكبرون . وقد يستدل بها على أن الملك أفضل من البشر بل من كل المخلوقات وإلا لما خصهم بالذكر من بينها ، ولخلو بواطنهم وظواهرهم عن الأخلاق الذميمة وانغماس البشر في الدواعي الشهوية والغضبية ، ولهذا ورد في حقه { قتل الإنسان ما أكفره } [ عبس : 17 ] وقال صلى الله عليه وسلم : " ما منا إلا من قد عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم " الشيخ في قومه كالنبي في أمته " فضل الشيخ على الشاب لتقادم عهده وطول مدته ، ولا شك أن الملائكة خلقوا قبل البشر بسنين متطاولة وقرون متمادية ، وأنهم سنوا الطاعة والعبودية ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها . وتمام البحث في هذه المسألة مذكور في أول سورة البقرة . وفي قوله : { ما يؤمرون } دلالة على أن الملائكة مكلفون بالأمر والنهي والوعد والوعيد راجين خائفين .

/خ60