لفظ " عم " مركب من كلمتين ، هما حرف الجر " عن " و " ما " التى هى اسم استفهام ، فأصل هذا اللفظ : " عن ما " فأدغمت النون فى الميم لأن الميم تشاركها فى الغنة وحذف الألف ليتميز الخبر عن الاستفهام . والجار والمجرور متعلق بفعل " يتساءلون " .
والتساؤل : تفاعل من السؤال ، بمعنى أن يسأل بعض الناس بعضا عن أمر معين ، على سبيل معرفة وجه الحق فيه ، أو على سبيل التهكم .
والنبأ : الخبر مطلقا ، ويرى بعضهم أنه الخبر ذو الفائدة العظيمة .
والمعنى : عن أى شئ يتساءل هؤلاء المشركون ؟ وعن أى أمر يسأل بعضهم بعضا ؟ إنهم يتساءلون عن النبأ العظيم ، والخبر الهام الذى جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والذى نطق به القرآن الكريم ، من أن البعث حق ، ومن أن هذا القرآن الكريم من عند الله - تعالى - ومن أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يأمرهم به أو ينهاهم عنه .
وافتتح - سبحانه - الكلام بأسلوب الاستفهام ، لتشويق السامع إلى المستفهم عنه ، ولتهويل أمره ، وتعظيم شأنه .
والضمير فى قوله { يتساءلون } يعود إلى المشركون ، الذين كانوا يكثرون من التساؤل فيما بينهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، عما جاء به من عند ربه ، فقد أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن الحسن قال : لما بعث النبى صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون فيما بينهم - عن أمره وعما جاءهم به - فنزل قوله - تعالى - : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ . عَنِ النبإ العظيم . . } .
وصح عود الضمير إليهم مع أنهم لم يسبق لهم ذكر ، لأنهم معرفون من السياق ، إذ هم - دون غيرهم - الذين كانوا يتساءلون فيما بينهم - على سبيل التهكم - عما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم .
وقوله - تعالى - : { عَنِ النبإ العظيم } تهويل لشأن هذا الأمر الذى يتساءلون فيما بينهم عنه ، ووصف - سبحانه - النبأ بالعظم ، زيادة فى هذا التهويل والتفخيم من شأنه ، لكى تتوجه إليه أذهانهم ، وتلتفت إليهم أفهامهم .
فكأنه - سبحانه - يقول : عن أى شئ يسأل هؤلاء الجاحدون بعضهم بعضا ؟ أتريدون أن تعرفوا ذلك على سبيل الحقيقة ؟ ما بين منكر له إنكارا تاما ، كما حكى - سبحانه - عنهم فى قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } وما بين مترد فى شأنه ، كما حكى - سبحانه - عن بعضهم فى قوله : { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا الساعة إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } قال صاحب الكشاف قوله : { عم } أصله عما ، على أنه حرف جر ، دخل على ما الاستفهامية .
ومعنى هذا الاستفهام : تفخيم الشأن ، كأنه قال : عن أى شئ يتساءلون . ونحوه ما فى قولك : زيد ما زيد ؟ جعلته لانقطاع قرينه ، وعدم نظيره ، كأنه شئ خفى عليك جنسه . فأنت تسأل عن جنسه ، وتفحص عن جوهره ، كما تقول : ما الغول وما العنقاء . . ؟
و { يَتَسَآءَلُونَ } يسأل بعضهم بعضا . . والضمير لأهل مكة ، فقد كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث .
وقوله : { عَنِ النبإ العظيم } بيان للشأن المفخم .
فإن قلت : قد زعمت أن الضمير فى { يَتَسَآءَلُونَ } للكفار ، فما تصنع بقوله : { الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } ؟ قلت : كان فيهم من يقطع القول بإنكار البعث ، ومنهم من يشك .
وقيل : الضمير للمسلمين والكافرين جميعا ، وكانوا جميعا يسألون عنه ، أما المسلم فليزداد خشية واستعدادا ، وأما الكافر فليزداد استهزاء . .
يقول تعالى منكرًا على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارًا لوقوعها : { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } أي : عن أي شيء يتساءلون ؟ من أمر القيامة ، وهو النبأ العظيم ، يعني : الخبر الهائل المفظع الباهر .
قال قتادة ، وابن زيد : النبأ العظيم : البعث بعد الموت . وقال مجاهد : هو القرآن .
قول تعالى ذكره : عن أيّ شيء يتساءل هؤلاء المشركون بالله ورسوله من قريش يا محمد ؟ وقيل ذلك له صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن قريشا جعلت فيما ذُكر عنها تختصم وتتجادل ، في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار بنبوّته ، والتصديق بما جاء به من عند الله ، والإيمان بالبعث ، فقال الله لنبيه : فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون ؟ و «في » و «عن » في هذا الموضع بمعنى واحد . ذكر من قال ما ذكرت :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن الجراح ، عن مِسعر ، عن محمد بن جحادة ، عن الحسن ، قال : لما بُعِث النبيّ صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم ، فأنزل الله : عَمّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النّبَأ العَظِيم يعني : الخبر الْعظيم .
قال أبو جعفر : ثم أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الذي يتساءلونه ، فقال : يتساءلون عن النبأ العظيم : يعني : عن الخبر العظيم .
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالنبأ العظيم ، فقال بعضهم : أريد به القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : عَن النّبَأ الْعَظِيمِ قال : القرآن .
وقال آخرون : عُنِي به البعث . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : عَنِ النّبَأ الْعَظِيمِ وهو البعث بعد الموت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سعيد ، عن قتادة عَنِ النّبَأ الْعَظِيمِ قال : النبأ العظيم : البعث بعد الموت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : عَمّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النّبَأ الْعَظِيمِ الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ قال : يوم القيامة قال : قالوا هذا اليوم الذي تزعمون أنا نحيا فيه وآباؤنا ، قال : فهم فيه مختلفون ، لا يؤمنون به ، فقال الله : بل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ، يوم القيامة لا يؤمنون به .
وكان بعض أهل العربية يقول : معنى ذلك : عمّ يتحدّث به قريش في القرآن ، ثم أجاب فصارت عمّ كأنها في معنى : لأيّ شيء يتساءلون عن القرآن ، ثم أخبر فقال : الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ بين مصدق ومكذّب ، فذلك إخلافهم ، وقوله : الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يقول تعالى ذكره : الذي صاروا هم فيه مختلفون فريقين : فريق به مصدّق ، وفريق به مكذّب . يقول تعالى ذكره : فتساؤلهم بينهم في النبأ الذي هذه صفته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سعيد ، عن قتادة عن النبأ الّذِي همْ فِيهِ مُخْتَلِفونَ البعث بعد الموت ، فصار الناس فيه فريقين : مصدّق ومكذّب ، فأما الموت فقد أقرّوا به لمعاينتهم إياه ، واختلفوا في البعث بعد الموت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ : صار الناس فيه رجلين : مصدّق ، ومكذّب ، فأما الموت فإنهم أقروا به كلهم ، لمعاينتهم إياه ، واختلفوا في البعث بعد الموت .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ قال : مصدّق ومكذّب .
و { النبأ العظيم } قال ابن عباس وقتادة هو الشرع الذي جاء به محمد ، وقاله مجاهد وقتادة : هو القرآن خاصة ، وقال قتادة أيضاً : هو البعث من القبور ، ويحتمل الضمير في { يتساءلون } أن يريد جميع العالم فيكون الاختلاف حينئذ يراد به تصديق المؤمنين وتكذيب الكافرين ونزغات الملحدين ، ويحتمل أن يراد بالضمير الكفار من قريش ، فيكون الاختلاف شك بعض وتكذيب بعض . وقولهم سحر وكهانة وشعر وجنون وغير ذلك ، وقال أكثر النحاة قوله : { عن النبإ العظيم } ، متعلق ب { يتساءلون } الظاهر{[11560]} كأنه قال : لم يتساءلون عن هذا النبأ ، وقال الزجاج : الكلام تام في قوله : { عم يتساءلون } ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب فيقول : يتساءلون { عن النبإ العظيم } ، فاقتضى إيجاز القرآن وبلاغته أن يبادر المحتج بالجواب الذي تقتضيه الحال والمجاورة اقتضاباً للحجة وإسراعاً إلى موضع قطعهم ، وهذا نحو قوله تعالى : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد }{[11561]} [ الأنعام : 19 ] وأمثلة كثيرة ، وقد وقع التنبيه عليها في مواضعها .
ولما كان الاستفهام مستعملاً في غير طلب الفهم حَسن تعقيبه بالجواب عنه بقوله : { عن النبإ العظيم } فجوابه مستعملة بياناً لما أريد بالاستفهام من الإِجمال لقصد التفخيم فبُيِّن جانب التفخيم ونظيره قوله تعالى : { هل أنبئكم على من تنزّل الشياطين تَنَزَّلَ على كل أفّاك أثيم } [ الشعراء : 221 ، 222 ] ، فكأنه قيل : هم يتساءلون عن النبأ العظيم ومنه قول حسان بن ثابت :
لمن الدار أقفرت بمعــان *** بين أعلى اليرموك والصُّمّان
ذاك مَغنى لآل جَفْنةَ في الده *** ر وحَـــقٌّ تقلُّب الأزمان
والنَّبَأ : الخَبَر ، قيل : مطلقاً فيكون مرادفاً للَفْظِ الخبر ، وهو الذي جرى عليه إطلاق « القاموس » و« الصحاح » و« اللسان » .
وقال الراغب : « النبأ الخبر ذو الفائدة العظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة ويكون صادقاً » ا ه . وهذا فرق حسن ولا أحسب البلغاء جَروا إلاّ على نحو ما قال الراغب فلا يقال للخبر عن الأمور المعتادة : نبأ وذلك ما تدل عليه موارد استعمال لفظ النبأ في كلام البلغاء ، وأحسب أن الذين أطلقوا مرادفة النبأ للخبر راعَوا ما يقع في بعض كلام الناس من تسامح بإطلاق النبأ بمعنى مطلق الخبر لضرب من التأويل أو المجاز المرسل بالإطلاق والتقييد ، فكثر ذلك في الكلام كثرة عسر معها تحديد مواقع الكلمتين ولكنْ أبلغُ الكلام لا يليق تخريجه إلا على أدق مواقع الاستعمال . وتقدم عند قوله تعالى : { ولقد جاءك من نبإِىْ المرسلين } في سورة الأنعام ( 34 ) وقوله : { قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون } [ ص : 67 ، 68 ] .
والعظيم حقيقته : كبير الجسم ويستعار للأمر المهم لأن أهمية المعنى تتخيّل بكبر الجسم في أنها تقع عند مدركها كمرأى الجسم الكبير في مرأى العين وشاعَت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة .
ووصف { النبأ } ب { العظيم } هنا زيادة في التنويه به لأن كونه وارداً من عالِم الغيب زاده عظمَ أوصاف وأهوال ، فوصف النبأ بالعظيم باعتبار ما وُصف فيه من أحوال البعث في ما نزل من آيات القرآن قبلَ هذا . ونظيره قوله تعالى : { قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون } في سورة ص ( 67 ، 68 ) .
والتعريف في { النبأ } تعريف الجنس فيشمل كل نبأ عظيم أنبأهم الرسول صلى الله عليه وسلم به ، وأول ذلك إنباؤه بأن القرآن كلام الله ، وما تضمنه القرآن من إبطال الشرك ، ومن إثبات بعث الناس يوم القيامة ، فما يروى عن بعض السلف من تعيين نبأ خاص يُحمل على التمثيل . فعن ابن عباس : هو القرآن ، وعن مجاهد وقتادة : هو البعث يوم القيامة .
وسَوق الاستدلال بقوله : { ألم نجعل الأرض مهاداً } إلى قوله : { وجنات ألفافاً } [ النبأ : 16 ] يدل دلالة بينة على أن المراد من { النبأ العظيم } الإنباء بأن الله واحد لا شريك له .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني القرآن كقوله: {قل هو نبأ عظيم} [ص:67] لأنه كلام الله تعالى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني: عن الخبر العظيم. واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالنبأ العظيم؛
وكان بعض أهل العربية يقول: معنى ذلك: عمّ يتحدّث به قريش في القرآن، ثم أجاب فصارت عمّ كأنها في معنى: لأيّ شيء يتساءلون عن القرآن، ثم أخبر فقال:"الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ "بين مصدق ومكذّب، فذلك اختلافهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {النبأ العظيم} قال ابن عباس وقتادة هو الشرع الذي جاء به محمد، وقاله مجاهد وقتادة: هو القرآن خاصة، وقال قتادة أيضاً: هو البعث من القبور، ويحتمل الضمير في {يتساءلون} أن يريد جميع العالم؛ فيكون الاختلاف حينئذ يراد به تصديق المؤمنين وتكذيب الكافرين ونزغات الملحدين، ويحتمل أن يراد بالضمير الكفار من قريش، فيكون الاختلاف شك بعض وتكذيب بعض. وقولهم سحر وكهانة وشعر وجنون وغير ذلك، وقال أكثر النحاة قوله: {عن النبإ العظيم}، متعلق ب {يتساءلون} الظاهر، كأنه قال: لم يتساءلون عن هذا النبأ، وقال الزجاج: الكلام تام في قوله: {عم يتساءلون} ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب فيقول: يتساءلون {عن النبإ العظيم}، فاقتضى إيجاز القرآن وبلاغته أن يبادر المحتج بالجواب الذي تقتضيه الحال والمجاورة اقتضاباً للحجة وإسراعاً إلى موضع قطعهم، وهذا نحو قوله تعالى: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد} [الأنعام: 19] وأمثلة كثيرة.
قوله تعالى: {عن النبأ العظيم} ففيه مسائل.
المسألة الأولى: ذكر المفسرون في تفسير النبأ العظيم ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه هو القيامة وهذا هو الأقرب ويدل عليه وجوه أحدها: قوله: {سيعلمون} والظاهر أن المراد منه أنهم سيعلمون هذا الذي يتساءلون عنه حين لا تنفعهم تلك المعرفة، ومعلوم أن ذلك هو القيامة.
وثانيها: أنه تعالى بين كونه قادرا على جميع الممكنات بقوله: {ألم نجعل الأرض مهادا} إلى قوله: {يوم ينفخ في الصور} وذلك يقتضي أنه تعالى إنما قدم هذه المقدمة لبيان كونه تعالى قادرا على إقامة القيامة، ولما كان الذي أثبته الله تعالى بالدليل العقلي في هذه السورة هو هذه المسألة ثبت أن النبأ العظيم الذي كانوا يتساءلون عنه هو يوم القيامة
وثالثها: أن العظيم اسم لهذا اليوم بدليل قوله: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين} وقوله: {قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون} ولأن هذا اليوم أعظم الأشياء لأن ذلك منتهى فزع الخلق وخوفهم منه فكان تخصيص اسم العظيم به لائقا.
(والقول الثاني): إنه القرآن، واحتج القائلون بهذا الوجه بأمرين؛
الأول: أن النبأ العظيم هو الذي كانوا يختلفون فيه وذلك هو القرآن لأن بعضهم جعله سحرا وبعضهم شعرا، وبعضهم قال إنه أساطير الأولين، فأما البعث ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد كانوا متفقين على إنكارهما وهذا ضعيف، لأنا بينا أن الاختلاف كان حاصلا في البعث.
الثاني: أن النبأ اسم الخبر لا اسم المخبر عنه فتفسير النبأ بالقرآن أولى من تفسيره بالبعث أو النبوة، لأن ذلك في نفسه ليس بنبأ بل منبأ عنه، ويقوي ذلك أن القرآن سمي ذكرا وتذكرة وذكرى وهداية وحديثا، فكان اسم النبأ به أليق منه بالبعث والنبوة.
(والجواب): عنه أنه إذا كان اسم النبأ أليق بهذه الألفاظ فاسم العظيم أليق بالقيامة وبالنبوة لأنه لا عظمة في ألفاظ إنما العظمة في المعاني، وللأولين أن يقولوا إنها عظيمة أيضا في الفصاحة والاحتواء على العلوم الكثيرة، ويمكن أن يجاب أن العظيم حقيقة في الأجسام مجاز في غيرها وإذا ثبت التعارض بقي ما ذكرنا من الدلائل سليما.
(القول الثالث): أن النبأ العظيم هو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا وذلك لأنه لما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام جعلوا يتساءلون بينهم ماذا الذي حدث؟ فأنزل الله تعالى: {عما يتساءلون} وذلك لأنهم عجبوا من إرسال الله محمدا عليه الصلاة والسلام إليهم كما قال تعالى: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} وعجبوا أيضا أن جاءهم بالتوحيد كما قال: {أجعل الآهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} فحكى الله تعالى عنهم مساءلة بعضهم بعضا على سبيل التعجب بقوله: {عم يتساءلون}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما فخم ما يتساءلون عنه معجباً منهم فيه، بينه بقوله إعلاماً بأن ذلك الإيهام ما كان إلا للإعظام: {عن النبأ} أي من رسالة الرسول وإتيانه بالكتاب المبين، وإخباره عن يوم الفصل، والشاهد بكل شيء من ذلك الله بإعجاز هذا الحديث، وبوعده الجازم الحثيث. ولما كان في مقام التفخيم له، وصفه تأكيداً بقوله: {العظيم} مع أن النبأ لا يقال إلا لخبر عظيم شأنه-، ففي ذلك كله- تنبيه على أنه من حقه أن يذعن له كل سامع ويهتم بأمره، لا أن يشك فيه ويجعله موضعاً للنزاع؛ ...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
كأنَّه قيلَ عنْ أيِّ شيءٍ يتساءلُون، هلْ أُخبرِكُم بِه؟ ثمَّ قيلَ بطريقِ الجوابِ عن النبأِ العظيمِ على منهاجِ قولِه تعالى: {لمنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [سورة غافر، الآية 16] فعنْ متعلقةٌ بما يدلُّ عليهِ المذكورُ من مضمرٍ حقُّه أنْ يقدرَ بعدَها مسارعةً إلى البيانِ ومراعاةً لترتيبِ السؤالِ هذا هو الحقيقُ بالجزالةِ التنزيليةِ،...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... النَّبَأ: الخَبَر، قيل: مطلقاً فيكون مرادفاً للَفْظِ الخبر، وهو الذي جرى عليه إطلاق « القاموس» و« الصحاح» و« اللسان». وقال الراغب: « النبأ: الخبر ذو الفائدة العظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة ويكون صادقاً» ا ه...
والعظيم، حقيقته: كبير الجسم، ويستعار للأمر المهم لأن أهمية المعنى تتخيّل بكبر الجسم في أنها تقع عند مدركها كمرأى الجسم الكبير في مرأى العين وشاعَت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة.
ووصف {النبأ} ب {العظيم} هنا زيادة في التنويه به، لأن كونه وارداً من عالِم الغيب زاده عظمَ أوصاف وأهوال، فوصف النبأ بالعظيم باعتبار ما وُصف فيه من أحوال البعث في ما نزل من آيات القرآن قبلَ هذا. ونظيره قوله تعالى: {قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون} في سورة ص (67، 68).
والتعريف في {النبأ} تعريف الجنس فيشمل كل نبأ عظيم أنبأهم الرسول صلى الله عليه وسلم به، وأول ذلك إنباؤه بأن القرآن كلام الله، وما تضمنه القرآن من إبطال الشرك، ومن إثبات بعث الناس يوم القيامة...
وسَوق الاستدلال بقوله: {ألم نجعل الأرض مهاداً} إلى قوله: {وجنات ألفافاً} [النبأ: 16] يدل دلالة بينة على أن المراد من {النبأ العظيم} الإنباء بأن الله واحد لا شريك له.
والحق سبحانه وتعالى حينما يقول: {عن النبإ العظيم} يعطينا لفتة، هذه اللفتة هي استنكار للسؤال عنه {عمّ يتساءلون} كأنك تستنكر: أهذا أمر يمكن أن يكون مسئولاً عنه؟! هذا أمر من الوضوح، ومن البداهة بحيث يجب أن لا يكون موضع سؤال؛ لأنه نبأ عظيم، وأمر واضح جلي، تقوم عليه الأدلة، ولكن خطأ المنهج في الكافرين إنما جاء من ناحية أنهم أرادوا أن يناقشوا الجزئيات العقدية، ومناقشة الجزئيات العقدية لا يصح أن يأتي أبداً من عاقل، إلا أن يناقش القمة العقدية أولاً، فنحن لم نؤمن باليوم الآخر أولاً، وبعد ذلك آمنا بالله سبحانه وتعالى، وإنما آمنا بالله عز وجل أولاً، وحين آمنا به علمنا أنه سبحانه وتعالى يخبرنا أن هناك يوماً آخر، فعند ذلك صدقنا فوراً ما قال سبحانه وتعالى.