ثم بين - سبحانه - حالهم عندما تقبض الملائكة أرواحهم فقال : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } .
والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والاستفهام للاستعظام والتهويل ، و " كيف " منصوب بفعل محذوف هو العامل فى الظرف " إذا " .
والمراد بوجوههم : كل ما أقبل منهم ، وبأدبارهم : كل ما أدبر من أجسامهم .
أى : هؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم ، وقالوا ما قالوا من كفر وضلال ، كيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة وقبضت أرواحهم ؟ لا شك أن حالهم سيكون أسوأ حال وأقبحه ، لأن ملائكة الموت يضربون عند قبض أرواحهم وجوه هؤلاء المنافقين وأدبارهم ، ضربا أليما موجعا .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق }
ثم التهديد السافر بجند الله ، والمتآمرون في نهاية الحياة :
( فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ) !
وهو مشهد مفزع مهين . وهم يحتضرون . ولا حول لهم ولا قوة . وهم في نهاية حياتهم على هذه الأرض . وفي مستهل حياتهم الأخرى . هذه الحياة التي تفتتح بضرب الوجوه والأدبار . في لحظة الوفاة ، لحظة الضيق والكرب والمخافة . الأدبار التي ارتدوا عليها من بعد ما تبين لهم الهدى ! فيا لها من مأساة !
ثم قال : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } أي : كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعصت الأرواح في أجسادهم ، واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب ، كما قال : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } الآية [ الأنفال : 50 ] ، وقال : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ } أي : بالضرب { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنعام : 93 ] ؛ ولهذا قال ها هنا : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنّهُمُ اتّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : والله يعلم إسرار هؤلاء المنافقين ، فكيف لا يعلم حالهم إذا توفتهم الملائكة ، وهم يضربون وجوههم وأدبارهم ، يقول : فحالهم أيضا لا يخفى عليه في ذلك الوقت ويعني بالأدبار : الأعجاز ، وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى قبل .
وقوله تعالى : { فكيف إذا توفتهم } الآية ، يحتمل أن يتوعدوا به على معنيين : أحدهما هذا هلعهم وجزعهم لفرض القتال وقراع الأعداء ، { فكيف } فزعهم وجزعهم { إذا توفتهم الملائكة } ؟ والثاني أن يريد : هذه معاصيهم وعنادهم وكفرهم ، { فكيف } تكون حالهم مع الله { إذا توفتهم الملائكة } ؟ وقال الطبري : المعنى { والله يعلم أسرارهم فكيف } علمه بها { إذا توفتهم الملائكة } . و { الملائكة } هنا : ملك الموت والمصرفون معه . والضمير في : { يضربون } ل { الملائكة } ، وفي نحو هذا أحاديث تقتضي صفة الحال ومن قال إن الضمير في : { يضربون } للكفار الذين يتوفون ، فذلك ضعيف .
الفاء يجوز أن تكون للتفريع على جملة { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } [ محمد : 25 ] الآية وما بينهما متصل بقوله : { الشيطانُ سوّل لهم } [ محمد : 25 ] بناء على المحمل الأول للارتداد فيكون التفريع لبيان ما سيلحقهم من العذاب عند الموت وهو استهلال لما يتواصل من عذابهم عن مبدإ الموت إلى استقرارهم في العذاب الخالد . ويجوز على المحمل الثاني وهو أن المراد الارتداد عن القتال وتكون الفاء فصيحة فيفيد : إذا كانوا فروا من القتال هلعاً وخوفاً فكيف إذا توفتهم الملائكة ، أي كيف هلعهم ووجلهم الذي ارتدوا بهما عن القتال . وهذا يقتضي شيئين : أولهما أنهم ميّتون لا محالة ، وثانيهما أن موتتهم يصحبها تعذيب .
فالأول مأخوذ بدلالة الالتزام وهو في معنى قوله تعالى : { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعُونا ما قتلوا قل فادْرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } [ آل عمران : 168 ] وقولِه : { وقالوا لا تنفروا في الحرّ قل نار جهنم أشدّ حرّاً لو كانوا يفقهون } [ التوبة : 81 ] .
والثاني هو صريح الكلام وهو وعيد لتعذيب في الدنيا عند الموت .
والمقصود : وعيدهم بأنهم سيعجل لهم العذاب من أول منازل الآخرة وهو حالة الموت . ولما جعل هذا العذاب محققاً وقوعُه رتب عليه الاستفهام عن حالهم استفهاماً مستعملاً في معنى تعجيب المخاطب من حالهم عند الوفاة ، وهذا التعجيب مؤذن بأنها حالة فظيعة غير معتادة إذ لا يتعجب إلاّ من أمْر غير معهود ، والسياق يدل على الفظاعة .
و { إذا } متعلق بمحذوف دل عليه اسم الاستفهام ، تقديره : كيف حالهم أو عملهم حين تتوفاهم الملائكة .
وكثر حذف متعلّق { كيف } في أمثال هذا مقدَّراً مؤخراً عن { كيف } وعن { إذا } كقوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } [ النساء : 41 ] . والتقدير : كيف يصنعون ويحتالون .
وجعل سيبويه { كيف } في مثله ظرفاً وتبعه ابن الحاجب في الكافية . ولعله أراد الفرار من الحذف .
وجملة { يضربون وجوههم وأدبارهم } حال من { الملائكة } . والمقصود من هذه الحال : وعيدهم بهذه المِيتة الفظيعة التي قدرها الله لهم وجعل الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم ، أي يضربون وجوههم التي وَقَوْهَا من ضرب السيف حين فرُّوا من الجهاد فإن الوجوه مما يقصد بالضرب بالسيوف عند القتال قال الحريش القريعي ، أو العباس بن مدراس :
نعرّض للسيوف إذا التقينا *** وجوهاً لا تُعرض للنظام
ويضربون أدبارهم التي كانت محل الضرب لو قاتلوا ، وهذا تعريض بأنهم لو قاتلوا لفرُّوا فلا يقع الضرب إلا في أدبارهم .