{ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } وهي السود التي تضرب إلى لون فيه صفرة ، وهذا يدل على أن النار مظلمة ، لهبها وجمرها وشررها ، وأنها سوداء ، كريهة المرأى{[1327]} ، شديدة الحرارة ، نسأل الله العافية منها [ من الأعمال المقربة منها ] .
وقوله : { جمالت } جمع جمَلَ - كحجارة وحجر .
وقال الآلوسى : " جمالة " بكسر الجيم - كما قرأ به حمزة والكسائى وحفص وهو جمع جمل .
والتاء لتأنيث الجمع . يقال : جمل وجمال وجِمالة . . والتنوين للتكثير .
وقرأ الجمهور { جِمالاتٌ } - بكسرالجيم مع الألف والتاء - جمع جِمَال . . فيكون جمع الجمع . .
والمعنى : إنها - أى : جهنم - ترمى المكذبين بالحق ، الذين هم وقودها ، ترميهم بشرر متطاير منها لشدة اشتعالها ، كل واحدة من هذا الشرر كأنها البناء المرتفع فى عظمها وارتفاعها .
وقوله - تعالى - : { كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ } وصف آخر للشرر ، أى : كأن هذا الشرر فى هيئته ولونه وسرعة حركته . . جمال لونها أصفر .
واختبر اللون الأصفر للجمال ، لأن شرر النار عندما يشتد اشتعالها يكون مائلا إلى الصفرة .
وقيل المراد بالصفر هنا : السواد ، لأن سواد الإِبل يضرب إلى الصفرة .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد شبه الشرر الذى ينفصل عن النار فى عظمته وضخامته بالقصر ، وهو البناء العالى المرتفع ، وشبهه - أيضا - حين يأخذ فى الارتفاع والتفرق . . بالجمال الصفر ، فى هيئتها ولونها وسرعة حركتها ، وتزاحمها .
والمقصود بهذا التشبيه : زيادة الترويع والتهويل ، فإن هؤالءا لكافرين لما كذبوا بالحساب والجزاء ، وصف الله - تعالى - لهم نار الآخرة بتلك الصفات المرعبة ، لعلهم يقلعون عن شركهم ، لا سيما وأنهم يرون النار فى دنياهم ، ويرون شررها حين يتطاير . . وإن كان الفرق شاسعا بين نار الدنيا ونار الآخرة .
انطلقوا . وإنكم لتعرفون إلى أين ! وتعرفونها هذه التي تنطلقون إليها . فلا حاجة إلى ذكر اسمها . . ( إنهاترمي بشرر كالقصر . كأنه جمالة صفر ) . . فالشرر يتتابع في حجم البيت من الحجر . [ وقد كان العرب يطلقون كلمة القصر على كل بيت من حجر وليس من الضروري أن يكون في ضخامة ما نعهد الآن من قصور ] فإذا تتابع بدا كأنه جمال صفر ترتع هنا وهناك ! هذا هو الشرر فكيف بالنار التي ينطلق منها الشرر ? !
{ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } أي : كالإبل السود . قاله مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك . واختاره ابن جرير .
وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير : { جِمَالَةٌ صُفْرٌ } يعني : حبال السفن . وعنه -أعني ابن عباس - : { جِمَالَةٌ صُفْرٌ } قطع نحاس{[29632]} .
وقال البخاري : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، أخبرنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن عابس قال : سمعت ابن عباس : { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ } قال : كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك ، فنرفعه للشتاء ، فنسميه القَصَرَ ، { كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } حبال السفن ، تجمع حتى تكون كأوساط الرجال{[29633]} ،
وقوله : جِمالاتٌ صُفْرٌ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : كأن الشرر الذي ترمي به جهنم كالقصر جِمالات سود : أي أينق سود وقالوا : الصفر في هذا الموضع ، بمعنى السود . قالوا : وإنما قيل لها صفر وهِي سود ، لأن ألوان الإبل سود تضرب إلى الصفرة ، ولذلك قيل لها صُفْر ، كما سميت الظباء أدما ، لما يعلوها في بياضها من الظلمة . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن عمرو البصري ، قال : حدثنا بدل بن المحبّر ، قال : حدثنا عباد بن راشد ، عن داود بن أبي هند ، عن الحسن كأنّهُ جِمالَةٌ صُفْرٌ قال : الأينق السود .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ كالنّوق السود الذي رأيتم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : نوق سود .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، جميعا عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : هي الإبل .
قال : ثنا مهران ، عن سعيد ، عن قتادة كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : كالنوق السود الذي رأيتم .
وقال آخرون : بل عُني بذلك : قُلُوس السفن ، شبّه بها الشرر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس كأنّهُ جِمالات صُفْرٌ فالجِمالات الصفر : قلوس السفن التي تجمع فتوثق بها السفن .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سعيد ، عن عبد الرحمن بن عابس ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : قُلُوس سفن البحر يجمل بعضها على بعض ، حتى تكون كأوساط الرجال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عبد الرحمن بن عابس ، قال : سمعت ابن عباس سُئل عن جِمالاتٌ صُفْرٌ فقال : حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت عبد الرحمن بن عابس ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد الله ، قال : حدثنا هلال بن خباب ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : جِمالاتٌ صَفْرٌ قال : قُلوس الجِسر .
حدثني محمد بن حويرة بن محمد المنقري ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد الله القطان ، قال : حدثنا هلال بن خَبّاب ، عن سعيد بن جُبير ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير كأنّهُ جِمالات صُفْرٌ قال : الحبال .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سليمان بن عبد الله ، عن ابن عباس كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : قلوس سفن البحر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : حبال الجسور .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كأنه قطع النّحاس . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ يقول : قطع النحاس .
وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال : عُنِي بالجمالات الصفر : الإبل السود ، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب ، وأن الجِمالات جمع جِمال ، نظير رِجال ورِجالات ، وبُيوت وبُيوتات .
وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : «جِمالاتٍ » بكسر الجيم والتاء على أنها جمع جِمال وقد يجوز أن يكون أريد بها جمع جِمالة ، والجمالة جمع جَمَل كما الحجارة جمع حَجَر ، والذّكارة جمع ذَكَر . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : كأنه جِمالَةٌ بكسر الجيم على أنها جمع جمل جُمع على جمالة ، كما ذكرت مِن جمع حجَر حِجارة . ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «جُمالاتٌ » بالتاء وضمّ الجيم كأنه جمع جُمالة من الشيء المجمل .
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن الحسين المعلم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس .
والصواب من القول في ذلك ، أن لقارىء ذلك اختيارَ أيّ القراءتين شاء من كسر الجيم وقراءتها بالتاء وكسر الجيم ، وقراءتها بالهاء التي تصير في الوصل تاء ، لأنهما القراءتان المعروفتان في قرّاء الأمصار فأما ضم الجيم فلا أستجيزه لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه .
كأنه جمالات جمع جمال أو جمالة جمع جمل صفر فإن الشرار بما فيه من النارية يكون أصفر وقيل سود لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة والأول تشبيه في العظم وهذا في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط وسرعة الحركة وقرأ حمزة والكسائي وحفص جمالة وعن يعقوب جمالات بالضم جمع جمالة وقد قرىء بها وهي الحبل الغليظ من حبال السفينة شبهه بها في امتداده والتفافه .
واختلف الناس في «الجمالات » ، فقال جمهور من المفسرين : هو جمع جمال على تصحيح البناء كرجال ورجالات ، وقال آخرون أراد ب «الصفر » السود ، وأنشد على ذلك بيت الأعشى : [ الخفيف ]
تلك خيلي منه ، وتلك ركابي*** هن صفر أولادها كالزبيب{[11554]}
وقال جمهور الناس : بل «الصفر » الفاقعة لأنها أشبه بلون الشرر بالجمالات ، وقرأ الحسن «صُفُر » بضم الصاد والفاء ، وقال ابن عباس وابن جبير : «الجمالات » قلوس السفن{[11555]} وهي حبالها العظام إذا جمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام ، وقال ابن عباس : «الجمالات » قطع النحاس الكبار وكان اشتقاق هذه من اسم الجملة ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «جِمالة » بكسر الجيم لحقت التاء جمالاً لتأنيث الجمع فهي كحجر وحجارة ، وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن والأعمش : «جُمالة » بضم الجمي ، وقرأ باقي السبعة والجمهور وعمر بن الخطاب «جمالات » على ما تفسر بكسر الجيم ، وقرأ ابن عباس أيضاً وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء بخلاف عنهم «جُمالات » بضم الجيم ، واختلف عن نافع وأبي جعفر وشيبة وكان ضم الجيم فيهما من الجملة لا من الجمل وكسرها من الجمل لا من الجملة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
كأنها جمال سوداء إذا رأيتها من مكان بعيد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
جِمالاتٌ صُفْرٌ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: كأن الشرر الذي ترمي به جهنم كالقصر جِمالات سود: أي أينق سود. وقالوا: الصفر في هذا الموضع، بمعنى السود. قالوا: وإنما قيل لها صفر وهِي سود لأن ألوان الإبل سود تضرب إلى الصفرة، ولذلك قيل لها صُفْر.
وقال آخرون: بل عُني بذلك: قُلُوس السفن، شبّه بها الشرر، قُلُوس سفن البحر يحمل بعضها على بعض، حتى تكون كأوساط الرجال.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كأنه قطع النّحاس.
وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: عُنِي بالجمالات الصفر: الإبل السود، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وأن الجِمالات جمع جِمال.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
في تسميتها بالجمالات الصفر وجهان:
... زعم بعض العلماء أن المراد هو الصفرة لا السواد، لأن الشرر إنما يسمى شررا ما دام يكون نارا، ومتى كان نارا كان أصفر، وإنما يصير أسود إذا انطفأ، وهناك لا يسمى شررا، وهذا القول عندي هو الصواب.