{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ } أي : من بني إسرائيل { أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي : علماء بالشرع ، وطرق الهداية ، مهتدين في أنفسهم ، يهدون غيرهم بذلك الهدى ، فالكتاب الذي أنزل إليهم ، هدى ، والمؤمنون به منهم ، على قسمين : أئمة يهدون بأمر اللّه ، وأتباع مهتدون بهم .
والقسم الأول أرفع الدرجات بعد درجة النبوة والرسالة ، وهي درجة الصديقين ، وإنما نالوا هذه الدرجة العالية بالصبر على التعلم والتعليم ، والدعوة إلى اللّه ، والأذى في سبيله ، وكفوا أنفسهم عن جماحها في المعاصي ، واسترسالها في الشهوات .
{ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } أي : وصلوا في الإيمان بآيات اللّه ، إلى درجة اليقين ، وهو العلم التام ، الموجب للعمل ، وإنما وصلوا إلى درجة اليقين ، لأنهم تعلموا تعلمًا صحيحًا ، وأخذوا المسائل عن أدلتها المفيدة لليقين .
فما زالوا يتعلمون المسائل ، ويستدلون عليها بكثرة الدلائل ، حتى وصلوا لذاك ، فبالصبر واليقين ، تُنَالُ الإمامة في الدين .
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ } والأئمة : جمع إمام ، وهو من يقتدى به فى الأمور المختلفة . والمراد بهم هنا : من يقتدى بهم فى وجوه الخير والبر .
أى : وجعلنا من بنى إسرائيل أئمة فى الخير والصلاح ، يهدون غيرهم إلى الطريق الحق ، بأمرنا وإرادتنا وفضلنا ، وقد وفقناهم لذلك حين صبروا على أداء ما كل فناهم به من عبادات ، وعلى مشاق الدعوة إلى الحق ، وعلى كل أم يستلزم الصبر وحبس النفس .
وفى ذلك إرشاد وتعليم للمسلمين ، بأن يسلكوا طريق الأئمة الصالحين ، ممن كانوا قبلهم ، وأن يبلغوا دعوة الله إلى غيرهم بصبر ويقين .
وقوله - سبحانه - { وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } زيادة فى مدحهم ، وفى تقرير أنهم أهل للإِمامة فى الخير . أى : وكانوا بسبب إداركهم السليم لمعانى آياتنا : يوقنون إيقاناً جازماً بأنهم على الحق الذى لا يحوم حلوه باطل وبأنهم متبعون لشريعة الله - تعالى - التى لا يضل من اتبعها وسار على نهجها .
ثم أشار - سبحانه - إلى أن بنى إسرائيل جميعاً لم يكونوا كذلك ، وإنما كان منهم الأخيار والأشرار ، وأنه - تعالى - سيحكم بين الجميع يوم القيامة بحكمه العادل ، فقال : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
فإن اللقاء على الحق الثابت ، والعقيدة الواحدة ، هو الذي يستحق الذكر ، والذي ينسلك في سياق التثبيت على ما يلقاه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من التكذيب والإعراض ، ويلقاه المسلمون من الشدة واللأواء . وكذلك هو الذي يتسق مع ما جاء بعده في الآية : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) . . للإيحاء للقلة المسلمة يومذاك في مكة أن تصبر كما صبر المختارون من بني إسرائيل ، وتوقن كما أيقنوا ، ليكون منهم أئمة للمسلمين كما كان أولئك أئمة لبني إسرائيل . ولتقرير طريق الإمامة والقيادة ، وهو الصبر واليقين .
وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } ، أي : لما كانوا صابرين على أوامر الله وترك نواهيه وزواجره وتصديق رسله واتباعهم فيما جاؤوهم به ، كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله ، ويدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر . ثم لما بدلوا وحَرَّفوا وأوَّلوا ، سلبوا ذلك المقام ، وصارت قلوبهم قاسية ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، فلا عمل صالحًا ، ولا اعتقاد صحيحًا ؛{[23155]} ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } {[23156]} قال قتادة وسفيان : لما صبروا عن الدنيا : وكذلك قال الحسن بن صالح .
قال سفيان : هكذا كان هؤلاء ، ولا ينبغي للرجل أن يكون إماما يُقتَدى به حتى يتحامى عن الدنيا .
قال وكيع : قال سفيان : لا بد للدين من العلم ، كما لا بد للجسد من الخبز .
وقال ابن بنت الشافعي : قرأ أبي على عمي - أو : عمي على أبي - سئل سفيان عن قول علي ، رضي الله عنه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ألم تسمع قوله : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } ، قال : لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوسًا . قال بعض العلماء : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين .
ولهذا قال تعالى ] :{[23157]} { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة [ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ . وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ ] فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } [ الجاثية : 16 ، 17 ] {[23158]} ، كما قال هنا : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
وقوله : وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمّةً يقول تعالى ذكره : وجعلنا من بني إسرائيل أئمة ، وهي جمع إمام ، والإمام الذي يؤتمّ به في خير أو شرّ ، وأريد بذلك في هذا الموضع أنه جعل منهم قادة في الخير ، يؤتم بهم ، ويُهْتَدى بهديهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمّةً يَهْدُونَ بأمْرِنا قال : رؤساء في الخير . وقوله يَهْدُونَ بأمْرِنا يقول تعالى ذكره : يهدون أتباعهم وأهل القبول منهم بإذننا لهم بذلك ، وتقويتنا إياهم عليه .
وقوله : لَمّا صَبرُوا اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ، وبعض أهل الكوفة : لَمّا صَبرُوا بفتح اللام وتشديد الميم ، بمعنى : إذ صبروا ، وحين صبروا . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «لِمَا » بكسر اللام وتخفيف الميم ، بمعنى : لصبرهم عن الدنيا وشهواتها ، واجتهادهم في طاعتنا ، والعمل بأمرنا . وذُكر أن ذلك في قراءة ابن مسعودِ : «بمَا صَبَرُوا » . وما إذا كسرت اللام من «لِمَا » في موضع خفض ، وإذا فتحت اللام وشدّدت الميم ، فلا موضع لها ، لأنها حينئذٍ أداة .
والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكل واحدة منهما عامة من القرّاء فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وتأويل الكلام إذا قُرىء ذلك بفتح اللام وتشديد الميم : وجعلنا منهم أئمة يهدون أتباعهم بإذننا إياهم ، وتقويتنا إياهم على الهداية ، إذ صبروا على طاعتنا ، وعزفوا أنفسهم عن لذّات الدنيا وشهواتها . وإذا قرىء بكسر اللام على ما قد وصفنا . وقد :
حدثنا ابن وكيع ، قال : قال أبي ، سمعنا في وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمّةً يَهْدُونَ بأمْرِنا لَمّا صبَرُوا قال : عن الدنيا .
وقوله : وكانُوا بآياتِنا يُوقِنُونَ يقول : وكانوا أهل يقين بما دلهم عليه حججنا ، وأهل تصديق بما تبين لهم من الحقّ وإيمان برسلنا ، وآيات كتابنا وتنزيلنا .