{ 51 - 56 } { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ }
هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات ، التي هي الرزق الطيب الحلال ، وشكر الله ، بالعمل الصالح ، الذي به يصلح القلب والبدن ، والدنيا والآخرة . ويخبرهم أنه بما يعملون عليم ، فكل عمل عملوه ، وكل سعي اكتسبوه ، فإن الله يعلمه ، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء وأفضله ، فدل هذا على أن الرسل كلهم ، متفقون على إباحة الطيبات من المآكل ، وتحريم الخبائث منها ، وأنهم متفقون على كل عمل صالح وإن تنوعت بعض أجناس المأمورات ، واختلفت بها الشرائع ، فإنها كلها عمل صالح ، ولكن تتفاوت بتفاوت الأزمنة .
ولهذا ، الأعمال الصالحة ، التي هي صلاح في جميع الأزمنة ، قد اتفقت عليها الأنبياء والشرائع ، كالأمر بتوحيد الله ، وإخلاص الدين له ، ومحبته ، وخوفه ، ورجائه ، والبر ، والصدق ، والوفاء بالعهد ، وصلة الأرحام ، وبر الوالدين ، والإحسان إلى الضعفاء والمساكين واليتامى ، والحنو والإحسان إلى الخلق ، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة ، ولهذا كان أهل العلم ، والكتب السابقة ، والعقل ، حين بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، يستدلون على نبوته بأجناس ما يأمر به ، وينهى عنه ، كما جرى لهرقل وغيره ، فإنه إذا أمر بما أمر به الأنبياء ، الذين من قبله ، ونهى عما نهوا عنه ، دل على أنه من جنسهم ، بخلاف الكذاب ، فلا بد أن يأمر بالشر ، وينهى عن الخير .
ثم ختم - سبحانه - الحديث عن هؤلاء الأنبياء ، بتوجيه خطاب إلى الرسل جميعاً ، أمرهم فيه بالأكل من الطيبات ، وبالتزود من العمل الصالح ، فقال - تعالى - : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
ووجه - سبحانه - الخطاب إلى الرسل جميعاً ، مع أن الموجود منهم عند نزول الآية واحد فقط ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم للدلالة على أن كل رسول أمر فى زمنه بالأكل من الطيبات التى أحلها - تعالى - وبالعمل الصالح .
وفى اية غشارة إلى أن المداومة على الأكل من الطيبات التى أحلها الله ، والتى لا شبهة فيها ، له أثره فى مواظبة الإنسان على العمل الصالح .
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : يأمر الله - تعالى - عباده المرسلين بالأكل من الحلال ، والقيام بالصالح من الأعمال ، فدل هذاعلى أن الحلال عون على العمل الصاحل ، فقام الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بهذا أتم قيام ، وجمعوا بين كل خير . قولاً وعملاً . ودلالة ونصحاً .
ثم ساق - رحمه الله - عدداً من الأحاديث فى هذا المعنى منها : أن أم عبد الله - بنت شداد بن أوس - " بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم ، وذلك مع طول النهار وشدة الحر . فرد إليها رسولها : أنّى كانت لك الشاة ؟ - أى : على أية حال تملكينها - فقالت : اشتريتها من مالى ، فشرب منه ، فلما كان من الغد أتته أم عبد الله فقالت له : يا رسول الله . بعثتث إليك بلبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحر ، فرددت إلىّ الرسول فيه ؟ فقال لها : " بذلك أمرت الرسل . أن لا تأكل إلا طيبًا ولا تعمل إلا صالحاً " " .
ومنها : ما ثبت فى صحيح مسلم ، عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً } وقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، ومطعمه من حرام . ومشربه من حرام ، وملبسه من حرام ، وغذى بالحرام . يمد يديه إلى السماء : يارب يا رب فأنى يستحاب لذلك " .
وقوله - سبحانه - : { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } تحذير من مخالفة ما أمر به - تعالى .
أى : إنى بما تعملون - أيها الرسل وأيها الناس - عليم فأجازيكم على هذا العمل بما تستحقون .
وعندما يصل إلى هذه الحلقة من سلسلة الرسالات ، يتوجه بالخطاب إلى أمة الرسل ؛ وكأنما هم متجمعون في صعيد واحد ، في وقت واحد ، فهذه الفوارق الزمانية والمكانية لا اعتبار لها أمام وحدة الحقيقة التي تربط بينهم جميعا :
( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا . إني بما تعملون عليم . وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) . .
إنه نداء للرسل ليمارسوا طبيعتهم البشرية التي ينكرها عليهم الغافلون : ( كلوا من الطيبات ) . . فالأكل من مقتضيات البشرية عامة ، أما الأكل من الطيبات خاصة فهو الذي يرفع هذه البشرية ويزكيها ويصلها بالملأ الأعلى .
ونداء لهم ليصلحوا في هذه الأرض : ( واعملوا صالحا ) . . فالعمل هو من مقتضيات البشرية كذلك . أما العمل الصالح فهو الذي يميز الصالحين المختارين ؛ فيجعل لعملهم ضابطا وهدفا ، وغاية موصولة بالملأ الأعلى .
وليس المطلوب من الرسول أن يتجرد من بشريته . إنما المطلوب أن يرتقي بهذه البشرية فيه إلى أفقها الكريم الوضيء . الذي أراده الله لها ، وجعل الأنبياء روادا لهذا الأفق ومثلا أعلى . والله هو الذي يقدر عملهم بعد ذلك بميزانه الدقيق : ( إني بما تعملون عليم ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الرّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : وقلنا لعيسى : يا أيها الرسل كلوا من الحلال الذي طيّبه الله لكم دون الحرام ، وَاعْمَلُوا صَالِحا تقول في الكلام للرجل الواحد : أيها القوم كفوا عنّا أذاكم ، وكما قال : الّذِينَ قَالَ لهم النّاسُ ، وهو رجل واحد .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثني عبيد بن إسحاق الضبيّ العطار ، عن حفص بن عمر الفزاريّ ، عن أبي إسحاق السبيعيّ ، عن عمرو بن شرحبيل : يا أيّها الرّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيّباتِ وَاعْمَلُوا صَالحا قال : كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه .
وقوله : إنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يقول : إني بأعمالكم ذو علم ، لا يخفى عليّ منها شيء ، وأنا مجازيكم بجميعها ، وموفّيكم أجوركم وثوابكم عليها ، فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا .
{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } نداء وخطاب لجميع الأنبياء لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعه لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أ كلا منهم خوطب به في زمانه ، فيدخل تحته عيسى دخولا أوليا ويكون ابتداء كلام تنبيها على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة ، وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم واحتجاجا على الرهبانية في رفض الطيبات ، أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا . وقيل النداء له ولفظ الجمع للتعظيم والطيبات ما يستلذ به من المباحات . وقيل الحلال الصافي القوام فالحلال ما لا يعصى الله فيه والصافي ما لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل . { واعملوا صالحا } فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم . { إني بما تعملون عليم } فأجازيكم عليه .
وقوله { يا أيها الرسل } ، يحتمل أن يكون معناه وقلنا يا أيها الرسل فتكون هذه بعض القصص التي ذكر وكيفما حول المعنى{[8496]} فلم يخاطبوا قط مجتمعين ، وإنما خوطب كل واحد في عصره ، وقالت فرقة : الخطاب بقوله { يا أيها الرسل } لمحمد عليه السلام ، ثم اختلفت فقال بعضها : أقامه مقام الرسل كما قال : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم{[8497]} ، وقيل غير هذا مما لا يثبت مع النظر ، والوجه في هذا أن يكون الخطاب لمحمد وخرج بهذه الصيغة ليفهم وجيزاً أن هذه المقالة قد خوطب بها كل نبي أو هي طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها وهذا كما تقول لتاجر يا تجار ينبغي أن تجتنبوا الربا فأنت تخاطبه بالمعنى ، وقد اقترن بذلك أَن هذه المقالة تصلح لجميع صنفه ، وقال الطبري : الخطاب بقوله { يا أيها الرسل } لعيسى ، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه ، والمشهور عنه أَنه كان يأكل من بقل البرية ، ووجه خطابه لعيسى ما ذكرناه من تقدير لمحمد صلى الله عليه وسلم ، و { الطيبات } هنا الحلال ملذة وغير ذلك{[8498]} ، وفي قوله { إني بما تعلمون عليم } تنبيه ما على التحفظ وضرب من الوعيد بالمباحثة صلى الله على جميع رسله وأنبيائه وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم .
عن مالك أنه قال: الطيب: الحلال. وروى مالك عن عثمان أنه قال في خطبته: وعليكم من المطاعم بما طاب منها..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقلنا لعيسى: يا أيها الرسل كلوا من الحلال الذي طيّبه الله لكم دون الحرام، "وَاعْمَلُوا صَالِحا "تقول في الكلام للرجل الواحد: أيها القوم كفوا عنّا أذاكم، وكما قال: "الّذِينَ قَالَ لهم النّاسُ"، وهو رجل واحد...
وقوله: "إنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" يقول: إني بأعمالكم ذو علم، لا يخفى عليّ منها شيء، وأنا مجازيكم بجميعها، وموفّيكم أجوركم وثوابكم عليها، فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال عامة أهل التأويل: إنما خاطب بهذا محمدا خاصة على ما يخاطب هو. والمراد منه جميع أمته في ذلك. ولكن جائز أن يقال: خاطب به جميع الرسل لأنهم جميعا مخاطبون بهذا كله من أكل الطيبات والعمل الصالح؛ هذا الخطاب فيه وفي غيرهم؛ إذ عمهم جميعا بهذا.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس، إن الله لا يقبل إلا الطيب، وإن الله تعالى أمر المسلمين بما أمر به المرسلين فقال:"يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا" وقال للمؤمنين: "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات من رزقناكم واشكروا لله"، ثم ذكر الرجل أشعث أغبر يمد يده إلى السماء، فيقول: يا رب، مطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له»...
"واعملوا صالحا "الصلاح هو الاستقامة على ما توجبه الشريعة.
وقوله: "إني بما تعملون عليم" هذا حث على فعل الطاعة، يعني: اعملوا الصالحات، فإني مجازيكم على عملكم.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
قال بعض السلف الصالحين: إن الأكل من الدين، وعليه نبه رب العالمين بقوله وهو أصدق القائلين: {كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} فمن يقدم على الأكل ليستعين به على العلم والعمل ويقوى به على التقوى فلا ينبغي أن يترك نفسه مهملا سدى، يسترسل في الأكل استرسال البهائم في المرعى، فإن ما هو ذريعة إلى الدين ووسيلة إليه ينبغي أن تظهر أنوار الدين عليه. [الإحياء: 2/3].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما، وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرّقين في أزمنة مختلفة. وإنما المعنى: الإعلام بأنّ كلّ رسول في زمانه نودي لذلك ووصي به، ليعتقد السامع أنّ أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به، حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يأمر تعالى عباده المرسلين، عليهم الصلاة والسلام أجمعين، بالأكل من الحلال، والقيام بالصالح من الأعمال، فدل هذا على أن الحلال عَون على العمل الصالح، فقام الأنبياء، عليهم السلام، بهذا أتم القيام، وجمعوا بين كل خير، قولا وعملا ودلالة ونصحًا، فجزاهم الله عن العباد خيرًا.
قال الحسن البصري في قوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} قال: أما والله ما أُمِرُوا بأصفركم ولا أحمركم، ولا حلوكم ولا حامضكم، ولكن قال: انتهوا إلى الحلال منه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الرسل} من عيسى وغيره {كلوا} أنتم ومن نجيناه معكم بعد إهلاك المكذبين...
{من الطيبات} أي الكاملة التي مننت عليكم بخلقها لكم وإحلالها وإزالة الشبه عنها وجعلها شهية للطبع، نافعة للبدن، منعشة للروح، وذلك ما كان حلاًّ غير مستقذر لقوله تعالى {يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157]. ودل سبحانه على أن الحلال عون على الطاعة بقوله: {واعملوا صالحاً} أي سراً وجهراً غير خائفين من أحد، فقد أهلكت عدوكم وأورثتكم أرضكم، ولم يقيد عملكم بشكر ولا غيره، إشارة إلى أنه لوجهه ليس غير، فإنهم دائماً في مقام الشهود، في حضرة المعبود، والغنى عن كل سوى حتى عن الغنى، ثم حثهم على دوام المراقبة بقوله: {إني بما} أي بكل شيء {تعملون عليم} أي بالغ العلم.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
(الطيب): ما صلح واعتدل في نفسه، وسلم من كل ما يفسده ويخرجه عن اعتداله وأصل خلقته، فكان مستلذا للنفوس، سواء أكان مما يدرك بالسمع، أو بالبصر، أو بالذوق، أو بالشم، أو باللمس، أو بالعقل. فالطيب هو اللذيذ لذة حسية أو عقلية، ويقابله الخبيث وهو المستقذر حسا أو عقلا، وعلى هذا جاء قوله تعالى:"ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث" فما أحل الله إلا الطيب المستلذ، وما حرم إلا الخبيث بمعنى الحرام، ومنه "كلوا من الطيبات "أي المحللات، فملك غيرك وإن كان مستلذا في الحس، فإنه ليس طيبا لك شرعا، وذلك لأنه مستقذر من العقل بما فيه عنا تناوله بدون إذن صاحبه من التعدي المستقبح في العقل... (الصالح): هو المستقيم النافع وهو فعل المأمورات وترك المنهيات، وتناول المباحات من حيث أنها مباحات، أو وسائل لفعل المأمورات، وترك المنهيات.
التراكيب: للاهتمام بالمأمور به قدمت قبل الأمر جملة النداء، ولأن المأمور به مما يجب عليهم تبليغه نودوا بلفظ الرسل. ولأن كل واحد منهم أوحى الله إليه بهذا النداء والأمر في زمانه كان النداء و الأمر للجميع. وقد دخل في الجمع عيسى – عليه الصلاة والسلام – الذي كان الحديث عليه في الآية التي قبل هذه وهي: "وجعلنا ابن مريم وأمه آية و آويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين". كما دخل في الجمع محمد -صلى الله عليه وآله وسلم – الذي نزلت عليه هذه الآية، ولأن المقصود من الأكل – وهو الغذاء واللذة – يحصل ببعض قيل" من الطيب "بمن التبعيضية. ولما كان المخاطب بأكل الحلال والعمل الصالح شأنه أن تستشرف نفسه لتعيين ثمرة ذلك، جاء الخبر مؤكدا بإن في" إني بما تعملون عليم". وعلم الله مستلزم لجزائه للعاملين، فكان كناية عن الجزاء وفي الكناية عن الجزاء بالعلم تفخيم لهذا الجزاء وتعظيم، فهو جزاء الله العليم وكفى به...
توجيه الترتيب: تتوقف الأعمال على سلامة الأبدان، فكانت المحافظة على الأبدان من الواجبات، ولهذا قدم الأمر بالأكل على الأمر بالعمل.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات، التي هي الرزق الطيب الحلال، وشكر الله، بالعمل الصالح، الذي به يصلح القلب والبدن، والدنيا والآخرة...
ولهذا، الأعمال الصالحة، التي هي صلاح في جميع الأزمنة، قد اتفقت عليها الأنبياء والشرائع، كالأمر بتوحيد الله، وإخلاص الدين له، ومحبته، وخوفه، ورجائه، والبر، والصدق، والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الضعفاء والمساكين واليتامى، والحنو والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة،..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه نداء للرسل ليمارسوا طبيعتهم البشرية التي ينكرها عليهم الغافلون: (كلوا من الطيبات).. فالأكل من مقتضيات البشرية عامة، أما الأكل من الطيبات خاصة فهو الذي يرفع هذه البشرية ويزكيها ويصلها بالملأ الأعلى.
ونداء لهم ليصلحوا في هذه الأرض: (واعملوا صالحا).. فالعمل هو من مقتضيات البشرية كذلك. أما العمل الصالح فهو الذي يميز الصالحين المختارين؛ فيجعل لعملهم ضابطا وهدفا، وغاية موصولة بالملأ الأعلى..
وليس المطلوب من الرسول أن يتجرد من بشريته. إنما المطلوب أن يرتقي بهذه البشرية فيه إلى أفقها الكريم الوضيء. الذي أراده الله لها، وجعل الأنبياء روادا لهذا الأفق ومثلا أعلى. والله هو الذي يقدر عملهم بعد ذلك بميزانه الدقيق: (إني بما تعملون عليم).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والغرض من هذا بيان كرامة الرسل عند الله ونزاهتهم في أمورهم الجسمانيَّة والروحانيَّة، فالأكل من الطيبات نزاهة جسميَّة والعمل الصالح نزاهة نفسانيَّة.
والمناسبة لهذا الاستئناف هي قوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} وليحصل من ذلك الرد على اعتقاد الأقوام المعلّلين تكذيبهم رسلهم بعلة أنهم يأكلون الطعام كما قال تعالى في الآية السابقة {ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} [المؤمنون: 33]، وقال: {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7]، وليبطل بذلك ما ابتدعه النصارى من الرهبانيَّة. وهذه فوائد من الاستدلال والتعليم كان لها في هذا المكان الوقع العظيم.
والأمر في قوله: {كلوا} للإباحة، وإن كان الأكل أمراً جبلِّياً للبشر إلا أن المراد به هنا لازمه وهو إعلام المكذبين بأن الأكل لا ينافي الرسالة وأن الذي أرسل الرسل أباح لهم الأكل.
وتعليق {من الطيبات} بكسب الإباحة المستفادة من الأمر شرط أن يكون المباح من الطيبات، أي أن يكون المأكول طيّباً. ويزيد في الرد على المكذبين بأن الرسل إنما يجتنبون الخبائث ولا يجتنبون ما أحل الله لهم من الطيبات. والطيبات: ما ليس بحرام ولا مكروه.
وعطف العمل الصالح على الأمر بأكل الطيبات إيماء إلى أن همة الرسل إنما تنصرف إلى الأعمال الصالحة، وهذا كقوله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طَعمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمنوا وعملوا الصّالحات} [المائدة: 93] المراد به ما تناولوه من الخمر قبل تحريمها.
وقوله: {إني بما تعملون عليم} تحريض على الاستزادة من الأعمال الصالحة لأن ذلك يتضمن الوعد بالجزاء عنها وأنه لا يضيع منه شيء، فالخبر مستعمل في التحريض.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وليس الأمر الذي يكون به متميزا عن سائر البشر إلا العمل الصالح بأن يكون خالصا له، والعمل الصالح هو العمل الطيب الذي يكون خيرا محضا للناس لا يكون معه شر لا في ذاته، ولا في نيته، والعمل الصالح ما يكون فيه النفع لأكبر عدد ممكن، وما تكون فيه سعادة عاجلة لأكثر الناس، أو سعادة آجلة لعامتهم، ويدخل في هذا دعوتهم إلى الهداية والرشاد، والتبليغ عن أمر ربهم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فأنتم بشر ممّن خلقت، ولكم الحق بأن تتمتعوا بطيبات الحياة الدنيا، كما يتمتع غيركم، لأن الله لم يحرّمها بحدودها المحلّلة على أحدٍ من خلقه، فكيف يحرّمها على رسله، {وَاعْمَلُواْ صَالِحاً} في كل ما أمركم به من التزام بخط الرسالة في أنفسكم، والدعوة إليه في حركة المسؤولية، والجهاد في سبيله بأموالكم وأنفسكم، فذلك هو التجسيد العملي للإيمان بالرسالة، والرمز المعبر عن شكر النعمة، {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، هذه هي الحقيقة التي لا بد للمؤمن من أن يعيشها في وجدانه، بحيث يشعر بعمقٍ بالرقابة الإلهية المهيمنة عليه في كل أعماله الخفية والمعلنة، ليتأكد لديه خط الالتزام وحسّ المسؤولية.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الفرق بينكم أيّها الأنبياء وبين سواكم من البشر، ليس في أنّكم لا تتّصفون بصفاتهم كالحاجة إلى الطعام والشراب والنوم والراحة، وإنّما بسموّكم، ففيما يتهافت الناس على إشباع شهواتهم بما طاب وخبث وقد جعلوا من الأكل هدفهم النهائي، زكت أنفسكم، واختارت الطيّبات وصالح الأعمال...
بين عبارتي (كلوا من الطيّبات) و (اعملوا صالحاً) ارتباط واضح، فلنوع الغذاء أثر في نفس الإنسان وعقله وسلوكه. وقد ذكرت الأحاديث الإسلامية أنّ تناول الغذاء الحرام يمنع استجابة الدعاء...
وبهذا بيّنت الآية ثلاثة مؤثّرات في العمل الصالح: الأوّل: طيب الغذاء الذي يورث صفاء القلب ونقاوته. والثّاني: شكر الله تعالى على ما أنعم به من رحمته. الثّالث: الشعور اليقظ بمراقبة الله سبحانه للأعمال كلّها...
وأحد امتيازات الإنسان الكبيرة على سائر الموجودات أنّ الله تعالى رزقه من الطيّبات.