{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } لطلب المكاسب والتجارات ولما كان الاشتغال في التجارة ، مظنة الغفلة عن ذكر الله ، أمر الله بالإكثار من ذكره ، فقال : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } أي في حال قيامكم وقعودكم وعلى جنوبكم ، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإن الإكثار من ذكر الله أكبر أسباب الفلاح .
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر تيسيره عليهم فى تشريعاته فقال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله . . } .
أى : فإذا فرغتم من أداء الصلاة وأقمتموها على أكل وجه ، فانتشروا فى الأرض ، وامشوا فى مناكبها ، لأداء أعمالكم التى كنتم قد تركتموها عند النداء للصلاة ، واطلبوا الربح واكتساب المال والرزق ، من فضل الله - تعالى - ومن فيض إنعامه ، والأمر هنا للإباحة ، لأنه وارد بعد حظر ، فهو كقوله - تعالى - : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا . . } أى : أن الانتشار فى الأرض بعد الصلاة لطلب الرزق ، ليس واجبا عليهم ، إذ طلب الرزق قد يكون فى هذا الوقت ، وقد يكون فى غيره . .
والمقصود من الآية إنما هو تنبيه الناس ، إلى أن لهم فى غير وقت الصلاة ، سعة من الزمن فى طلب الرزق ، وفى الاشتغال بالأمور الدنيوية ، فعليهم أن يسعوا إلى ذكر الله ، إذا ما نودى للصلاة من يوم الجمعة ، وأن يحرصوا على ذلك حرصا تاما ، مصحوبا بالنية الطيبة ، وبالهيئة الحسنة . وبالمضى المبكر إلى المسجد .
وقوله - سبحانه - : { واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } تحذير لهم من الانتشار فى الأرض لمصالحهم الدنيوية ، دون أن يعطو طاعة الله - تعالى - وعبادته ، ما تستحقه من عناية ومواظبة .
أى : إذا قضيت الصلاة ، فانتشروا فى الأرض لتحصيل معاشكم ، دون أن يشغلكم ذلك عن الإكثار من ذكر الله - تعالى - فى كل أحوالكم ، فإن الفلاح كل الفلاح فى تقديم ما يتعلق بأمور الدين ، على ما يتعلق بأمور الدنيا ، وفى تفضيل ما يبقى على ما يفنى .
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها ترسم للمسلم التوازن السامى ، بين ما يقتضيه دينه ، وما تقتضيه دنياه .
إنا تأمره بالسعى فى الأرض ، ولكن فى غير وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة ، ودون أن يشغله هذا السعى عن الإكثار من ذكر الله ، فإن الفلاح فى الإقبال على الطاعات التى ترضيه - سبحانه - : ومن بين هذه الطاعات أن يكثر الإنسان من ذكر الله - تعالى - ، حتى فى حالة سعيه لتحصيل رزقه .
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الإرض ، وابتغوا من فضل الله ، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون . . وهذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي . التوازن بين مقتضيات الحياة في الأرض ، من عمل وكد ونشاط وكسب . وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو وانقطاع القلب وتجرده للذكر . وهي ضرورة لحياة القلب لايصلح بدونها للاتصال والتلقي والنهوض بتكاليف الأمانة الكبرى . وذكر الله لا بد منه في أثناء ابتغاء المعاش ، والشعور بالله فيه هو الذي يحول نشاط المعاش إلى عبادة . ولكنه - مع هذا - لابد من فترة للذكر الخالص ، والانقطاع الكامل ، والتجرد الممحض . كما توحي هاتان الآيتان .
وكان عراك بن مالك - رضي الله عنه - إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : " اللهم إني أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني . فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين " . . [ رواه ابن أبي حاتم ] . . وهذه الصورة تمثل لنا كيف كان يأخذ الأمر جدا ، في بساطة تامة ، فهو أمر للتنفيذ فور سماعه بحرفيته وبحقيقته كذلك !
ولعل هذا الإدراك الجاد الصريح البسيط هو الذي ارتقى بتلك المجموعة إلى مستواها الذي بلغت إليه ، مع كل ما كان فيها من جواذب الجاهلية . مما تصوره الآية الأخيرة في السورة :
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللّهِ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لّعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فإذا قُضيت صلاة الجمعة يوم الجمعة ، فانتشروا في الأرض إن شئتم ، ذلك رخصة من الله لكم في ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن مجاهد أنه قال : هي رخصة ، يعني قوله : فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ قال : هذا إذن من الله ، فمن شاء خرج ، ومن شاء جلس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أذن الله لهم إذا فرغوا من الصلاة ، فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ فقد أحللته لكم .
وقوله : وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ . ذُكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في تأويل ذلك ما :
حدثني العباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا عليّ بن المعافى بن يعقوب الموصليّ ، قال : حدثنا أبو عامر الصائغ من الموصل ، عن أبي خلف ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ قال : «لَيْسَ لِطَلَبِ دْنُيا ، وَلَكِنْ عِيادَةُ مَرِيضٍ ، وَحُضُورُ جَنازَةٍ ، وَزِيارَةُ أخٍ فِي اللّهِ » .
وقد يحتمل قوله : وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ أن يكون معنيا به : والتمسوا من فضل الله الذي بيده مفاتيح خزائنه لدنياكم وآخرتكم .
وقوله : وَاذْكُرُوا الله كَثِيرا لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ يقول : واذكروا الله بالحمد له ، والشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق لأداء فرائضه ، لتفلحوا ، فتدركوا طلباتكم عند ربكم ، وتصلوا إلى الخلد في جناته .
فإذا قضيت الصلاة أديت وفرغ منها فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله إطلاق لما حظر عليهم واحتج به من جعل الأمر بعد الحظر للإباحة وفي الحديث ابتغوا من فضل الله ليس بطلب الدنيا وإنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله واذكروا الله كثيرا واذكروه في مجامع أحوالكم ولا تخصوا ذكره بالصلاة لعلكم تفلحون بخير الدارين .
وقوله : { فانتشروا } أجمع الناس على أن مقتضى هذا الأمر الإباحة ، وكذلك قوله تعالى : { وابتغوا من فضل الله } أنه الإباحة في طلب المعاش ، وأن ذلك مثل قوله تعالى :
{ وإذا حللتم فاصطادوا }{[11097]} [ المائدة : 2 ] إلا ما روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ذلك الفضل المبتغى هو عيادة مريض أو صلة صديق أو اتباع جنازة »{[11098]} .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا ينبغي أن يكون المرء بقية يوم الجمعة{[11099]} ، ويكون نحوه صبيحة يوم السبت ، قاله جعفر بن محمد الصادق ، وقال مكحول : الفضل المبتغي العلم ، فينبغي أن يطلب إثر الجمعة .