{ قَالَ نُوحٌ } شاكيا لربه : إن هذا الكلام والوعظ والتذكير ما نجع فيهم ولا أفاد .
{ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } فيما أمرتهم به { وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا } أي : عصوا الرسول الناصح الدال على الخير ، واتبعوا الملأ والأشراف الذين لم تزدهم أموالهم ولا أولادهم إلا خسارا أي : هلاكا وتفويتا للأرباح فكيف بمن انقاد لهم وأطاعهم ؟ !
وهكذا حاول نوح - عليه السلام - أن يصل إلى آذان قومه وإلى عقولهم وقلوبهم ، بشتى الأساليب الحكيمة ، والتوجيهات القويمة ، فى صبر طويل وإرشاد دائم .
ولكن قومه كانوا قد بلغوا الغاية فى الغباء والجهالة والعناد والطغيان ، لذى نرى السورة الكريمة تحكى عن نوح - عليه السلام - ضراعته إلى ربه ، والتماسه منه - تعالى استئصال شأفتهم ، وقطع دابرهم ، لنستمع فى تدبر إلى قوله - تعالى - .
{ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتبعوا . . . } .
قوله - سبحانه - : { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتبعوا . . } كلام مستأنف . لأن ما سبقه يستدعى سؤالا تقديره : ماذا كانت عاقبة قوم نوح بعد أن نصحهم ووعظهم بتلك الأساليب المتعددة ؟ فكان الجواب : { قَالَ نُوحٌ } - عليه السلام - بعد أن طال نصحه لقومه ، وبعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، وبعد أن يئس من إيمانهم وبعد أخبره - سبحانه - أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن .
{ قَالَ } متضرعا إلى ربه { رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } أى : إن قومى قد عصونى وخالفوا أمرى ، وكرهوا صحبتى ، وأصروا واستكبروا استكبارا عظيما فى دعوتى .
{ واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } أى : إنهم أصروا على معصيتى ، ولم يكتفوا بذلك بل بجانب إعراضهم عنى ، اتبعوا غيرى . . اتبعوا رؤساءهم أهل الأموال والأولاد الذين لم تزدهم النعم التى أنعمت بها عليهم إلا خسرانا وجحودا ، وضلالا فى الدنيا ، وعقوبة فى الآخرة .
فالمراد بالذين لم يزدهم مالهم وولدهم إلا خسارا : أولئك الكبراء والزعماء الذين رزقهم الله المال والولد ، ولكنهم استعملوا نعمه فى معصيته لا فى طاعته .
( قال نوح : رب إنهم عصوني ، واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا . ومكروا مكرا كبارا . وقالوا لا تذرن آلهتكم ، ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا . وقد أضلوا كثيرا . ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ) . .
رب إنهم عصوني ! بعد كل هذا الجهاد ، وبعد كل هذا العناء . وبعد كل هذا التوجيه . وبعد كل هذا التنوير . وبعد الإنذار والإطماع والوعد بالمال والبنين والرخاء . . بعد هذا كله كان العصيان . وكان السير وراء القيادات الضالة المضللة ، التي تخدع الأتباع بما تملك من المال والأولاد ، ومظاهر الجاه والسلطان . ممن ( لم يزده ماله وولده إلا خسارا )فقد أغراهم المال والولد بالضلال والإضلال ، فلم يكن وراءهما إلا الشقاء والخسران .
وقوله : قالَ نُوحٌ رَبّ إنّهُمْ عَصَوْنِي فخالفوا أمري ، وردّوا عليّ ما دعوتهم إليه من الهدى والرشاد واتّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إلاّ خَسارا يقول : واتبعوا في معصيتهم إياي من دعاهم إلى ذلك ، ممن كثر ماله وولده ، فلم تزده كثرة ماله وولده إلا خسارا ، بُعدا من الله ، وذهابا عن مَحَجّة الطريق .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَوَلَدُهُ فقرأته عامة قرّاء المدينة : وَوَلَدُهُ بفتح الواو واللام ، وكذلك قرءوا ذلك في جميع القرآن . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بضم الواو وسكون اللام ، وكذلك كلّ ما كان من ذكر الولد من سورة مريم إلى آخر القرآن . وقرأ أبو عمرو كلّ ما في القرآن من ذلك بفتح الواو واللام في غير هذا الحرف الواحد في سورة نوح ، فإنه كان يضمّ الواو منه .
والصواب من القول عندنا في ذلك ، إن كلّ هذه القراءات قراءات معروفات ، متقاربات المعاني ، فبأي ذلك قرأ القارىء فمصيب .
قال نوح رب إنهم عصوني فيما أمرتهم به واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا واتبعوا رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بأولادهم بحيث صار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة وفيه أنهم إنما اتبعوهم لوجاهة حصلت لهم بالأموال والأولاد وأدت بهم إلى الخسار وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي والبصريان وولده ةبالضم والسكون على أنه لغة كالحزن والحزن أو جمع كالأسد .
المعنى فلما لم يطيعوا ويئس نوح من إيمانهم قال نوح : { رب إنهم عصوني } واتبعوا أشرافهم وغواتهم ، فعبر عنهم بأن أموالهم وأولادهم زادتهم { خساراً } أي خسراناً ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع في رواية خارجة عنه «ووُلْده » بضم الواو وسكون اللام ، وهي قراءة ابن الزبير والحسن والأعرج والنخعي ومجاهد ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر «ووَلَده » بفتح اللام والواو وهما بمعنى واحد كبُخْل وبَخَل وهي قراءة أبي عبد الرحمن والحسن وأبي رجاء وابن وثاب وأبي جعفر وشيبة ، وقرأ «ووِلده » بكسر الواو والجحدري وزر والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق وطلحة ، وقال أبو عمرو : «وُلْد » بضم الواو وسكون اللام العشيرة والقوم ، وقال أبو حاتم يمكن أن يكون الوُلد بضم الواو جمع الولد وذلك كخشب وخشب ، وقد قال حسان بن ثابت : [ الكامل ]
ما بكر آمنة المبارك بكرها . . . من ولد محصنة بسعد الأسعد{[11349]}