بدأت هذه السورة بعتاب النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان من إعراضه عن ابن أم مكتوم ، حين جاءه راغبا في العلم والهداية ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولا بدعوة سادة قريش . رجاء أن يستجيبوا له ، فيسلم بإسلامهم خلق كثير . ثم ذكرت الإنسان بنعم الله عليه منذ نشأته إلى نشوره ، وختمت بالحديث عن يوم القيامة ، مبينة أن الناس فيه فرقتان : مؤمنة مستبشرة ، وكافرة فاجرة .
{ 1 - 10 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى }
وسبب نزول هذه الآيات الكريمات ، أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي صلى الله عليه ويتعلم منه .
وجاءه رجل من الأغنياء ، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق ، فمال صلى الله عليه وسلم [ وأصغى ] إلى الغني ، وصد عن الأعمى الفقير ، رجاء لهداية ذلك الغني ، وطمعا في تزكيته ، فعاتبه الله بهذا العتاب اللطيف ، فقال : { عَبَسَ } [ أي : ] في وجهه { وَتَوَلَّى } في بدنه ،
1- سورة " عبس " من السور المكية ، وتسمى سورة " الصاخة " وسورة " السفرة " لوقوع هذه الألفاظ فيها .
2- وعدد آياتها : اثنتان وأربعون آية في المصحف الكوفي ، وإحدى وأربعون في البصري ، وأربعون في الشامي . . وكان نزولها بعد سورة " النجم " وقبل سورة " القدر " . فهي تعتبر السورة الثالثة والعشرون في ترتيب النزول ، أما في ترتيب المصحف فهي السورة الثمانون .
وقد افتتحت بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يجب عليه نحو ضعفاء المسلمين ، وبإرساء القاعدة التي يجب على المسلمين أن يتبعوها عند معاملتهم للناس ، والثناء على المؤمنين الصادقين مهما كان عجزهم وضعفهم والتحذير من إهمال شأنهم .
ثم تذكير المؤمنين بجانب من نعمه –تعالى- عليهم ، لكي يزدادوا شكرا له –تعالى- على شكرهم ، ثم تذكيرهم أيضا بأهوال يوم القيامة ، وبأحوال الناس فيه .
قد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات ملخصها : " أن النبى صلى الله عليه وسلم كان جالسا فى أحد الأيام ، مع جماعة من زعماء قريش يدعوهم إلى الإِسلام ، ويشرح لهم تعاليمه ، فأقبل عبد الله بن أم مكتوم - وكان كفيف البصر - فقال : أقرئنى وعلمن مما علمك الله ، يا رسول الله ، وكرر ذلك ، وهو لا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم مشغول بدعوة هؤلاء الزعماء إلى الإِسلام ، رجاء أن يسلم بسبب إسلامهم خلق كثير . .
فلما أكثر عبد الله من طلبه ، أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآيات التى عاتب الله - تعالى - فيها نبيه صلى الله عليه وسلم على هذا الإِعراض . . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه ، إذا رآه ، ويقول له : " مرحبا بمن عاتبنى فيه ربى " ويبسط له رداءه . . "
قال الآلوسى : وعبد الله بن أم مكتوم ، هو ابن خال السيدة خديجة ، واسمه عمرو بن قيس . وأم مكتوم كنية أمه ، واسها عاتكة بنت عبد الله المخزومية ، واستخلفه صلى الله عليه وسلم على المدينة أكثر من مرة . . وهو من المهاجرين الأولين . قيل : مات بالقادسية شهيدا نوح فتح المدائن أيام عمر بن الخطاب - رضى الله عنه . .
ولفظ " عبس " - من باب ضرب - مأخوذ من العبوس ، وهو تقطيب الوجه ، وتغير هيئته مما يدل على الغضب .
وقوله { وتولى } مأخوذ من التولى وأصله تحول الإِنسان عن مكانه الذى هو فيه إلى مكان آخر ، والمراد به هنا الإِعراض عن السائل وعدم الإِقبال عليه .
وحذف متعلق التولى ، لمعرفة ذلك من سياق الآيات ، إذ من المعروف أن إعراضه صلى الله عليه وسلم كان عن عبد الله ابن أم مكتوم الذى قاطعه خلال حديثه مع بعض زعماء قريش .
القول في تأويل قوله تعالى : { عَبَسَ وَتَوَلّىَ * أَن جَآءَهُ الأعْمَىَ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّىَ * أَوْ يَذّكّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَىَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : عَبَسَ : قَبَضَ وجهه تكرّها ، وَتَوَلّى يقول : وأعرض أنْ جاءَهُ الأعْمَى يقول : لأن جاءه الأعمى . وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يطوّل الألف ويمدّها من أنْ جاءَهُ فيقول : «آنْ جاءَهُ » ، وكأنّ معنى الكلام كان عنده : أَأن جاءه الأعمى عبس وتولى ؟ كما قرأ من قرأ : أنْ كانَ ذَا مال وَبَنِينَ بمدّ الألف من «أنْ » وقصرها .
وذُكر أن الأعمى الذي ذكره الله في هذه الاَية ، هو ابن أمّ مكتوم ، عوتب النبيّ صلى الله عليه وسلم بسببه . ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا سعيد بن يحيى الأمويّ ، قال : حدثنا أبي ، عن هشام بن عُروة مما عرضه عليه عُروة ، عن عائشة قالت : أنزلت عَبَسَى وَتَوَلّى في ابن أمّ مكتوم ، قالت : أَتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : أرشدني ، قالت : وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين ، قالت : فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعْرِض عنه ، ويُقْبِل على الاَخر ، ويقول : «أَتَرَى بِما أقُولُهُ بأْسا ؟ » فيقول : لا ففي هذا أُنزلت : عَبَسَ وتَوَلّى .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : عَبَسَ وَتَوّلى أنْ جاءَهُ الأعْمَى قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عُتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب ، وكان يتصدّى لهم كثيرا ، ويَحرِص عليهم أن يؤمنوا ، فأقبل إليه رجل أعمى ، يقال له عبد الله بن أم مكتوم ، يمشي وهو يناجيهم ، فجعل عبد الله يستقرىء النبيّ صلى الله عليه وسلم آية من القرآن ، وقال : يا رسول الله ، عَلّمني مما علّمك الله ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعَبَس في وجهه وتوّلى ، وكرِه كلامه ، وأقبل على الاَخرين فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ ينقلب إلى أهله ، أمسك الله بعض بصره ، ثم خَفَق برأسه ، ثم أنزل الله : عَبَسَ وَتَولّى أنْ جاءَهُ الأعْمَى وَما يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّى أوْ يَذّكّرُ فَتَنْفَعَهُ الذّكْرَى ، فلما نزل فيه أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلّمه ، وقال له : «ما حاجَتُك ، هَلْ تُرِيدُ مِنْ شَيْءٍ ؟ » وإذا ذهب من عنده قال له : «هَلْ لَكَ حاجَةٌ فِي شَيْءٍ ؟ » وذلك لما أنزل الله : أمّا مَنِ اسْتَغْنَى فأنْتَ لَهُ تَصَدّى وَما عَلَيْكَ ألاّ يَزّكّى .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن هشام ، عن أبيه ، قال : نزلت في ابن أمّ مكتوم عَبَسَ وَتَوّلَى أنْ جاءَهُ الأعْمَى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله أنْ جاءَهُ الأعْمَى قال : رجل من بني فهر ، يقال له ابن أمّ مكتوم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة عَبَسَ وَتَوَلّى أنْ جاءَهُ الأعْمَى : عبد الله بن زائدة ، وهو ابن أمّ مكتوم ، وجاءه يستقرِئه ، وهو يناجي أُميّة بن خَلَف ، رجلٌ من عِلْية قريش ، فأعرض عنه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله فيه ما تسمعون عَبَسَ وَتَوَلّى أنْ جاءَهُ الأعْمَى إلى قوله : فأنْتَ عَنْهُ تَلَهّى «ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم استخلفه بعد ذلك مرّتين على المدينة ، في غزوتين غزاهما يصّلي بأهلها » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، أنه رآه يوم القادسية معه راية سوداء ، وعليه درع له .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : جاء ابن أمّ مكتوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يكلم أبيّ بن خَلَف ، فأعرض عنه ، فأنزل الله عليه : عَبَس وَتَوَلّى ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يُكرمه . قال أنس : فرأيته يوم القادسية عليه دِرْع ، ومعه راية سوداء .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : عَبَسَ وتوّلى تصدى رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من مشركي قريش كثير المال ، ورجا أن يُؤْمن ، وجاء رجل من الأنصار أعمى ، يقال له عبد الله بن أمّ مكتوم ، فجعل يسأل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فكرهه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وتوّلى عنه ، وأقبل على الغنيّ ، فوعظ الله نبيّه ، فأكرمه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، واستخلفه على المدينة مرّتين ، في غزوتين غزاهما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وسألته عن قول الله عزّ وجلّ : عَبَسَ وَتَوَلّى أنْ جاءَهُ الأعْمَى قال : جاء ابن أمّ مكتوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقائده يُبْصر ، وهو لا يبصر ، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى قائده يَكُفّ ، وابن أمّ مكتوم يدفعه ولا يُبصر قال : حّتى عَبَس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعاتبه الله في ذلك ، فقال : عَبَسَ وَتَوَلّى أنْ جاءَهُ الأعْمَى وَما يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّى . . . إلى قوله : فأنْتَ عَنْهُ تَلَهّى قال ابن زيد : كان يقال : لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَتَمَ من الوحي شيئا ، كتم هذا عن نفسه قال : وكان يتصدّى لهذا الشريفِ في جاهليته ، رجاء أن يسلم ، وكان عن هذا يتلهّى .
تفسير سورة عبس{[1]}
بسم الله الرحمن الرحيم سورة عبس . وهي مكية بإجماع المفسرين . وقصص هذه السورة التي لا تفهم الآية إلا به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إسلام قريش وأشرافهم وكان يتحَّفى بدعائهم إلى الله تعالى فبينما هو يوما مع رجل من عظمائهم قيل الوليد بن المغيرة المخزومي وقيل عتيبة بن ربيعة وقيل شيبة وقيل العباس وقيل : أمية بن خلف ، وقال ابن عباس : كان في جمع منهم فيهم عتبة والعباس وأبو جهل إذ أقبل عبد الله بن أم مكتوم القرشي الفهري من بني عامر بن لؤي وهو رجل أعمى يقوده رجل آخر فأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قائده أن يؤخره عنه ، ففعل ، فدفعه عبد الله نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : استدنني يا محمد علمني مما علمك الله وكان في ذلك كله قطع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الرجل المذكور من قريش وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأ عليه القرآن ثم قال له أترى بما أقول بأسا ؟ فكان ذلك الرجل يقول : لا والدمى يعني الأصنام ويروى لا والدماء يعني الذبائح للأصنام فلما شغب عليه أمر عبد الله بن أم مكتوم عبس وأعرض عنه وذهب ذلك الرجل فروى أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إلى بيته فلوى رأسه وشخص بصره وأنزلت عليه هذه السورة{[2]} قال سفيان الثوري : فكان بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءه وقال له أنس بن مالك :رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة مرتين .
«العبوس » : تقطب الوجه واربداده عند كراهية أمر ، وفي مخاطبته بلفظ ذكر الغائب مبالغة في العتب لأن في ذلك بعض الإعراض ، وقال كثير من العلماء وابن زيد وعائشة وغيرها من الصحابة : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي ، لكتم هذه الآيات ، وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش ، «والتولي » : هنا الإعراض .
سميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة { سورة عبس } .
وفي أحكام ابن العربي عنونها سورة ابن أم مكتوم . ولم أر هذا لغيره . وقال الخفاجي : تسمى سورة الصاخة . وقال العيني في شرح صحيح البخاري تسمى سورة السفرة ، وتسمى سورة الأعمى ، وكل ذلك تسمية بألفاظ وقعت فيها لم تقع في غيرها من السور أو بصاحب القصة التي كانت سبب نزولها .
ولم يذكرها صاحب الإتقان في السور التي لها أكثر من اسم وهو عبس .
وقال في العارضة : لم يحقق العلماء تعيين النازل بمكة من النازل بالمدينة في الجملة ولا يحقق وقت إسلام ابن أم مكتوم اه . وهو مخالف لاتفاق أهل التفسير على أنها مكية فلا محصل لكلام ابن العربي .
وعدت الرابعة والعشرين في ترتيب نزول السور . نزلت بعد سورة والنجم وقبل سورة القدر .
وعدد آيها عند العادين من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة اثنان وأربعون ، وعند أهل البصرة إحدى وأربعون وعند أهل الشام أربعون .
وهي أولى السور من أواسط المفصل .
وسبب نزولها يأتي عند قوله تعالى { عبس وتولى } .
تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموازنة بين مراتب المصالح ووجوب الاستقراء لخفياتها كي لا يفيت الاهتمام بالمهم منها في بادئ الرأي مهما آخر مساويا في الأهمية أو أرجح . ولذلك يقول علماء أصول الفقه إن على المجتهد أن يبحث عن معارض الدليل الذي لاح له .
والإشارة إلى اختلاف الحال بين المشركين المعرضين عن هدي الإسلام وبين المسلمين المقبلين على تتبع مواقعه .
وقرن ذلك بالتذكير بإكرام المؤمنين وسمو درجتهم عند الله تعالى .
والثناء على القرآن وتعليمه لمن رغب في علمه .
وانتقل من ذلك إلى وصف شدة الكفر من صناديد قريش بمكابرة الدعوة التي شغلت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى رغبة ابن أم مكتوم .
والاستدلال على إثبات البعث وهو مما كان يدعوهم إليه حين حضور ابن أم مكتوم وذلك كان من أعظم ما عني به القرآن من حيث إن إنكار البعث هو الأصل الأصيل في تصميم المشركين على وجوب الإعراض عن دعوة القرآن توهما منهم بأنه يدعوا إلى المحال ، فاستدل عليهم بالخلق الذي خلقه الإنسان ، واستدل بعده بإخراج النبات والأشجار من أرض ميتة .
وأعقب الاستدلال بالإنذار بحلول الساعة والتحذير من أهوالها وبما يعقبها من ثواب المتقين وعقاب الجاحدين .
والتذكير بنعمة الله على المنكرين عسى أن يشكروه .
والتنويه بضعفاء المؤمنين وعلو قدرهم ووقوع الخير من نفوسهم والخشية ، وأنهم أعظم عند الله من أصحاب الغنى الذين فقدوا طهارة النفس ، وأنهم أحرياء بالتحقير والذم ، وأنهم أصحاب الكفر والفجور .
افتتاح هذه السورة بفعلين متحملين لضمير لا معاد له في الكلام تشويق لما سيورد بعدهما ، والفعلان يشعران بأن المحكي حادث عظيم ، فأما الضمائر فيبين إبهامها قولُه : { فأنت له تصدى } [ عبس : 6 ] وأما الحادث فيتبين من ذكر الأعمى ومَن استغنى .
وهذا الحادث سبب نزول هذه الآيات من أولها إلى قوله : { بررة } [ عبس : 16 ] . وهو ما رواه مالك في « الموطأ » مرسلاً عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال : أنزلت { عبس وتولى } في ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : يا محمد استدنني ، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ( أي عن ابن أم مكتوم ) ويُقبل على الآخر ، ويقول : يا أبا فلان هل ترى بما أقول بأساً فيقول : « لا والدِّماء ما أرى بما تقول يأساً » ، فأنزلت : { عبس وتولى } .
ورواه الترمذي مسنداً عن عروة عن عائشة بقريب من هذا ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
وروى الطبري عن ابن عباس : « أن ابن أم مكتوم جاء يستقرىءُ النبي صلى الله عليه وسلم آيةً من القرآن ومثله عن قتادة .
وقال الواحدي وغيره : « كان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ يناجي عتبَة بن ربيعة وأبا جهل ، والعباسَ بن عبد المطلب ، وأبيَّ بن خلف ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل على الوليد بن المغيرة يَعرض عليهم الإِسلام .
ولا خلاف في أن المراد ب { الأعمى } هو ابن أم مكتوم . قيل : اسمه عبد الله وقيل : اسمه عَمْرو ، وهو الذي اعتمده في « الإِصابة » ، وهو ابن قيس بن زائدة من بني عامر بن لؤي من قريش .
وأمه عاتكة ، وكنيت أمَّ مكتوم لأن ابنها عبد الله ولد أعمى والأعمى يكنى عنه بمكتوم . ونسب إلى أمه لأنها أشرف بيتاً من بيت أبيه لأن بني مخزوم من أهل بيوتات قريش فوق بني عامر بن لؤي . وهذا كما نسب عَمْرو بن المنذر ملكُ الحِيرة إلى أمه هند بنت الحارث بن عمرو بن حُجر آكِل المُرار زيادة في تشريفه بوراثة الملك من قبل أبيه وأمه .
ووقع في « الكشاف » : أن أم مكتوم هي أم أبيه . وقال الطيبي : إنه وهَم ، وأسلم قديماً وهاجر إلى المدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها ، وتوفي بالقادسية في خلافة عمر بعد سنة أربع عشرة أو خمس عشرة .
وفيه نزلت هذه السورة وآيةُ { غيرَ أُولي الضرر } من سورة النساء ( 95 ) .
وكان النبي يحبّه ويُكرمه وقد استخلفه على المدينة في خروجه إلى الغزوات ثلاث عشرة مرة ، وكان مؤذِّنَ النبي هو وبلال بن رباح .
والعُبوسُ بضم العين : تقطيب الوجه وإظهار الغضب .
ويقال : رجل عَبوس بفتح العين ، أي متقطب ، قال تعالى : { إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً } [ الإنسان : 10 ] . وعبس من باب ضرَب .
والتولي : أصله تحوّل الذات عن مكانها ، ويستعار لعدم اشتغال المرء بكلام يلقَى إليه أو جليس يحلّ عنده ، وهو هنا مستعار لعدم الاشتغال بسؤال سائل ولعدم الإِقبال على الزائر .
وحذف متعلق { تولّى } لظهور أنه تولَ عن الذي مجيئه كان سبب التولي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
شرح "إنما أنت منذر من يخشاها " بأن المراد الأعظم تزكية القابل للخشية بالتخويف بالقيامة التي قام الدليل على القدرة عليها بابتداء الخلق من الإنسان، وبكل من الابتداء والإعادة لطعامه والتعجيب ممن أعرض مع قيام الدليل، والإشارة إلى أن الاستغناء والترف أمارة الإعراض وعدم القابلية والتهيء للكفر والفجور، وإلى أن المصائب أمارة للطهارة والإقبال واستكانة القلوب وسمو النفوس لشريف الأعمال، فكل من كان فيها أرسخ كان قلبه أرق وألطف فكان أخشى، فكان الإقبال عليه أحب وأولى، واسمها " عبس " هو الدال على ذلك بتأمل آياته وتدبر فواصله وغاياته، وكذا الصاخة النافخة بشرها وشررها والباخة...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وسميت في غير كتاب سورة الأعمى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة قوية المقاطع، ضخمة الحقائق، عميقة اللمسات، فريدة الصور والظلال والإيحاءات، موحية الإيقاعات الشعورية والموسيقية على السواء.
يتولى المقطع الأول منها علاج حادث معين من حوادث السيرة: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] مشغولا بأمر جماعة من كبراء قريش يدعوهم إلى الإسلام حينما جاءه ابن أم مكتوم الرجل الأعمى الفقير -وهو لا يعلم أنه مشغول بأمر القوم- يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله، فكره رسول الله [صلى الله عليه وسلم] هذا وعبس وجهه وأعرض عنه، فنزل القرآن بصدر هذه السورة يعاتب الرسول [صلى الله عليه وسلم] عتابا شديدا؛ ويقرر حقيقة القيم في حياة الجماعة المسلمة في أسلوب قوي حاسم، كما يقرر حقيقة هذه الدعوة وطبيعتها: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى. أو يذكر فتنفعه الذكرى. أما من استغنى فأنت له تصدى! وما عليك ألا يزكى؟ وأما من جاءك يسعى وهو يخشى، فأنت عنه تلهى؟! كلا! إنها تذكرة، فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة)..
ويعالج المقطع الثاني جحود الإنسان وكفره الفاحش لربه، وهو يذكره بمصدر وجوده، وأصل نشأته، وتيسير حياته، وتولي ربه له في موته ونشره؛ ثم تقصيره بعد ذلك في أمره:
(قتل الإنسان ما أكفره! من أي شيء خلقه؟ من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء أنشره، كلا! لما يقض ما أمره)..
والمقطع الثالث يعالج توجيه القلب البشري إلى أمس الأشياء به وهو طعامه وطعام حيوانه. وما وراء ذلك الطعام من تدبير الله وتقديره له، كتدبيره وتقديره في نشأته:
(فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنا صببنا الماء صبا. ثم شققنا الأرض شقا، فأنبتنا فيها حبا، وعنبا وقضبا، وزيتونا ونخلا، وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا، متاعا لكم ولأنعامكم)..
فأما المقطع الأخير فيتولى عرض (الصاخة) يوم تجيء بهولها، الذي يتجلى في لفظها، كما تتجلى آثارها في القلب البشري الذي يذهل عما عداها؛ وفي الوجوه التي تحدث عما دهاها:
(فإذا جاءت الصاخة. يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة)..
إن استعراض مقاطع السورة وآياتها -على هذا النحو السريع- يسكب في الحس إيقاعات شديدة التأثير. فهي من القوة والعمق بحيث تفعل فعلها في القلب بمجرد لمسها له بذاتها.
وسنحاول أن نكشف عن جوانب من الآماد البعيدة التي تشير إليها بعض مقاطعها مما قد لا تدركه النظرة الأولى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة سورة عبس.
وفي أحكام ابن العربي عنونها سورة ابن أم مكتوم. ولم أر هذا لغيره. وقال الخفاجي: تسمى سورة الصاخة. وقال العيني في شرح صحيح البخاري تسمى سورة السفرة، وتسمى سورة الأعمى، وكل ذلك تسمية بألفاظ وقعت فيها لم تقع في غيرها من السور أو بصاحب القصة التي كانت سبب نزولها.
ولم يذكرها صاحب الإتقان في السور التي لها أكثر من اسم وهو عبس.
تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموازنة بين مراتب المصالح ووجوب الاستقراء لخفياتها كي لا يفيت الاهتمام بالمهم منها في بادئ الرأي مهما آخر مساويا في الأهمية أو أرجح. ولذلك يقول علماء أصول الفقه إن على المجتهد أن يبحث عن معارض الدليل الذي لاح له.
والإشارة إلى اختلاف الحال بين المشركين المعرضين عن هدي الإسلام وبين المسلمين المقبلين على تتبع مواقعه.
وقرن ذلك بالتذكير بإكرام المؤمنين وسمو درجتهم عند الله تعالى.
والثناء على القرآن وتعليمه لمن رغب في علمه.
وانتقل من ذلك إلى وصف شدة الكفر من صناديد قريش بمكابرة الدعوة التي شغلت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى رغبة ابن أم مكتوم.
والاستدلال على إثبات البعث وهو مما كان يدعوهم إليه حين حضور ابن أم مكتوم وذلك كان من أعظم ما عني به القرآن من حيث إن إنكار البعث هو الأصل الأصيل في تصميم المشركين على وجوب الإعراض عن دعوة القرآن توهما منهم بأنه يدعوا إلى المحال، فاستدل عليهم بالخلق الذي خلقه الإنسان، واستدل بعده بإخراج النبات والأشجار من أرض ميتة.
وأعقب الاستدلال بالإنذار بحلول الساعة والتحذير من أهوالها وبما يعقبها من ثواب المتقين وعقاب الجاحدين.
والتذكير بنعمة الله على المنكرين عسى أن يشكروه.
والتنويه بضعفاء المؤمنين وعلو قدرهم ووقوع الخير من نفوسهم والخشية، وأنهم أعظم عند الله من أصحاب الغنى الذين فقدوا طهارة النفس، وأنهم أحرياء بالتحقير والذم، وأنهم أصحاب الكفر والفجور.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في السورة عتاب رباني للنبي صلى الله عليه وسلم على اهتمامه بزعيم كافر معرض عن الدعوة أكثر من اهتمامه بأعمى مسلم، وتقرير لمهمة النبوة وتنديد بالإنسان وجحوده وتعداد نعم الله عليه، وإنذار بالآخرة وهولها ومصائر الصالحين والمجرمين فيها. ومن المحتمل أن تكون قد نزلت فصلا بعد فصل حتى كملت بدون انفصال، وعدا فصل العتاب الذي هو الفصل الأول، فإن أسلوب باقي آياتها هو تنديد وإنذار عام...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ومطلع هذه السورة يخصصه كتاب الله لأمر جلل، ألا وهو التنبيه إلى التزام "مبدأ المساواة " بالنسبة لجميع السائلين والمستفتين، في نشر الهداية وتعليم الدين، وإيثار " الراغب في الحق " بإعطائه الأسبقية في العون والإرشاد، بدلا من إيثار " الراغب عن الحق"، الذي لا يزال متأرجحا بين الصلاح والفساد، فقد بني الإسلام على أن أحق الناس في نظره بالإكرام والاعتبار والتقدير هو أقواهم إيمانا، وأشدهم استقامة، وأكثرهم تقوى، طبقا لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. وقد أراد كتاب الله أن يركز هذا المعنى في أذهان المؤمنين، ويقوي أثره في نفوسهم، حتى تكون " المساواة " في العلم والدين شريعتهم الأولى والأخيرة، فاتخذ الوحي الإلهي من إحدى المناسبات التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا مع زمرة من صناديد قريش، -وكان يتصدى لهم كثيرا ويحرص على أن يؤمنوا بالله ورسوله- ثم أقبل عليهم في نفس الوقت، وانضم إلى مجلسهم فجأة عبد الله بن أم مكتوم الذي كان ضريرا فقيرا، مناسبة لتأكيد المبدأ الإسلامي الأصيل، في اعتبار القيم الأخلاقية والمعنوية للناس، قبل القيم المادية والاجتماعية المتعارفة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه من السور المكية التي تتنوّع أغراضها، ولكنها تلتقي حول قاعدة واحدة هي انفتاح القلب الإنساني على الله في سلوكه العملي من حيث تحريك القيم الروحية والمعاني الأخلاقية في حياته، ليكون ميزان التقييم لديه هو القرب أو البعد من الله سبحانه وتعالى...
. فإن قيل: فلو صحّ الخبر الأوّل هل يكون العبوس ذنباً أم لا؟ فالجواب أنّ العبوس والانبساط مع الأعمى سواء، إذ لا يشقّ عليه ذلك، فلا يكون ذنباً، فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيه (صلى لله عليه وسلم) ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبّهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد، ويعرّفه أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أوْلى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تبحث هذه السورة على قصرها مسائل مختلفة مهمّة تدور بشكل خاص حول محور المعاد، ويمكن إدراج محتويات السورة في خمسة مواضيع أساسية.
عتاب إلهي شديد لمن واجه الأعمى الباحث عن الحقّ بأسلوب غير لائق.
كفران الإنسان للنعم والمواهب الإلهية.
بيان جانب من النعم الإلهية في مجال تغذية الإنسان والحيوان لإثارة حسّ الشكر في الإنسان.
الإشارة إلى بعض الوقائع والحوادث الرهيبة ومصير المؤمنين والكفّار ذلك اليوم العظيم. وتسمية هذه السورة بهذا الاسم بمناسبة الآية الأولى منها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"عَبَسَ": قَبَضَ وجهه تكرّها، "وَتَوَلّى "يقول: وأعرض "أنْ جاءَهُ الأعْمَى" يقول: لأن جاءه الأعمى. وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يطوّل الألف ويمدّها من أنْ جاءَهُ فيقول: «آنْ جاءَهُ»، وكأنّ معنى الكلام كان عنده: أَأن جاءه الأعمى عبس وتولى؟... وذُكر أن الأعمى الذي ذكره الله في هذه الآية، هو ابن أمّ مكتوم، عوتب النبيّ صلى الله عليه وسلم بسببه...
حدثنا سعيد بن يحيى الأمويّ، قال: حدثنا أبي، عن هشام بن عُروة مما عرضه عليه عُروة، عن عائشة قالت: أنزلت "عَبَسَ وَتَوَلّى" في ابن أمّ مكتوم، قالت: أَتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: أرشدني، قالت: وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين، قالت: فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعْرِض عنه، ويُقْبِل على الآخر، ويقول: «أَتَرَى بِما أقُولُهُ بأْسا؟» فيقول: لا، ففي هذا أُنزلت: "عَبَسَ وتَوَلّى".
عن ابن عباس قوله: عَبَسَ وَتَوّلى أنْ جاءَهُ الأعْمَى قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عُتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب، وكان يتصدّى لهم كثيرا، ويَحرِص عليهم أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى، يقال له عبد الله بن أم مكتوم، يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرئ النبيّ صلى الله عليه وسلم آية من القرآن، وقال: يا رسول الله، عَلّمني مما علّمك الله، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعَبَس في وجهه وتوّلى، وكرِه كلامه، وأقبل على الآخرين، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض بصره، ثم خَفَق برأسه، ثم أنزل الله: "عَبَسَ وَتَولّى أنْ جاءَهُ الأعْمَى وَما يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّى أوْ يَذّكّرُ فَتَنْفَعَهُ الذّكْرَى"، فلما نزل فيه أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلّمه، وقال له: «ما حاجَتُك، هَلْ تُرِيدُ مِنْ شَيْءٍ؟» وإذا ذهب من عنده قال له: «هَل لَكَ حاجَةٌ فِي شَيْءٍ؟» وذلك لما أنزل الله: "أمّا مَنِ اسْتَغْنَى فأنْتَ لَهُ تَصَدّى وَما عَلَيْكَ ألاّ يَزّكّى".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر الحسن أن تعبس الوجه والتولي كانا بنفس المجيء على ظاهر الآية، فإنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده عظماء المشركين، يعظهم، ويدعوهم إلى الإسلام. فلما جاءه ابن أم مكتوم، يسأله، أعرض عنه لمكان أولئك القوم، وعبّس وجهه رجاء إسلامهم. وذكر غيره من أهل التفسير أنه {عبس وتولى} لما سأله ابن أم مكتوم عما فيه رشده وهداه، فعبس وجهه بقطعه الحديث...
أحدهما: أن تعبّس الوجه في مثل هذا الحال أمر سهل، لا يستبعد، ولا يستنكر. والثاني: أن تعبس الوجه على الأعمى والإعراض عنه، لا يظهر للأعمى، لأنه لا يراه، فلا يعده جفاء، وكان في إقباله على أولئك القوم وحسن صحبته إياهم رجاء الإسلام منهم؛ إذ إقباله وحسن صحبته يظهر لهم، وفي الإعراض عنهم ذهاب ذلك الرجاء وإبداء الجفاء منه إياهم.
ومن آثر الوجه الذي فيه اتقاء الجفاء والدعاء من الردع إلى الهدى وصلاح الدين فهو محمود عند ذوي الأحلام والنهى، ولأن إقباله على القوم إذا كان لمكان دعائهم إلى الإسلام، وقد أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإسلام، وإن كان في دعائهم إتلاف أنفسنا وأموالنا، فلأن يسوغ الدعاء من وجه، ليس فيه تعبيس الوجه على واحد من المسلمين أولى. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وجد منه هذا النوع من الإيثار اجتهادا ورأيا، والأنبياء عليهم السلام، قد جاءهم العتاب من الله تعالى بتعاطيهم أمورا، لم يسبق من الله تعالى لهم الإذن في ذلك، وإن كان الذي تعاطوه من الأمور أمورا محمودة في تدبير الخلق نحو ما عوتب يونس عليه السلام ....
... فكذلك الوجه في معاتبة نبينا محمد عليه السلام. ومنهم من ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد إلى تعبس الوجه على ابن أم مكتوم، ولا تولى عنه عمدا لذلك. لكن لما قطع عليه حديثه، وكان فيه قطع رجاء إسلام أولئك القوم، شق ذلك عليه، واعتراه من ذلك هم شديد أثر ذلك في وجهه، لا أن كان منه ذلك على القصد...
. فجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد عليه إعراض أولئك القوم عن الإيمان، وكبر ذلك عليه حتى تغير لون وجهه، فنزل قوله تعالى: {عبس وتولى} يبين شدة ما اعتراه من الهم حتى أثر ذلك في وجهه، لا أن يكون فيه مذمة ومنقصة.
إحداها: جواز العمل بالاجتهاد، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل النوع اجتهادا لا نصا...
الثانية: آية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودلالة نبوته، وأنه لم يختلق هذا الكتاب من عند نفسه؛ لأن من يتعاطى فعلا، حقه السر، فهو يستره على نفسه، ولا يهتك عليها الستر، لئلا يلزم عليه. فلو لم يكن مأمورا بتبليغ الرسالة لكان يجتهد في السر على نفسه، فلا ينبذه للخلائق. ولكنه كان رسولا لم يجد من تبليغه إلى الخلق بدّا، فبلغه كما أمر...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعناه: قبض وجهه وأعرض، فالعبوس: تقبض الوجه عن تكره...
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
عن مسلم بن صحيح، عن مسروق، قال: دخلت على عائشة- وعندها رجل مكفوف تقطع له الأترج وتطعمه إياه بالعسل، فقلت: من هذا يا أم المؤمنين؟ فقالت: ابن أم مكتوم الذي عاتب الله فيه نبيه- صلى الله عليه وسلم-: أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- وعنده عقبة وشيبة، فأقبل عليهم، فنزلت {عبس وتولى أن جاءه الأعمى}...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وجاء في التفسير: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرج على أثرِه، وأَمَرَ بطلبِه، وكان بعد ذلك يَبَرُّه ويُكْرِمُه، فاستخلفه على المدينة مرتين. وجاء في التفسير: أنه صلى الله عليه وسلم لم يَعْبَسْ -بعد هذا- في وجهِ فقيرٍ قط، ولم يُعْرِضْ عنه. ويقال: في الخطاب لُطْفٌ... وهو أنه لم يواجهه بل قالَه على الكناية...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
وذكر الأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقوم والدلالة على أنه أحق بالرأفة والرفق أو لزيادة الإنكار كأنه قال: تولى لكونه أعمى...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وجاء بضمير الغائب في {عبس وتولى} إجلالاً له عليه الصلاة والسلام، ولطفاً به أن يخاطبه لما في المشافهة بتاء الخطاب مما لا يخفى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ونجله عن أن نواجهه بمثل هذا العتاب بوجهه فعل الكاره للشيء من تقطيب الوجه بما له من الطبع البشري حين يحال بينه وبين مراده، وآذن بمدحه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك خلاف ما طبعه عليه سبحانه من رحمة المساكين ومحبتهم والسرور بقربهم وصحبتهم بقوله- {وتولى} أي كلف نفسه الإعراض عنه رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم فيتأيد بهم الإسلام ويسلم بإسلامهم أتباعهم فتعلو كلمة الله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب! وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند الله بحيث لا يحب -سبحانه- أن يواجه به نبيه وحبيبه. عطفا عليه، ورحمة به، وإكراما له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح هذه السورة بفعلين متحملين لضمير لا معاد له في الكلام تشويق لما سيورد بعدهما، والفعلان يشعران بأن المحكي حادث عظيم، فأما الضمائر فيبين إبهامها قولُه: {فأنت له تصدى} [عبس: 6] وأما الحادث فيتبين من ذكر الأعمى ومَن استغنى...
ولا خلاف في أن المراد ب {الأعمى} هو ابن أم مكتوم...
ويقال: رجل عَبوس بفتح العين، أي متقطب، قال تعالى: {إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً} [الإنسان: 10]. وعبس من باب ضرَب. والتولي: أصله تحوّل الذات عن مكانها، ويستعار لعدم اشتغال المرء بكلام يلقَى إليه أو جليس يحلّ عنده، وهو هنا مستعار لعدم الاشتغال بسؤال سائل ولعدم الإِقبال على الزائر...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في الآيات عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم على ما كان منه من عبوس وانصراف عن الأعمى المسلم المستشعر بخوف الله الذي جاءه ساعيا للاستفادة والاستنارة، وتصد لرجل عنيد مكذب يظهر الاستغناء عن دعوة الله ليس مسؤولا عن عدم إسلامه واستجابته، وقد انتهت بتقرير كون الدعوة إنما هي تذكير للناس لا إلزام فيه ولا إبرام، فمن شاء الخير تذكر وانتفع، ومن لم يشأ فعليه وبال أمره...
وهذه أول مرة ينزل فيها قرآن فيه عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وروح الآيات ومضمونها يلهمان: أن العتاب إنما كان على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لما هو الأولى. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان في موقف المجتهد فيما رآه الأولى. والمستغرق في دعوته ونشرها والحريص على النجاح فيها، وليس في موقف الممتنع عن تعليم الأعمى وتنويره وليس في هذا شيء يناقض العصمة النبوية. وفي العتاب وأسلوبه ومفهومه وروحه تهذيب رباني عظيم المدى للنبي صلى الله عليه وسلم وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم العتاب يتجلى الصدق النبوي العميق الذي يملك النفس والقلب ويملؤهما بالإعظام والإجلال. وفي الآيات تلقينات ومبادئ أخلاقية واجتماعية وسلوكية جليلة مستمرة المدى، ففيها إشادة بذوي النيات الحسنة من الناس الذين يسعون وراء الخير والمعرفة صادقي الرغبة في الاستفادة والاستنارة وصالح العمل، وإيجاب الاهتمام لهم والعناية بهم وتشجيعهم ومساعدتهم مهما كانت طبقتهم، وترجيحهم على الذين يترفعون عن كلمة الحق والدعوة إليه ويظهرون الغرور والاستغناء مهما علت مراكزهم...