( سورة مكية ، وآياتها 42 آية ، نزلت بعد سورة النجم )
وهي سورة تصحح القيم الإنسانية ، وتضع الأسس الإسلامية لأقدار الناس وأوزانهم ، وتؤكد أن قيمة الإنسان بعمله وسلوكه ، ومقدار اتباعه لهدى السماء ، قال تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم . . . ( الحجرات : 13 ) .
وقد نزلت سورة عبس في عبد الله بن أم مكتوم ، وأم مكتوم أم أبيه ، وأبوه شريح بن مالك بن ربيعة الزهري .
( وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم ، فقال : يا رسول الله ، أقرئني وعلمني ما علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم شغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه ، فنزلت ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه ، ويقول إذا رآه : ( مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ) ، ويقول له : ( هل لك من حاجة ) ؟ واستخلفه على المدينة مرتين . i .
تعاتب الآيات الأولى النبي صلى الله عليه وسلم على إعراضه عن عبد الله بن أم مكتوم ، وقد جاء يطلب الهدى ، ويلحف في طلب العلم . ( الآيات 1-16 ) .
ويعالج المقطع الثاني جحود الإنسان ، وكفره الفاحش بربه ، وهو يذكره بمصدر وجوده وأصل نشأته ، وتيسير حياته وتولي ربه له في موته ونشره ، ثم تقصير الإنسان بعد ذلك في أمر ربه . ( الآيات -17-23 ) .
والمقطع الثالث يعالج توجيه القلب البشري إلى أمسّ الأشياء به ، وهو طعامه وطعام حيوانه ، وما وراء ذلك الطعام من تدبير الله وتقديره له . ( الآيات 24- 32 ) .
والمقطع الأخير يعرض الصاخّة التي يشتد هولها ، ويذهل الإنسان بها عما عداها ، وتنقسم الوجوه إلى ضاحكة مستبشرة ، وعابسة مغبرة . ( الآيات : 33- 32 ) .
وتكسب السورة الإحساس بقدرة هذا الكتاب الخارقة على تغيير موازين الجاهلية ، وتصحيح القيم ، وتغيير المثل الأعلى ، فبعد أن كان احترام الإنسان لجاهه وماله ، أو منصبه ومركزه ، أو مظاهر سطوته وجبروته وقوته ، أصبح المثل الأعلى في الإسلام هو طلب الحق والهدى ، والتزام هدى السماء ، ومراقبة الله والتزام أوامره ، والعمل بأحكامه ، وصدق اللع العظيم : إن أكرمكم عند الله أتقاكم . . . ( الحجرات : 13 ) .
وتبين آية أخرى أن الله يأمرنا بمكارم الأخلاق وينهانا عن المنكرات ، فيقول سبحانه : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون . ( النحل : 90 ) .
1 ، 2- قطّب الرسول صلى الله عليه وسلم وجهه وأعرض ، لأن جاءه الأعمى وقطع كلامه . وفي العدول عن الخطاب للغيبة إلفات بلاغي ، سره عدم توجيه اللوم والعتاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم التفت إلى الخطاب بعد هاتين الآيتين ، عندما هدأت ثورة العتاب وبدأ التلطف .
3 ، 4- وما يعلمك أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير ، وأن يتحقق منه خير كبير ، وأن يشرق قلبه بنور الإيمان ، فتنفعه الموعظة : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين . ( الزمر : 22 ) .
1- 7- أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك ، وعما عندك من الخير والإيمان ، أما هذا فأنت تتصدى له ، وتحفل بأمره ، وأنت مبلّغ عن الله ، عليك البلاغ وليس عليك هداهم ، ولا يضيرك إعراضهم .
2- 10- وأما عبد الله بن أم مكتوم الذي جاءك طائعا ساعيا يخشى ويتوقى ، فأنت تتشاغل عنه بهؤلاء الأشراف من قريش ، ثم تتصاعد نبرة العتاب لتبلغ حد الردع والزجر .
11-16- كلاّ . لا يحدث ذلك أبدا ، إن هداية القرآن غالية عالية ، فمن شاء اهتدى بها وتذكر أحكامها ، واتعظ بها وعمل بموجبها ، وهذا الوحي كريم على الله ، كريم في كل اعتبار ، منزه عن النقص والضلالة ، قد دوّن في صحف مكرمة ذات شرف ورفعة ، مطهرة من النقائص والضلالات ، تنزل بواسطة الملائكة على الأنبياء ، وهم يبلّغونها للناس .
والملك سفير لتبليغ وحي السماء ، والرسول سفير لتبليغ الدعوة إلى الناس ، وهم كرام أبرار أطهار ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
وقد بلغ النبي الكريم وحي السماء ، وغيّر كثيرا من المفاهيم السائدة ، ومن اعتزاز الناس بمقاييس الجاهلية ، وجعل أسامة بن زيد أميرا على جيش به أجلاء الصحابة ، ووضع في نفوس أصحابه تقدير الناس بأعمالهم فقط لا بأحسابهم وأنسابهم ، يقول عمر بن الخطاب : لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته . ويقول عمر أيضا : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا . أي : إن أبا بكر أعتق بلالا مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم .
17- 23- قتل الإنسان ما أكفره . دعاء على الكافر ، فإنه ليستحق القتل على شدة كفره وجحوده ، ونكرانه لنعم الله عليه ، لماذا يتكبر وهو مخلوق من أصل متواضع زهيد ، يستمد كل قيمة من فضل الله ونعمته ، ومن تقديره وتدبيره ؟ لقد خلقه الله من نطفة فمرت النطفة بأطوار كثيرة في بطن الأم ، ومرّ هو بأطوار عدة خارج بطنها ، رضيعا فطفلا فشابا فكهلا فشيخا ، ثم يسر الله له سبيل الهداية ، ومنحه العقل والإرادة ، ومكنه من القدرة على الاختيار ، وعرّفه عاقبة كل عمل ونتيجته .
قال تعالى : إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا . ( الإنسان : 3 ) .
أي : بينّا له الطريق ومنحناه القدرة على الاختيار ، وبينّا له سبيل الهدى والضلال ، فإما أن يشكر ربه ويمتثل لأمره ، وإما أن يكفر بنعمه ويخالف أمره ، حتى إذا انتهت حياة الإنسان سلب الله روحه ، ومنّ عليه بالموت وهو نعمة كبرى ، ولولا الموت لأكل الناس بعضهم بعضا ، ولضاقت الأرض بمن عليها ، ومن نعم الله أن شرع دفن الميت ، وحفظه في باطن الأرض ، حتى لا يترك على ظهرها للجوارح والكواسر .
ومن نعم الله أيضا أن يبعث الموتى ، وينشرهم ويخرجهم من قبورهم ، لمكافأة الطائع ومعاقبة العاصي .
عجبا للإنسان الجاحد فإنه بالرغم من النعم الظاهرة والباطنة التي أحاطه الله تعالى بها لم يمتثل ما أمره الله به .
24-32- فليتأمل الإنسان تدبير الله ، لإمداده بأسباب الحياة والنمو ، ولينظر إلى ألصق شيء إليه ، وألزم شيء له وهو الطعام ، كيف يسر الله الحصول عليه ، فقد أنزل الله سبحانه المطر من السماء ، فانتفعت به الأرض ، وانشقت عنه ثمانية أنواع من النبات ، هي :
1- الحب ، كالحنطة والشعير والأرز .
3- القضب ، وهو ما يؤكل من النبات رطبا وغضّا طريا .
4 ، 5- الزيتون والنخل ، وفيهما من القيمة الغذائية الشيء الكثير ، والبلح طعام الفقير وحلوى الغني ، وزاد المسافر والمقيم .
6- بساتين ذات أشجار ضخمة مثمرة ، وذات حوائط تحيط بها ، غلبا . جمع غلباء ، أي ضخمة عظيمة ملتفة الأشجار .
7- وفاكهة يتمتع الإنسان بأكلها ، كالتين والتفاح والخوخ وغيرها .
8- والأبّ ، أي مرعى الحيوان خاصة .
تلك قصة الطعام الذي أنبتته يد القدرة ، ويسرت لذلك المطر والرياح والشمس والهواء ، وعديدا من العوامل والأسرار الخفية ، فيتمتع بأكله الإنسان والحيوان .
33- 42- فإذا جاءت القيامة التي تصخّ الآذان بسماع أهوالها ، في ذلك اليوم يشتد الهول ، وينشغل الإنسان بنفسه عن أقرب الناس إليه ، ويفر من أخيه ، وأمه وأبيه ، وزوجته وبنيه ، لقد اشتد الفزع النفسي ، ففرّ الإنسان ممن يفديهم بنفسه في الدار الدنيا ، وقد شغله خوف الحساب ، ومشاهد القيامة ، ومظهر البعث والحشر والجزاء عن كل شيء .
في ذلك اليوم ترى وجوها مستنيرة مشرقة ترجو ثواب ربها ، مطمئنة بما تستشعره من رضاه عنها . وترى وجوها أخرى تغشاها غبرة الحزن والحسرة ، ويعلوها سواد الذلّ والانقباض ، هؤلاء هم الذين جحدوا آيات ربهم ، ولم يؤمنوا بالله ورسله ، وانتهكوا الحرمات وتعدوا حدود الله ، فاستحقوا كلمة العذاب .
1- عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حدث منه مع ابن أم مكتوم الأعمى .
2- ذكر شرف القرآن ، وبيان أنه موعظة لمن عقل وتدبر .
3- إقامة الأدلة على وحدانية الله بخلق الإنسان والنظر في طعامه وشرابه .
{ عبس وتولّى 1 أن جاءه الأعمى 2 وما يدريك لعله يزّكّى 3 أو يذّكّر فتنفعه الذكرى 4 أما من استغنى 5 فأنت له تصدّى 6 وما عليك ألاّ يزّكّى 7 وأما من جاءك يسعى 8 وهو يخشى 9 فأنت عنه تلهّى 10 كلاّ إنها تذكرة 11 فن شاء ذكره 12 في صحف مكرّمة 13 مرفوعة مطهّرة 14 بأيدي سفرة 15 كرام بررة 16 }
عبس : قطّب وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم .
تولى : أعرض بوجهه الشريف صلى الله عليه وسلم .
لعله يزكى : يتطهر بتعليمك من دنس الجهل .
1 ، 2 ، 3 ، 4- عبس وتولّى* أن جاءه الأعمى* وما يدريك لعله يزّكّى* أو يذّكّر فتنفعه الذكرى .
يجئ رجل فقير ضرير ، هو عبد الله بن مكتوم ، وأم مكتوم كنية أمه ، واسمها عاتكة بنت عبد الله المخزومية ، وقد أسلم بمكة قديما ، وكان أعمى ، وقد عمي بعد إبصار ، وقيل : ولد أعمى .
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش وأشرافها ، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم خلق كثير ، فقال ابن أم مكتوم ، يا رسول الله ، أقرئني وعلّمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ، وهو لا يعلم انشغاله صلى الله عليه وسلم بالقوم ، فكره صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه ، وظهرت الكراهية في وجهه ، فعبس وأعرض عنه ، فنزلت هذه الآيات عتابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب ، وفي هذا الأسلوب ، إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند الله بحيث لا يحب سبحانه أن يواجه به نبيه وحبيبه ، عطفا عليه ورحمة به ، وإكراما له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه .
قطّب النبي صلى الله عليه وسلم وجهه وأعرض لأن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى جاء إليه ساعيا ، طالبا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلّمه ، والأعمى لم يكن مشاهدا للأشخاص الذين انشغل النبي صلى الله عليه وسلم بمحاورتهم ومحاولة إقناعهم بالإسلام والقرآن والإيمان .
وما يدريك لعله يزّكّى* أو يذّكّر فتنفعه الذكرى .
وما يعلمك يا محمد ، لعل هذا الأعمى الفقير يصير زاكيا متطهرا من الذنوب بسبب ما يتعلمه منك ، أو يتذكر فيتعظ بما تعلّمه من المواعظ فتنفعه الموعظة .
وكان هذا التصرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثابة ترك الاحتياط وترك الأفضل ، وأراد الحق سبحانه أن يوجّه الأمة كلها في شخص رسولها صلى الله عليه وسلم ، أن تكون العناية بالمخبر لا بالمظهر ، فهذا الأعمى الفقير له رغبة في معرفة الحق وتعلّم أمور الدين ، فالاتجاه إليه وتعليمه أولى من الانشغال بالأغنياء الأقوياء ، المعرضين عن الحق وعن الإسلام .
قال الشيخ محمد عبده في تفسير جزء عمّ ما يأتي :
فكأنه يقول : يا أيها النبيّ ، إن أقبلت فأقبل على العقل الذكيّ ، والقلب النقيّ ، وإياك أن تنصرف عنه إلى ذي الجاه القوي ، والمكان العليّ ، فذلك إنسان بنفسه ، حيّ بطبعه ، وهذا غائب عن حسّه ، معدوم بذاته ، موجود بجمعه ، وفي ذلك من تأديب الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما لو تأدبوا به لكانوا اليوم أرشد الأمم –هداهم الله .
وما يدريك لعله يزّكّى* أو يذّكّر فتنفعه الذكرى .
يتجه التعبير إلى الخطاب ، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم : وما يعلمك يا محمد ، لعل هذا الأعمى الفقير –إذا علّمته- أن يتطهر ، وأن تشرق نفسه ، وأن يسمو قلبه ، أو أن تتسلل الذكرى إلى نفسه ، والموعظة إلى فؤاده ، فتنفعه هذه الذكرى ، وتوجهه إلى الخير والنفع .