{ 123 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
وهذا أيضا إرشاد آخر ، بعدما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال ، أرشدهم إلى أنهم يبدأون بالأقرب فالأقرب من الكفار ، والغلظة عليهم ، والشدة في القتال ، والشجاعة والثبات .
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي : وليكن لديكم علم أن المعونة من اللّه تنزل بحسب التقوى ، فلازموا على تقوى اللّه ، يعنكم وينصركم على عدوكم .
وهذا العموم في قوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ } مخصوص بما إذا كانت المصلحة في قتال غير الذين يلوننا ، وأنواع المصالح كثيرة جدا .
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن الجهاد في سبيل الله ، بدعوة المؤنمين إلى قتال أعدائهم بشدة وغلظة بشدة وغلظة فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ . . . } .
وقوله : { يَلُونَكُمْ } من الولى بمعنى القرب ، تقول جلست مما يلى فلان أى : يقاربه .
قال ابن كثير : أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا ، الأقرب فالأقرب ، إلى حوزة الإِسلام ، ولهذا بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقتل المشكرين في جزيرة العرب ، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة واليمن . . وغير ذلك من أقاليم العرب ، دخل الناس من سائر احياء العرب في دين الله أفواجا ، شرع في قتال أهل الكتاب ، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب ، وأولى الناس بالدعوة إلى الإِسلام لأنهم أهل كتاب ، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس ، وجدب البلاد ، وضيق الحال ، ذلك سنة تسع من الهجرة ، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع ، ثم عاجلته المنية - صلوات الله وسلامه عليه - بعد حجة الوداع بأحد وثمانين يوما وسار خلفاؤه الراشدون من بعده على نهجه .
وقوله { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } أى : وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم ، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا بأخيه المؤمن ، غليظا على عدوه الكافر . قال - تعالى - : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } وفى الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أنا الضحوك القتال " يعنى أنه ضحوك في وجه وليه المؤمن ، قتال لهامة عدوه الكافر .
وقوله : { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } تذييل قصد به خص المؤمنين على التسلح بسلاح الإِيمان والتقوى حتى ينالوا نصر الله وعونه .
أى : واعلموا أن الله - تعالى - مع المتقين بنصره ومعونته ، فاحرصوا على هذه الصفة ليستمر معكم نصره - سبحانه - وعونه .
وإنما أمر الله - تعالى - المؤمنين أن يبدأوا قتالهم مع الأقرب فالأقرب من ديارهم ، لأن القتال شرع لتأمين الدعوة الإِسلامية ، وقد كانت دعوة الإِسلام موجهة إلى القرب فالأقرب ، فكان من الحكمة أن يبدأوا قتالهم مع المجاورين لهم حتى يأموا شرهم ، ولأنه من المعلوم أنه ليس في طاقة المسلمين قتال جميع الكفار ، وغزو جميع البلاد في زمان واحد ، فكان من قرب أولى ممن بعد .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ الْكُفّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله قاتلوا من وليَكم من الكفار دون من بعُد منهم ، يقول لهم : ابدءوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارا دون الأبعد فالأبعد . وكان الذي يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ الروم ، لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ ، والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق . فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد ، فإن الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام ، فإن اضطرّوا إليهم لزم عونهم ونصرهم ، لأن المسلمين يد على من سواهم . ولصحة كون ذلك ، تأوّل كل من تأوّل هذه الآية أن معناها إيجاب الفرض على أهل كلّ ناحية قتال من وليهم من الأعداء . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن شبيب بن غرقدة ، عن عروة البارقي ، عن رجل من بني تميم ، قال : سألت ابن عمر عن قتال الديلم ، قال : عليك بالروم .
حدثنا ابن بشار وأحمد بن إسحاق وسفيان بن وكيع ، قالوا : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن يونس عن الحسن : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ قال : الديلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن : أنه كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم تلا هذه الآية : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا عمران أخي ، قال : سألت جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين ، فقلت : ما ترى في قتال الديلم ؟ فقال : قاتلوهم ورابطوهم ، فإنهم من الذين قال الله : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن الربيع ، عن الحسن أنه سئل عن الشام والديلم ، فقال : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ : الديلم .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد ، قال : سمعت أبا عمرو وسعيد بن عبد العزيز يقولان : يرابط كلّ قوم ما يليهم من مسالحهم وحصونهم . ويتأوّلان قول الله : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ قال : كان الذين يلونهم من الكفار العرب ، فقاتلوهم حتى فرغ منهم . فلما فرغ قال الله : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . . . حتى بلغ : وَهُمْ صَاغِرُونَ قال : فلما فرغ من قتال من يليه من العرب أمره بجهاد أهل الكتاب ، قال : وجهادهم أفضل الجهاد عند الله .
وأما قوله : وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً فإن معناه : وليجد هؤلاء الكفار الذين تقاتلونهم فِيكُمْ أي منكم شدّة عليهم . وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ مَعَ المُتقِينَ يقول : وأيقنوا عند قتالكم إياهم أن الله معكم وهو ناصركم عليهم ، فإن اتقيتم الله وخفتموه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، فإن الله ناصر من اتقاه ومعينه .
{ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بإنذار عشيرته الأقربين ، فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح . وقيل هم يهود حوالي المدينة كقريظة والنضير وخيبر . وقيل الروم فإنهم كانوا يسكنون الشأم وهو قريب من المدينة . { وليجدوا فيكم غلظة } شدة وصبرا على القتال . وقرئ بفتح الغين وضمها وهما لغتان فيها . { واعلموا أن الله مع المتقين } بالحراسة والإعانة .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } الآية ، قيل هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يضعفه هذه الآية من آخر ما نزل ، وقالت فرقة : إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تجاوز قوماً من الكفار غازياً لقوم آخرين أبعد منهم ، فأمر الله تعالى بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة ، وقالت فرقة : الآية مبينة صورة القتال كافة وهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة ، ومعناها أن الله تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجنس الذي يصاقبه{[5975]} من الكفرة ، وهذا هو القتال لكلمة الله ورد الناس إلى الإسلام ، وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المسلمين كفاية عدو ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد ، وقال قائلو هذه المقالة : نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام لأنهم كانوا يومئذ العدو الذي يلي ويقرب إذ كانت العرب قد عمها الإسلام وكانت العراق بعيدة ، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم{[5976]} وغيرهما من الأمم ، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال : عليك بالروم ، وقال الحسن : هم الروم والديلم .
قال القاضي أبو محمد : يعني في زمنه ذلك ، وقاله علي بن الحسين ، وقال ابن زيد : المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب ، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] إلى قوله { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }{[5977]} ، وقرأ جمهور الناس «غِلظة » بكسر الغين ، وقرأ المفضل عن عاصم والأعمش «غَلظة » بفتحها ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبان بن ثعلبة وابن أبي عبلة «غُلظة » بضمها ، وهي قراءة أبي حيوة ورواها المفضل عن عاصم أيضاً ، قال أبو حاتم رويت الوجوه الثلاثة عن أبي عمرو ، وفي هاتين القراءتين شذوذ وهي لغات ، ومعنى الكلام وليجدوا فيكم خشونة وبأساً ، وذلك مقصود به القتال ، ومنه { عذاب غليظ }{[5978]} و { غليظ القلب }{[5979]} و { غلاظ شداد }{[5980]} في صفة الزبانية ، وغلظت علينا كبده في حفر الخندق{[5981]} إلى غير ذلك ، ثم وعد تعالى في آخر الآية وحض على التقوى التي هي ملاك الدين والدنيا وبها يلقى العدو ، وقد قال بعض الصحابة : إنما تقاتلون الناس بأعمالكم وأهلها هم المجدون في طرق الحق فوعد تعالى أنه مع أهل التقوى ومن كان الله معه فلن يغلب .
كان جميع بلاد العرب خلَص للإسلام قبل حجة الوداع ، فكانت تخوم بلاد الإسلام مجاورة لبلاد الشام مقرّ نصارى العرب ، وكانوا تحت حكم الروم ، فكانت غزوة تبوك أول غزوة للإسلام تجاوزت بلاد العرب إلى مشارف الشام ولم يكن فيها قتال ولكن وُضعت الجزية على أيْلَةَ وبُصرى ، وكانت تلك الغزوة إرهاباً للنصارى ، ونزلت سورة براءة عقبها فكانت هذه الآية كالوصية بالاستمرار على غزو بلاد الكفر المجاورة لبلاد الإسلام بحيث كلَّما استقر بلد للإسلام وكان تُجاوره بلاد كفر كان حقاً على المسلمين غزو البلاد المجاورة . ولذلك ابتدأ الخلفاء بفتح الشام ثم العراق ثم فارس ثم انثنوا إلى مصر ثم إلى إفريقية ثم الأندلس .
فالجملةُ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تكملة للأمر بما يتعين على المسلمين في ذيول غزوة تبوك .
وفي توجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي إيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يغزو بعد ذلك وأن أجله الشريف قد اقترب . ولعل في قوله : { واعلموا أن الله مع المتقين } إيماء إلى التسلية على فقد نبيهم عليه الصلاة والسلام وأن الله معهم كقوله في الآية الأخرى { وسيجْزي الله الشاكرين } [ آل عمران : 144 ] .
والغلظة بكسر الغين : الشدة الحسية والخشونة ، وهي مستعارة هنا للمعاملة الضارة ، كقوله : { واغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] . قال في « الكشاف » : وذلك يجمع الجرأة والصبر على القتال والعنف في القتل والأسر . اه .
قلت : والمقصد من ذلك إلقاءُ الرعب في قلوب الأعداء حتى يخشوا عاقبة التصدي لقتال المسلمين .
ومعنى أمر المسلمين بحصول ما يجده الكافرون من غلظة المؤمنين عليهم هو أمر المؤمنين بأن يكونوا أشداء في قتالهم . وهذه مبالغة في الأمر بالشدة لأنه أمر لهم بأن يجد الكفار فيهم الشدة . وذلك الوجدان لا يتحقق إلا إذا كانت الغلظة بحيث تظهر وتَنال العدو فيحِس بها ، كقوله تعالى لموسى : { فلا يَصدَّنَّك عنها من لا يؤمن بها } [ طه : 16 ] . وإنما وقعت هذه المبالغة لِما عليه العدو من القوة ، فإن المقصود من الكفار هنا هم نصارى العرب وأنصارهم الروم ، وهم أصحاب عَدد وعُدد فلا يجدون الشدة من المؤمنين إلا إذا كانت شدة عظيمة .
ومن وراء صريح هذا الكلام تعريض بالتهديد للمنافقين ، إذ قد ظُهر على كفرهم وهم أشد قرباً من المؤمنين في المدينة . وفي هذا السياق جاء قوله تعالى : { يأيها النبيءُ جاهد الكفار والمنافقين واغلُظ عليهم } [ التوبة : 73 ] .
وجملة : { واعلموا أن الله مع المتقين } تأييد وتشجيع ووعد بالنصر إن اتقوا بامتثال الأمر بالجهاد .
وافتتحت الجملة ب { اعلموا } للاهتمام بما يراد العلم به كما تقدم في قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } في سورة الأنفال ( 41 ) . والمعية هنا معية النصر والتأييد ، كقوله تعالى : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } [ التوبة : 40 ] . وهذا تأييد لهم إذ قد علموا قوة الروم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين ءامنوا}، يعني صدقوا بالله عز وجل، {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار يعني الأقرب فالأقرب، {وليجدوا فيكم غلظة}، يعني شدة عليهم، {واعلموا أن الله مع المتقين} في النصر لهم على عدوهم...
... {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار}، قال تفسير هذا: المدينة، الذين يلون هذه القرية، أنزلت هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم يعني الذين آمنوا معه {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} يريد المشركين الذين حول المدينة...
... قال الشافعي: قال الله عز وجل: {قَاتِلُوا اَلذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ اَلْكُفّارِ} قال: ففرض الله جهاد المشركين ثم أبان من الذين نبدأ بجهادهم من المشركين، فأعلمهم أنهم الذين يلون المسلمين، وكان معقولا في فرض الله جهادهم أن أولاهم بأن يجاهد أقربهم بالمسلمين دارا، لأنهم إذا قووا على جهادهم وجهاد غيرهم كانوا على جهاد من قرب منهم أقوى، وكان من قرب أولى أن يجاهد من قربه من عورات المسلمين، وأن نكاية من قرب أكثر من نكاية من بعد. قال: فيجب على الخليفة إذا استوت حال العدو، أو كانت بالمسلمين عليهم قوة، أن يبدأ بأقرب العدو من ديار المسلمين لأنهم الذين يلونهم، ولا يتناول من خلفهم من طريق المسلمين على عدو دونه حتى يحكم أمر العدو دونه بأن يسلموا، أو يعطوا الجزية إن كانوا أهل كتاب. وأحب له إن لم يرد تناول عدو وراءهم، ولم يطل على المسلمين عدو، أن يبدأ بأقربهم من المسلمين لأنهم أولى باسم الذين يلون المسلمين. وإن كان كل يلي طائفة من المسلمين فلا أحب أن يبدأ بقتال طائفة تلي قوما من المسلمين دون آخرين، وإن كانت أقرب منهم من الأخرى إلى قوم غيرهم.
فإن اختلف حال العدو، فكان بعضهم أنكى من بعض، أو أخوف من بعض، فليبدأ الإمام بالعدو الأخوف أو الأنكى، ولا بأس أن يفعل وإن كانت داره أبعد إن شاء الله تعالى حتى يخاف ممن بدأ به مما لا يخاف من غيره مثله، وتكون هذه بمنزلة ضرورة، لأنه يجوز في الضرورة ما لا يجوز في غيرها. وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عن الحارث بن أبي ضرار أنه يجمع له، فأغار النبي صلى الله عليه وسلم عليه وقربه عدو أقرب منه. وبلغه أن خالد بن سفيان بن شح يجمع له، فأرسل ابن أنيس فقتله، وقربه عدو أقرب. (الأم: 4/168. ون أحكام الشافعي: 2/29-30.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله قاتلوا من وليَكم من الكفار دون من بعُد منهم، يقول لهم: ابدأوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارا دون الأبعد فالأبعد. وكان الذي يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ الروم، لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ، والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام، فإن اضطرّوا إليهم لزم عونهم ونصرهم، لأن المسلمين يد على من سواهم. ولصحة كون ذلك، تأوّل كل من تأوّل هذه الآية أن معناها إيجاب الفرض على أهل كلّ ناحية قتال من وليهم من الأعداء...
وأما قوله:"وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً" فإن معناه: وليجد هؤلاء الكفار الذين تقاتلونهم "فِيكُمْ "أي منكم شدّة عليهم. "وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ مَعَ المُتقِينَ" يقول: وأيقنوا عند قتالكم إياهم أن الله معكم وهو ناصركم عليهم، فإن اتقيتم الله وخفتموه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، فإن الله ناصر من اتقاه ومعينه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... قال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا ربما كان تجاوز كفارا وتركهم وراءه، وقاتل غيرهم ليكون ذلك آية لنبوته، وليعلم أنه لا يبالي بمن يقاتل، ولا يخاف من تركهم وراءه، ثم أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الأقرب فالأقرب منهم والأدنى، و ألا يتركوا العدو وراءهم، إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل. وأمكن أن يكون هذا تعليما من الله المؤمنين أمر الحرب وأسبابه كما علمهم جميع ما يقع لهم من الحاجة إلى أسباب الحرب في غير آية من القرآن: من ذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا) [الأنفال: 45] وقوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا) الآية [الأنفال: 15] وقوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) الآية [الأنفال: 60] وغير ذلك من الآيات. أو يحتمل أن يكون أمر بقتال الأقرب منهم كسائر العبادات. وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ) يخرج على وجهين: أحدهما: ما ذكرنا أنه يخرج على أمر القتال منه للمؤمنين. والثاني: إنباء عن دوام الجهاد والقتال مع الأعداء أبدا لأنهم كلما فتحوا ناحية، وقاتلوا قوما صار الذين بقوا وراء هؤلاء الذي يلونهم...
{وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} فيه أمْرٌ بالغِلْظَةِ على الكفار الذين أمرنا بقتالهم في القول والمناظرة والرسالة، إذ كان ذلك يوقع المهابة لنا في صدورهم والرعب في قلوبهم ويستشعرون منا به شدة الاستبصار في الدين والجدّ في قتال المشركين، ومتى أظهروا لهم اللين في القول المحاورة استجرؤوا عليهم وطمعوا فيهم، فهذا حَدُّ ما أمر الله به المؤمنين من السيرة في عدوهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يَلُونَكُمْ} يقربون منكم، والقتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب. ونظيره {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، ثم غيرهم من عرب الحجاز، ثم غزا الشام...
وقرئ: «غلظة» بالحركات الثلاث، فالغلظة كالشدّة، والغلظة كالضغطة، والغلظة كالسخطة ونحوه {واغلظ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] {وَلاَ تَهِنُواْ} [آل عمران: 139] وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال وشدّة العداوة والعنف في القتل والأسر، ومنه {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} [النور: 2]. {مَعَ المتقين} ينصر من اتقاه فلم يترأف على عدّوه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... ثم وعد تعالى في آخر الآية وحض على التقوى التي هي ملاك الدين والدنيا وبها يلقى العدو، وقد قال بعض الصحابة: إنما تقاتلون الناس بأعمالكم وأهلها هم المجدون في طرق الحق فوعد تعالى أنه مع أهل التقوى ومن كان الله معه فلن يغلب.
اعلم أنه نقل عن الحسن أنه قال: هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة، ثم إنها صارت منسوخة بقوله: {قاتلوا المشركين كافة} وأما المحققون فإنهم أنكروا هذا النسخ وقالوا: إنه تعالى لما أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم في ذلك الباب إلى الطريق الأصوب الأصلح، وهو أن يبتدؤوا من الأقرب فالأقرب، منتقلا إلى الأبعد فالأبعد. ألا ترى أن أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب قال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب لأنه عليه السلام حارب قومه، ثم انتقل منهم إلى غزو سائر العرب ثم انتقل منهم إلى غزو الشام، والصحابة رضي الله عنهم لما فرغوا من أمر الشام دخلوا العراق.
وإنما قلنا: إن الابتداء بالغزو من المواضع القريبة أولى لوجوه:
الأول: أن مقابلة الكل دفعة واحدة متعذرة، ولما تساوى الكل في وجوب القتال لما فيهم من الكفر والمحاربة وامتنع الجمع، وجب الترجيح، والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة، وكما في سائر المهمات، ألا ترى أن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الابتداء بالحاضر أولى من الذهاب إلى البلاد البعيدة لهذا المهم، فوجب الابتداء بالأقرب.
والثاني: أن الابتداء بالأقرب أولى لأن النفقات فيه أقل، والحاجة إلى الدواب والآلات والأدوات أقل.
الثالث: أن الفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فقد عرضوا الذراري للفتنة.
الرابع: أن المجاورين لدار الإسلام إما أن يكونوا أقوياء أو ضعفاء، فإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد وأكثر من تعرض الكفار المتباعدين، والشر الأقوى الأكثر أولى بالدفع، وإن كانوا ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل، وحصول عز الإسلام لسبب انكسارهم أقرب وأيسر، فكان الابتداء بهم أولى.
الخامس: أن وقوف الإنسان على حال من يقرب منه أسهل من وقوفه على حال من يبعد منه، وإذا كان كذلك كان اقتدار المسلمين على مقاتلة الأقربين أسهل لعلمهم بكيفية أحوالهم وبمقادير أسلحتهم وعدد عساكرهم.
السادس: أن دار الإسلام واسعة، فإذا اشتغل أهل كل بلد بقتال من يقرب منهم من الكفار كانت المؤنة أسهل، وحصول المقصود أيسر.
السابع: أنه إذا اجتمع واجبان وكان أحدهما أيسر حصولا وجب تقديمه، والقرب سبب السهولة، فوجب الابتداء بالأقرب.
الثامن: أنا بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ في الدعوة بالأقرب فالأقرب، وفي الغزو بالأقرب فالأقرب، وفي جميع المهمات كذلك. فإن الأعرابي لما جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال عليه السلام له: «كل مما يليك» فدلت هذه الوجوه على أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب.
فإن قيل: ربما كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح، لأن الأبعد يقع في قلبه أنه إنما جاوز الأقرب لأنه لا يقيم له وزنا.
قلنا: ذاك احتمال واحد، وما ذكرنا احتمالات كثيرة، ومصالح الدنيا مبنية على ترجيح ما هو أكثر مصلحة على ما هو الأقل، وهذا الذي قلناه إنما قلناه إذا تعذر الجمع بين مقاتلة الأقرب والأبعد، أما إذا أمكن الجمع بين الكل، فلا كلام في أن الأولى هو الجمع، فثبت أن هذه الآية غير منسوخة البتة.
وأما قوله تعالى: {وليجدوا فيكم غلظة}... وهذه الآية تدل على الأمر بالتغليظ عليهم، ونظيره قوله تعالى: {واغلظ عليهم} وقوله: {ولا تهنوا} وقوله في صفة الصحابة رضي الله عنهم: {أعزة على الكافرين} وقوله: {أشداء على الكفار} وللمفسرين عبارات في تفسير الغلظة، قيل شجاعة وقيل شدة وقيل غيظا.
واعلم أن الغلظة ضد الرقة، وهي الشدة في إحلال النقمة، والفائدة فيها أنها أقوى تأثيرا في الزجر والمنع عن القبيح، ثم إن الأمر في هذا الباب لا يكون مطردا، بل قد يحتاج تارة إلى الرفق واللطف وأخرى إلى العنف، ولهذا السبب قال: {وليجدوا فيكم غلظة} تنبيها على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة البتة فإنه ينفر ويوجب تفرق القوم، فقوله: {وليجدوا فيكم غلظة} يدل على تقليل الغلظة، كأنه قيل لابد وأن يكونوا بحيث لو فتشوا على أخلاقكم وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة، وهذا الكلام إنما يصح فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة، ومع ذلك فلا يخلو عن نوع غلظة.
واعلم أن هذه الغلظة إنما تعتبر فيما يتصل بالدعوة إلى الدين. وذلك إما بإقامة الحجة والبينة، وإما بالقتال والجهاد، فإما أن يحصل هذا التغليظ فيما يتصل بالبيع والشراء والمجالسة والمؤاكلة فلا.
ثم قال: {واعلموا أن الله مع المتقين} والمراد أن يكون إقدامه على الجهاد والقتال بسبب تقوى الله، لا بسبب طلب المال والجاه، فإذا رآه قبل الإسلام أحجم عن قتاله، وإذا رآه مال إلى قبوله الجزية تركه، وإذا كسر العدو أخذ الغنائم على وفق حكم الله تعالى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
اعلم أن هذه الآية قاعدة من قواعد القتال الذي نزلت أهم قواعده وأحكامه في هذه السورة والتي قبلها، وإنما وضع ههنا على سنة القرآن في تفريق الموضوع الواحد الكثير الأحكام في مواضع متفرقة، وبينا حكمته آنفا عودا على بدء.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّار} أي الذين يدنون منكم وتتصل بلادهم ببلادكم، وذلك أن القتال شرع لتأمين الدعوة إلى الإسلام وحرية الدين والدفاع عن أهله، وقد كانت الدعوة موجهة إلى الأقرب فالأقرب من الكفار كما قال تعالى لرسوله {لتنذر أم القرى ومن حولها} [الشورى: 7]، وقال لأهل مكة {وأوحى إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19]، أي وكل من بلغته دعوته، بل أمره أن يخص الأقرب إليه في النسب من أهل بلده أم القرى فقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]...
وترجيح البدء بالأقرب فالأقرب معقول من وجوه كثيرة، كالحاجة والإمكان والسهولة والنفقة، ولذلك كانت القاعدة فيه عامة في الدعوة والقتال والنفقات والصدقات، وكذا ما يدار في المجلس من شراب ونحوه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي من على يمينه وإن لم يكن أفضل الجالسين، ثم الذي يليه فالذي يليه، وأمر بأن يأكل الإنسان مما يليه. وإنما تطرد القاعدة في الحالة العادية، وأما ما يعرض من ضرورة في كل ذلك فله حكمه، فأحكام الضرورات مستثناة في الواجبات والمحرمات والآداب.
{ولْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أي وليجدوا فيكم شدة وخشونة في القتال ومتعلقاته كما تقدم في تفسير آية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ والْمُنَافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] (ج 10)، والغلظة على المقاتلين في زمن الحرب من مقتضيات الطبيعية والمصلحة، وتنكيرها في الآية يدل على أن لأولي الأمر أن يحددوها في كل زمن وكل حال بما يتفق مع المصلحة، وإنما أمروا بها على كونها طبيعية لتقييد ما أمروا به في الأحوال العامة من الرفق والعدل والبر في معاملة الكفار، حتى صار ذلك من أخلاق الإسلام، وأمر القتال مبني على الشدة والغلظة في كل الأمم، وقد حرم فظائعها الإسلام كما تقدم في تفسير سورة الأنفال، وقد بلغت فظائعها عند الإفرنج في هذا العصر ما يخشى أن يفضي إلى تدمير العمران كله.
{واعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} له مراعاة أحكامه وسننه بالمعونة والنصر، وأهمها ما يجب اتقاؤه في الحرب، من التقصير في أسباب النصر والغلب التي بينها في كتابه، والتي تعرف بالعلم والتجارب، كإعداد ما يستطاع من قوة، والصبر والثبات، والطاعة والنظام، وترك التنازع والاختلاف، وكثرة ذكر الله، والتوكل عليه فيما وراء الأسباب، وقد بينا حقيقة معنى التقوى وأنواعها، واختلاف المراد منها باختلاف مواضعها في تفسير (29:8 ج 9).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك ترد آية تضع خطة الحركة الجهادية ومداها كذلك. وهما الخطة والمدى اللذان سار عليهما رسول الله [ص] وخلفاؤه من بعده بصفة عامة، فلم تشذ عنها إلا حالات كانت لها مقتضيات واقعة: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين).. فأما خطة الحركة الجهادية التي تشير إليها الآية في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار).. فقد سارت عليها الفتوح الإسلامية، تواجه من يلون "دار الإسلام "ويجاورونها، مرحلة فمرحلة. فلما أسلمت الجزيرة العربية -أو كادت ولم تبق إلا فلول منعزلة لا تؤلف قوة يخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة- كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم. ثم كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس، فلم يتركوا وراءهم جيوبا؛ ووحدت الرقعة الإسلامية، ووصلت حدودها، فإذا هي كتلة ضخمة شاسعة الأرجاء، متماسكة الأطراف؛ .. ثم لم يأتها الوهن فيما بعد إلا من تمزقها، وإقامة الحدود المصطنعة فيما بينها على أساس ملك البيوت، أو على أساس القوميات! وهي خطة عمل أعداء هذا الدين على التمكين لها جهد طاقتهم وما يزالون يعملون. وستظل هذه الشعوب التي جعل منها الإسلام "أمة واحدة" في "دار الإسلام" المتصلة الحدود -وراء فواصل الأجناس واللغات والأنساب والألوان- ستظل ضعيفة مهيضة إلا أن تثوب إلى دينها، وإلى رايته الواحدة؛ وإلا أن تتبع خطى رسول الله [ص] وتدرك أسرار القيادة الربانية التي كفلت لها النصر والعز والتمكين. ونقف مرة أخرى أمام قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين)..
فنجد أمرا بقتال الذين يلون المسلمين من الكفار. لا يذكر فيه أن يكونوا معتدين على المسلمين ولا على ديارهم.. وندرك أن هذا هو الأمر الأخير، الذي يجعل "الانطلاق" بهذا الدين هو الأصل الذي ينبثق منه مبدأ الجهاد، وليس هو مجرد "الدفاع" كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد بإقامة الدولة المسلمة في المدينة..
ويريد بعض الذين يتحدثون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام، وعن أحكام الجهاد في الإسلام، وبعض الذين يتعرضون لتفسير آيات الجهاد في القرآن.. أن يتلمسوا لهذا النص النهائي الأخير قيدا من النصوص المرحلية السابقة؛ فيقيدوه بوقوع الاعتداء أو خوف الاعتداء! والنص القرآني بذاته مطلق، وهو النص الأخير! وقد عودنا البيان القرآني عند إيراد الأحكام، أن يكون دقيقا في كل موضع؛ وألا يحيل في موضع على موضع؛ بل يتخير اللفظ المحدد؛ ويسجل التحفظات والاستثناءات والقيود والتخصيصات في ذات النص. إن كان هناك تحفظ أو استثناء أو تقييد أو تخصيص.
ولقد سبق لنا في تقديم السورة في الجزء العاشر، وفي تقديم آيات القتال مع المشركين والقتال مع أهل الكتاب، أن فصلنا القول في دلالة النصوص والأحكام المرحلية والنصوص والأحكام النهائية على طبيعة المنهج الحركي للإسلام فحسبنا ما ذكرناه هناك. إلا أن الذين يكتبون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام، وعن أحكام الجهاد في الإسلام، والذين يتصدون لتفسير الآيات المتضمنة لهذه الأحكام، يتعاظمهم ويهولهم أن تكون هذه هي أحكام الإسلام! وأن يكون الله -سبحانه- قد أمر الذين آمنوا أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار، وأن يظلوا يقاتلون من يلونهم من الكفار، كلما وجد هناك من يلونهم من الكفار!.. يتعاظمهم ويهولهم أن يكون الأمر الإلهي هكذا، فيروحون يتلمسون القيود للنصوص المطلقة؛ ويجدون هذه القيود في النصوص المرحلية السابقة!
إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في "سبيل الله".. جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله.. جهاد لتحرير" الإنسان "من العبودية لغير الله، ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد.. (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله).. وأنه ليس جهادا لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله. إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد! وليس جهادا لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم، إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد! وليس جهادا لإقامة مملكة لعبد، إنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض.. ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في" الأرض "كلها، لتحرير" الإنسان "كله. بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها.. فكلها" أرض "يسكنها" الإنسان "وكلها فيها طواغيت تعبد العباد للعباد! وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعا أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج، وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم.. إنها في هذا الوضع لا تستساغ! وهي فعلا لا تستساغ!.. لولا أن الأمر ليس كذلك. وليس له شبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش! إنها كلها اليوم أنظمة بشرية. فليس لواحد منها أن يقول: إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء! وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية؛ ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعا من ذلة العبودية للعباد؛ ويرفع البشر جميعا إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك!
ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوما صليبيا منظما لئيما ماكرا خبيثا يقول لهم: إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف، وأن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية؛ وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد! والمسألة على هذا الوضع لا تكون مستساغة.. لولا أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق.. إن الإسلام يقوم على قاعدة: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).. ولكن لماذا ينطلق إذن بالسيف مجاهدا؛ ولماذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون)؟.. إنه لأمر آخر غير الإكراه على العقيدة كان هذا الجهاد.. بل لأمر مناقض تماما للإكراه على العقيدة.. إنه لضمان حرية الاعتقاد كان هذا الجهاد!.. لأن الإسلام كإعلان عام لتحرير" الإنسان "في" الأرض "من العبودية للعباد؛ يواجه دائما طواغيت في الأرض يخضعون العباد للعباد. ويواجه دائما أنظمة تقوم على أساس دينونة العبيد للعبيد؛ تحرس هذه الأنظمة قوة الدولة أو قوة تنظيمية في صورة من الصور؛ وتحول دون الناس في داخلها ودون سماع الدعوة الإسلامية؛ كما تحول دونهم ودون اعتناق العقيدة إذا ارتضتها نفوسهم، أو تفتنهم عنها بشتى الوسائل.. وفي هذا يتمثل انتهاك حرية الاعتقاد بأقبح أشكاله.. ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف ليحطم هذه الأنظمة، ويدمر هذه القوى التي تحميها.. ثم ماذا؟.. ثم يترك الناس -بعد ذلك- أحرارا حقا في اختيار العقيدة التي يريدونها. إن شاءوا دخلوا في الإسلام، فكان لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات، وكانوا إخوانا في الدين للسابقين في الإسلام! وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية، إعلانا عن استسلامهم لانطلاق الدعوة الإسلامية بينهم بلا مقاومة؛ ومشاركة منهم في نفقات الدولة المسلمة التي تحميهم من اعتداء الذين لم يستسلموا بعد، وتكفل العاجز منهم والضعيف والمريض كالمسلمين سواء بسواء. إن الإسلام لم يكره فردا على تغيير عقيدته؛ كما انطلقت الصليبية على مدار التاريخ تذبح وتقتل وتبيد شعوبا بأسرها -كشعب الأندلس قديما وشعب زنجبار حديثا- لتكرههم على التنصر. وأحيانا لا تقبل منهم حتى التنصر، فتبيدهم لمجرد أنهم مسلمون.. وأحيانا لمجرد أنهم يدينون بمذهب نصراني مخالف لمذهب الكنيسة الرسمية.. وقد ذهب مثلا اثنا عشر ألفا من نصارى مصر ضحايا بصور بشعة إذ أحرقوا أحياء على نار المشاعل لمجرد مخالفتهم لجزئية اعتقادية عن كنيسة روما تتعلق بانبثاق الروح القدس من الآب فقط، أو من الآب والابن معا! أو يتعلق بما إذا كان للمسيح طبيعة واحدة لاهوتية، أو طبيعة لاهوتية ناسوتية... إلى آخر هذه الجزيئات الاعتقادية الجانبية! وأخيرا فإن صورة الانطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحيا في هذا الزمان وتتعاظمهم؛ لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الانطلاق فيهولهم الأمر.. وهو يهول فعلا!.. فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين، وهم شعوب مغلوبة على أمرها؛ أو قليلة الحيلة عموما! هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعا بالقتال، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؟! إنه لأمر لا يتصور عقلا.. ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلا! ولكن فات هؤلاء جميعا أن يروا متى كان هذا الأمر؟ وفي أي ظرف؟ لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله؛ دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين، ونظمت على أساسه. وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق، فنصرها الله يوما بعد يوم، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة.. وأن الزمان قد استدار اليوم كهيئته يوم بعث الله محمدا [صلى الله عليه وسلم] ليدعو الناس -في جاهليتهم- إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فجاهد والقلة التي معه حتى قامت الدولة المسلمة في المدينة. وأن الأمر بالقتال مر بمراحل وأحكام مترقية حتى انتهى إلى تلك الصورة الأخيرة.. وأن بين الناس اليوم وهذه الصورة أن يبدأوا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول.. ثم يصلوا -يوم أن يصلوا- إلى هذه الصورة الأخيرة بإذن الله.. ويومئذ لن يكونوا هم هذا الغثاء الذي تتقاسمه المذاهب والمناهج والأهواء؛ والذي تتقاسمه الرايات القومية والجنسية والعنصرية. ولكنهم سيكونون العصبة المسلمة الواحدة التي ترفع راية: لا إله إلا الله. ولا ترفع معها راية أخرى ولا شعارا، ولا تتخذ لها مذهبا ولا منهجا من صنع العبيد في الأرض؛ إنما تنطلق باسم الله وعلى بركة الله.. إن الناس لا يستطيعون أن يفقهوا أحكام هذا الدين، وهم في مثل ما هم فيه من الهزال! إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض ومكافحة ألوهية الطواغيت! إن فقه هذا الدين لا يجوز أن يؤخذ عن القاعدين، الذين يتعاملون مع الكتب والأوراق الباردة! إن فقه هذا الدين فقه حياة وحركة وانطلاق. وحفظ ما في متون الكتب. والتعامل مع النصوص في غير حركة، لا يؤهل لفقه هذا الدين، ولم يكن مؤهلا له في يوم من الأيام!
ولكنه ينبغي أن نعرف وأن يعرف الناس جميعا أنها الغلظة على الذين من شأنهم أن يحاربوا وحدهم -وفي حدود الآداب العامة لهذا الدين- وليست هي الغلظة المطلقة من كل قيد وأدب! إنه قتال يسبقه إعلان، وتخيير بين: قبول الإسلام، أو أداء الجزية، أو القتال.. ويسبقه نبذ العهد إن كان هناك عهد -في حالة الخوف من الخيانة- [والأحكام النهائية تجعل العهد لأهل الذمة الذين يقبلون مسالمة الإسلام وأداء الجزية؛ ولا عهد في غير هذه الحالة إلا أن يكون بالمسلمين ضعف يجعل الحكم المتعين في حالتهم هذه هو الحكم المرحلي الذي كان في حالة تشبه الحالة التي هم فيها].
وهذه آداب المعركة كلها، من وصية رسول الله [صلى الله عليه وسلم]:
عن بريدة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال:"اغزوا باسم الله، في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا. فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ادعهم إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم من الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. وإن هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم..."... [أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي]. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فنهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن قتل النساء والصبيان.. [أخرجه الشيخان]. وأرسل النبي [صلى الله عليه وسلم] معاذ بن جبل -رضي الله عنه- إلى أهل اليمن معلما فكانت وصيته له: "إنك تأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله. فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم. فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب" وأخرج أبو داود -بإسناده- عن رجل من جهينة. أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: "لعلكم تقاتلون قوما فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم، فيصالحونكم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك، فإنه لا يصلح لكم". وعن العرباض بن سارية قال:"نزلنا مع رسول الله قلعة خيبر، ومعه من معه من المسلمين. وكان صاحب خيبر رجلا ماردا متكبرا. فأقبل إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] فقال: يا محمد! لكم أن تذبحوا حمرنا، وتأكلوا ثمرنا، وتضربوا نساءنا؟ فغضب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقال: يا ابن عوف اركب فرسك، ثم ناد: إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة. فاجتمعوا، ثم صلى بهم، ثم قام فقال: أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما في القرآن! ألا وإني قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن أو أكثر. وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوا الذي عليهم". ورفع إليه [صلى الله عليه وسلم] بعد إحدى المواقع أن صبية قتلوا بين الصفوف، فحزن حزنا شديدا، فقال بعضهم: ما يحزنك يا رسول الله وهم صبية للمشركين؛ فغضب النبي [صلى الله عليه وسلم]؛ وقال -ما معناه- إن هؤلاء خير منكم، إنهم على الفطرة، أو لستم أبناء المشركين. فإياكم وقتل الأولاد إياكم وقتل الأولاد. وهذه التعليمات النبوية هي التي سار عليها الخلفاء بعده: روى مالك عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال: ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما وقال زيد بن وهب: أتانا كتاب عمر -رضي الله عنه- وفيه: "لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا، واتقوا الله في الفلاحين". ومن وصاياه!" ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات". وهكذا تتواتر الأخبار بالخط العام الواضح لمستوى المنهج الإسلامي في قتاله لأعدائه، وفي آدابه الرفيعة، وفي الرعاية لكرامة الإنسان. وفي قصر القتال على القوى المادية التي تحول بين الناس وبين أن يخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وفي اليسر الذي يعامل به حتى أعداءه. أما الغلظة فهي الخشونة في القتال والشدة؛ وليست هي الوحشية مع الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة، غير المحاربين أصلا؛ وليست تمثيلا بالجثث والأشلاء على طريقة المتبربرين الذين يسمون أنفسهم متحضرين في هذا الزمان. وقد تضمن الإسلام ما فيه الكفاية من الأوامر لحماية غير المحاربين، ولاحترام بشرية المحاربين. إنما المقصود هو الخشونة التي لا تميع المعركة؛ وهذا الأمر ضروري لقوم أمروا بالرحمة والرأفة في توكيد وتكرار فوجب استثناء حالة الحرب، بقدر ما تقتضي حالة الحرب، دون رغبة في التعذيب والتمثيل والتنكيل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كان جميع بلاد العرب خلَص للإسلام قبل حجة الوداع، فكانت تخوم بلاد الإسلام مجاورة لبلاد الشام مقرّ نصارى العرب، وكانوا تحت حكم الروم، فكانت غزوة تبوك أول غزوة للإسلام تجاوزت بلاد العرب إلى مشارف الشام ولم يكن فيها قتال ولكن وُضعت الجزية على أيْلَةَ وبُصرى، وكانت تلك الغزوة إرهاباً للنصارى، ونزلت سورة براءة عقبها فكانت هذه الآية كالوصية بالاستمرار على غزو بلاد الكفر المجاورة لبلاد الإسلام بحيث كلَّما استقر بلد للإسلام وكان تُجاوره بلاد كفر كان حقاً على المسلمين غزو البلاد المجاورة. ولذلك ابتدأ الخلفاء بفتح الشام ثم العراق ثم فارس ثم انثنوا إلى مصر ثم إلى إفريقية ثم الأندلس. فالجملةُ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تكملة للأمر بما يتعين على المسلمين في ذيول غزوة تبوك. وفي توجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي إيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يغزو بعد ذلك وأن أجله الشريف قد اقترب. ولعل في قوله: {واعلموا أن الله مع المتقين} إيماء إلى التسلية على فقد نبيهم عليه الصلاة والسلام وأن الله معهم كقوله في الآية الأخرى {وسيجْزي الله الشاكرين} [آل عمران: 144]
والغلظة بكسر الغين: الشدة الحسية والخشونة، وهي مستعارة هنا للمعاملة الضارة...قلت: والمقصد من ذلك إلقاءُ الرعب في قلوب الأعداء حتى يخشوا عاقبة التصدي لقتال المسلمين. ومعنى أمر المسلمين بحصول ما يجده الكافرون من غلظة المؤمنين عليهم هو أمر المؤمنين بأن يكونوا أشداء في قتالهم. وهذه مبالغة في الأمر بالشدة لأنه أمر لهم بأن يجد الكفار فيهم الشدة. وذلك الوجدان لا يتحقق إلا إذا كانت الغلظة بحيث تظهر وتَنال العدو فيحِس بها، كقوله تعالى لموسى: {فلا يَصدَّنَّك عنها من لا يؤمن بها} [طه: 16]. وإنما وقعت هذه المبالغة لِما عليه العدو من القوة، فإن المقصود من الكفار هنا هم نصارى العرب وأنصارهم الروم، وهم أصحاب عَدد وعُدد فلا يجدون الشدة من المؤمنين إلا إذا كانت شدة عظيمة.
ومن وراء صريح هذا الكلام تعريض بالتهديد للمنافقين، إذ قد ظُهر على كفرهم وهم أشد قرباً من المؤمنين في المدينة. وفي هذا السياق جاء قوله تعالى: {يأيها النبيءُ جاهد الكفار والمنافقين واغلُظ عليهم} [التوبة: 73].
وافتتحت الجملة ب {اعلموا} للاهتمام بما يراد العلم به...والمعية هنا معية النصر والتأييد، كقوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40]
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
... وكلمة {الغلظة} إذن لا تعني القسوة، ومجاوزة الحدود، بقدر ما تعني الشجاعة في القتال، وضبط الأعصاب عند مواجهة العدو، فالجهاد الإسلامي كان ولا يزال هو المثل الأعلى للحرب الإنسانية في أهدافها، والأخلاقية في تصرفاتها، فلا تمثيل بالقتلى، ولا قتل للجرحى، ولا تعذيب لأسرى، ولا تحريق للزرع، ولا تضييع للضرع، ولا اعتداء على الأطفال والنساء والعجزة، ولا إهانة للرهبان في دياراتهم وصوامعهم، ولا حرب مع البعيد عن ميدان المعركة من المدنيين، وإنما الحرب منحصرة كلها في جبهة القتال، ومع حاملي السلاح المقاتلين، وأعوانهم المساعدين، فهذا هو الجهاد الإسلامي الصحيح.
وقوله تعالى في نفس هذا السياق {واعلموا أن الله مع المتقين} إشارة إلى أن جهاد المسلمين لا يؤتي ثمرته المرجوة إلا إذا كان القائمون به من الجند، والمشرفون عليه من القادة، معتصمين بتقوى الله قولا وعملا، سرا وجهرا. أما العصاة المذنبون فإنهم يفقدون أهم سلاح في المعركة، وهو سلاح التقوى المنبثقة من الإيمان، وما تستتبعه من رضا الله ومدده القوي ولطفه الخفي. قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية:"فكلما قام ملك من ملوك الإسلام وأطاع أوامر الله، وتوكل على الله، فتح الله عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسب ذلك، وبقدر ما فيه من ولاية لله".