ثم بين - سبحانه - أنه لن يضيع شيئا مما قدموه من أعمال صالحة ، بل سيكافئهم على ذلك بما هو أفضل وأبقى فقال : { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ } أى أن هؤلاء الذين وصفهم بتلك الصفات الطيبة لن يضيع الله شيئا مما قدموه من عمل صالح ، وإنما سيجازيهم بما هم أهله من ثواب جزيل ، وأجر كبير بدون أى نقصان أو حرمان .
و { وَمَا } فى قوله : { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } شرطية . وفعل الشرط قوله : { يَفْعَلُواْ } وجوابه قوله : { فَلَنْ يُكْفَروهُ } .
و { مِنْ } فى قوله : { مِنْ خَيْرٍ } لتأكيد العموم أى ما يفعلوا من أى خير سواء أكان قليلا أم كثيرا فلن يحرموا ثوابه .
وأصل الكفر : الستر والتغطية . وقد صح تعدية الفعل كفر إلى مفعولين لأنه هنا بمعنى حرم .
ولذا قال صاحب الكشاف : فغن قلت لم عدى إلى مفعولين ، وشكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد تقول : شكر النعمة وكفرها ؟ قلت : ضمن معنى الحرمان فكأنه قيل : فلن يحرموه بمعنى : فلن يحرموا جزاءه " .
وقوله : { والله عَلِيمٌ بالمتقين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله . أى هو - سبحانه - عليم بأحوال عباده وسيجازى التمقين بما يستحقون من ثواب ، وسيجازى الكافرين بما يستحقون من عقاب .
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد أنصفت المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب ، ووصفتهم بجملة من الصفات الطيبة .
وصفتهم بأنهم طائفة ثابتة على الحق . وأنهم يتلون آيات آناء الليل وأطراف النهار ، وأنهم مكثرون من التضرع إلى الله فى صلواتهم وسجودهم ، وأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر وأنهم يأمرون بالمعروف ، وأنهم ينهون عن المنكر . وأنهم يسارعون فى الخيرات ، وأنهم من الصالحين .
ثم بشرهم - سبحانه - بعد وصفهم بهذه الصفات الكريمة بأن ما يقدموه من خير فلن يحرموا ثوابه ، لأنه - سبحانه - عليم بأحوال عباده ولن يضيع أجر من أحسن عملا .
وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتّقِينَ
اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الكوفة : { وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْر فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } جميعا ، ردّا على صفة القوم الذين وصفهم جلّ ثناؤه بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وقرأته عامة قراء المدينة والحجاز وبعض قراء الكوفة بالتاء في الحرفين جميعا : { وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفُرُوهُ } بمعنى : وما تفعلوا أنتم أيها المؤمنون من خير فلن يكفركموه ربكم . وكان بعض قراء البصرة يرى القراءتين في ذلك جائزا بالياء والتاء في الحرفين .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : { وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } بالياء في الحرفين كليهما ، يعني بذلك الخبر عن الأمة القائمة ، التالية آيات الله . وإنما اخترنا ذلك ، لأن ما قبل هذه الاَية من الاَيات خبر عنهم ، فإلحاق هذه الاَية إذ كان لا دلالة فيها تدلّ على الانصراف عن صفتهم بمعاني الاَيات قبلها أولى من صرفها عن معاني ما قبلها . وبالذي اخترنا من القراءة كان ابن عباس يقرأ .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن أبي عمرو بن العلاء ، قال : بلغني عن ابن عباس أنه كان يقرؤها جميعا بالياء .
فتأويل الاَية إذًا على ما اخترنا من القراءة : وما تفعل هذه الأمة من خير ، وتعمل من عمل لله فيه رضا فلن يكفرهم الله ذلك¹ يعني بذلك : فلن يبطل الله ثواب عملهم ذلك ، ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم عليه ، ولكنه يجزل لهم الثواب عليه ، ويُسني لهم الكرامة والجزاء .
وقد دللنا على معنى الكفر مضى قبل بشواهده ، وأن أصله تغطية الشيء ، فكذلك ذلك في قوله : { فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } : فلن يغطي على ما فعلوا من خير ، فيتركوا بغير مجازاة ، ولكنهم يشكرون على ما فعلوا من ذلك ، فيجزل لهم الثواب فيه .
وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل تأوّل ذلك من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ » يقول : لن يضلّ عنكم .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بمثله .
وأما قوله : { وَاللّهُ عَليمٌ بالمُتّقِينَ } فإنه يقول تعالى ذكره : والله ذو علم بمن اتقاه بطاعته ، واجتناب معاصيه ، وحافظ أعمالهم الصالحة حتى يثيبهم عليها ، ويجازيهم بها . تبشيرا منه لهم جلّ ذكره في عاجل الدنيا ، وحضّا لهم على التمسك بالذي هم عليه من صالح الأخلاق التي ارتضاها لهم .
{ وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } فلن يضيع ولا ينقص ثوابه البتة ، سمي ذلك كفرانا كما سمي توفية الثواب شكرا وتعديته إلى مفعولين لتضمنه معنى الحرمان وقرأ حفص وحمزة والكسائي { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } بالياء والباقون بالتاء { والله عليم بالمتقين } بشارة لهم وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل وأن الفائز عند الله هو أهل التقوى .
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر < تفعلوا >و بالتاء على مخاطبة هذه الأمة ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالياء فيهما ، على مشابهة ما تقدم من «يتلون ويؤمنون » وما بعدهما ، وكان أبو عمرو يقرأ بالوجهين ، و { تكفروه } معناه : يعطى دونكم فلا تثابون عليه ، ومن هذا القول النبي صلى الله عليه وسلم : من أزلت إليه نعمة فليذكرها فإن ذكرها فقد شكرها ، فإن لم يفعل فقد كفرها{[3444]} ، ومنه قول الشاعر{[3445]} : [ عنترة ] : [ الكامل ] .
( والْكُفْرُ مَخبَثَةٌ لِنَفْسِ الْمُنْعِمِ ) . . . وفي قوله تعالى : { والله عليم بالمتقين } وعد ووعيد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.