181- وإذا صدرت الوصية عن الموصي كانت حقاً واجباً لا يجوز تغييره ولا تبديله ، إلا إذا كانت الوصية مجافية للعدل ، فمن بدّل هذا الحق فغيَّر الوصية العادلة القويمة بعد ما علم هذا الحكم وثبت عنده فقد ارتكب ذنباً عظيماً ينال عقابه ، وقد برئ الموصي من تبعته ، ولا يظن أحد أن يفعل ذلك ولا يجازى عليه ، فإن الله سميع عليم لا تخفى عليه خافية .
ولما كان الموصي قد يمتنع من الوصية ، لما يتوهمه أن من بعده ، قد يبدل ما وصى به قال تعالى : { فَمَنْ بَدَّلَهُ } أي : الإيصاء للمذكورين أو غيرهم { بَعْدَمَا سَمِعَهُ } [ أي : ] بعدما عقله ، وعرف طرقه وتنفيذه ، { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } وإلا فالموصي وقع أجره على الله ، وإنما الإثم على المبدل المغير .
{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } يسمع سائر الأصوات ، ومنه سماعه لمقالة الموصي ووصيته ، فينبغي له أن يراقب من يسمعه ويراه ، وأن لا يجور في وصيته ، { عَلِيمٌ } بنيته ، وعليم بعمل الموصى إليه ، فإذا اجتهد الموصي ، وعلم الله من نيته ذلك ، أثابه ولو أخطأ ، وفيه التحذير للموصى إليه من التبديل ، فإن الله عليم به ، مطلع على ما فعله ، فليحذر من الله ، هذا حكم الوصية العادلة .
ثم توعد - سبحانه - من يبدل الوصية بطريقة لم يأذن بها الله فقال - تعالى - : { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ } .
بدله : غيره . وتغيير الوصية يتأتى بالزيادة في الموصى به أو النقص منه أو كتمانه ، أو غير ذلك من وجوه التغيير للموصى به بعد وفاة الموصي .
سمعه : أي علمه وتحققه ، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله . والضمائر البارزة في " بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه " عائدة على القول أو على الكلام الذي يقوله الموصي والذي دل عليه لفظ الوصية ، أو على الإِيصاء المفهوم من الوصية ، وهو الإِيصاء أو القول الواقع على الوجه الذي شرعه الله .
والمعنى : فمن غير الإِيصاء الذي أوصى به المتوفى عن وجهه ، بعدما علمه وتحققه منه ، فإنما إثم ذلك التغيير في الإيصاء يقع على عاتق هذا المبدل ، لأنه بهذا التبديل قد خان الأمانة ، وخالف شريعة الله ، ولن يلحق الموصي شيئاً من الإِثم لأنه قد أدى ما عليه بفعله للوصية كما يريدها الله - تعالى .
وقد ختمت الآية بقوله - تعالى - : { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } للإِشعار بالوعيد الشديد الذي توعد الله به كل من غير وبدل هذا الحق عن وجهه ، لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شيء من حيل الناس الباطلة ، فهو - سبحانه سميع لوصية الموصي ، عليم بما يقع فيها من تبديل وتحريف .
القول في تأويل قوله تعالى : ( فَمَن بَدّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنّمَا إِثْمُهُ عَلَى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )
يعني تعالى ذكره بذلك : فمن غيّر ما أوصى به الموصي من وصيته بالمعروف لوالديه أو أقربيه الذين لا يرثونه بعد ما سمع الوصية فإنما إثم التبديل على من بدّل وصيته .
فإن قال لنا قائل : وعلام عادت الهاء التي في قوله فمن بدّله ؟ قيل : على محذوف من الكلام يدلّ عليه الظاهر ، وذلك هو أمر الميت وإيصاؤه إلى من أوصى إليه بما أوصى به لمن أوصى له . ومعنى الكلام : كُتِبَ عَلَيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ والأقْرَبِين بالمَعْروفِ حَقّا على المُتّقِين ، فأوصوا لهم فمن بدل ما أوصيتم به لهم بعد ما سمعكم توصون لهم ، فإنما إثم ما فعل من ذلك عليه دونكم .
وإنما قلنا إن الهاء في قوله : فَمَنْ بَدّلَهُ عائدة على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر لأن قوله : كُتِبَ عَلَيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ من قول الله ، وإن تبديل المبدل إنما يكون لوصية الموصي ، فأما أمر الله بالوصية فلا يقدر هو ولا غيره أن يبدله ، فيجوز أن تكون الهاء في قوله : فَمَنْ بَدّلَهُ عائده على الوصية . وأما الهاء في قوله : بَعْدَ مَا سمِعَهُ فعائدة على الهاء الأولى في قوله : فَمَنْ بَدّلَهُ وأما الهاء التي في قوله : فَإنمَا إثْمُهُ فإنها مكنى التبديل كأنه قال : فإنما إثم ما بدّل من ذلك على الذين يبدلونه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ قال : الوصية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فإنّمَا إثْمُهُ على الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ وقد وقع أجر الموصي على الله وبريء من إثمه ، وأن كان أوصى في ضرار لم تجز وصيته ، كما قال الله : غيرَ مُضَارّ .
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ قال : من بدّل الوصية بعد ما سمعها فإثم ما بدل عليه .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فإنّمَا إثْمُهُ على الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ فمن بدل الوصية التي أوصى بها وكانت بمعروف ، فإنما إثمها على من بدلها أنه قد ظلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن قتادة أن عطاء بن أبي رباح قال في قوله : فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فإنّمَا إثْمُهُ على الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ قال : يُمْضَى كما قال .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن : فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ قال : من بدل وصية بعد ما سمعها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن في هذه الآية : فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فإنّمَا إثْمُهُ على الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ قال : هذا في الوصية من بدلها من بعد ما سمعها ، فإنما إثمه على من بدله .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن عطاء وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهم قالوا : تُمْضَى الوصية لمن أَوْصَى له به إلى ههنا انتهى حديث ابن المثنى ، وزاد ابن بشار في حديثه قال قتادة : وقال عبد الله بن معمر : أعجب إليّ لو أوصى لذوي قرابته ، وما يعجبني أن ننزعه ممن أوصى له به . قال قتادة : وأعجبه إليّ لمن أوصى له به ، قال الله عز وجل : فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فإنّمَا إثْمُهُ على الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يعني تعالى ذكره بذلك : إن الله سميع لوصيتكم التي أمرتكم أن توصوا بها لاَبائكم وأمهاتكم وأقربائكم حين توصون بها ، أتعدلون فيها على ما أذنت لكم من فعل ذلك بالمعروف ، أم تحيفون فتميلون عن الحق وتجورون عن القصد ، عليم بما تخفيه صدوركم من الميل إلى الحقّ والعدل ، أم الجور والحيف .