{ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : وَلا تَلْبِسُوا : لا تخلطوا ، واللبس : هو الخلط ، يقال منه : لبست عليهم الأمر ألْبِسُه لبسا : إذا خلطته عليهم . كما :
حدثت عن المنجاب ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ يقول : لخلطنا عليهم ما يخلطون . ومنه قول العجاج :
لَمّا لَبِسْنَ الحَقّ بالتّجَنّي غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْدا مِنّي
يعني بقوله : لبسن : خلطن . وأما اللّبْس فإنه يقال منه : لبِسْته ألبَسُه لُبْسا ومَلْبَسا ، وذلك في الكسوة يكتسيها فيلبسها . ومن اللّبْس قول الأخطل :
لقَدْ لبِسْتُ لِهَذا الدهْرِ أعْصُرَهُ *** حَتّى تَجَلّلَ رأسِي الشّيْبُ وَاشْتَعَلاَ
ومن اللبس قول الله جل ثناؤه : وللبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ .
فإن قال لنا قائل : وكيف كانوا يلبسون الحق بالباطل وهم كفار ، وأيّ حقّ كانوا عليه مع كفرهم بالله ؟ قيل : إنه كان فيهم منافقون منهم يظهرون التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ويستبطنون الكفر به ، وكان أعُظْمُهم يقولون : محمد نبي مبعوث إلا أنه مبعوث إلى غيرنا . فكان لَبْسُ المنافق منهم الحقّ بالباطل إظهاره الحق بلسانه وإقراره لمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به جهارا ، وخلطه ذلك الظاهر من الحقّ بالباطل الذي يستبطنه . وكان لَبْسُ المقرّ منهم بأنه مبعوث إلى غيرهم الجاحد أنه مبعوث إليهم إقراره بأنه مبعوث إلى غيرهم وهو الحقّ ، وجحوده أنه مبعوث إليهم وهو الباطل ، وقد بعثه الله إلى الخلق كافة . فذلك خلطهم الحق بالباطل ولبسهم إياه به . كما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روح ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قوله : وَلاَ تَلْبِسُوا الحَق بالباطِلِ قال : لا تخلطوا الصدق بالكذب .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : وَلاَ تَلْبسُوا الحَق بالباطِلِ يقول : لا تخلطوا الحقّ بالباطل ، وأدوا النصيحة لعباد الله في أمر محمد عليه الصلاة والسلام .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : وَلاَ تَلْبِسُوا الحَق بالباطِلِ اليهودية والنصرانية بالإسلام .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلاَ تَلْبسوا الحَق بالباطلِ قال : الحقّ : التوراة الذي أنزل الله على موسى ، والباطل : الذي كتبوه بأيديهم .
القول في تأويل قوله تعالى : وتَكْتُمُوا الحَقّ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ .
قال أبو جعفر : وفي قوله : وَتَكْتُمُوا الحَق وجهان من التأويل :
أحدهما أن يكون الله جل ثناؤه نهاهم عن أن يكتموا الحقّ كما نهاهم أن يلبسوا الحقّ بالباطل . فيكون تأويل ذلك حينئذٍ : ولا تلبسوا الحقّ بالباطل ، ولا تكتموا الحقّ . ويكون قوله : وتَكْتُمُوا عند ذلك مجزوما بما جزم به «تلبسوا » عطفا عليه .
والوجه الاَخر منهما أن يكون النهي من الله جل ثناؤه لهم عن أن يلبسوا الحق بالباطل ، ويكون قوله : وتَكْتُمُوا الحَق خبرا منه عنهم بكتمانهم الحقّ الذي يعلمونه ، فيكون قوله : «وتكتموا » حينئذٍ منصوبا ، لانصرافه عن معنى قوله : وَلا تَلْبِسُوا الحَق بالباطِلِ إذ كان قوله : وَلا تَلْبِسُوا نهيا ، وقوله : وَتَكْتُمُوا الحَق خبرا معطوفا عليه غير جائز أن يعاد عليه ما عمل في قوله : تَلْبِسُوا من الحرف الجازم ، وذلك هو المعنى الذي يسميه النحويون صرفا . ونظير ذلك في المعنى والإعراب قول الشاعر :
لاتَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأتِيَ مِثْلَهُ *** عارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
فنصب «تأتي » على التأويل الذي قلنا في قوله : وَتَكْتُمُوا الآية ، لأنه لم يرد : لا تنه عن خلق ولا تأت مثله ، وإنما معناه : لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله . فكان الأوّل نهيا والثاني خبرا ، فنصب الخبر إذ عطفه على غير شكله .
فأما الوجه الأول من هذين الوجهين اللذين ذكرنا أن الآية تحتملهما ، فهو على مذهب ابن عباس الذي :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قوله : وتَكْتُمُوا الحَقّ يقول : ولا تكتموا الحَقّ وأنتم تعلمون .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَتَكْتُمُوا الحَقّ : أي ولا تكتموا الحق .
وأما الوجه الثاني منهما فهو على مذهب أبي العالية ومجاهد .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : وتَكْتُمُوا الحقّ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال : كتموا بعث محمد صلى الله عليه وسلم .
وحدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
وأما تأويل الحقّ الذي كتموه وهم يعلمونه ، فهو ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَتَكْتُمُوا الحَقّ يقول : لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وما جاء به ، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم .
وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : وَتَكْتُمُوا الحَقّ يقول : إنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك .
وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَتَكْتُمُوا الحَقّ وأنتم تَعْلَمونَ قال : يكتم أهل الكتاب محمدا ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : وتَكْتُمُوا الحَقّ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال : الحقّ هو محمد صلى الله عليه وسلم .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : وَتَكْتُمُوا الحَقّ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال : كتموا بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : تكتمون محمدا وأنتم تعلمون ، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل .
فتأويل الآية إذا : ولا تخلطوا على الناس أيها الأحبار من أهل الكتاب في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه ، وتزعموا أنه مبعوث إلى بعض أجناس الأمم دون بعض أو تنافقوا في أمره ، وقد علمتم أنه مبعوث إلى جميعكم ، وجميع الأمم غيركم ، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب ، وتكتموا به ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته ، وأنه رسولي إلى الناس كافة ، وأنتم تعلمون أنه رسولي ، وأن ما جاء به إليكم فمن عندي ، وتعرفون أن من عهدي الذي أخذت عليكم في كتابكم الإيمان به وبما جاء به والتصديق به .
معطوف على جميع ما تقدم من قوله : { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } [ البقرة : 39 ] إلى هنا لأن هاته الجمل كلها لم يقصد أن الواحدة منها معطوفة على التي قبلها خاصة بل على جميع ما تقدمها لا سيما قوله : { ولا تلبسوا } فإنه مبدأ انتقال من غرض التحذير من الضلال إلى غرض التحذير من الإضلال بعد أن وسط بينهما قوله : { ولا تشتروا بآياتي } [ البقرة : 40 ] كما تقدم .
وإن شئت أن تجعل كلاً معطوفاً على الذي قبله فهومعطوف على الذي قبله بعد اعتبار كون ما قبله معطوفاً على ما قبله كذلك ، وهذا شأن الجمل المتعاطفة إلا إذا أريد عطف جملة على جملة معينة لكون الثانية أعلق بالتي والتْها دون البقية وذلك كعطف { وتكتموا الحق } على { لا تلبسوا } فإنها متعينة للعطف على { تلبسوا } لا محالة إن كانت معطوفة وهو الظاهر فإن كلا الأمرين منهي عنه والتغليظ في النهي عن الجمع بينهما واضح بالأوْلى .
وجوزوا أن يكون { وتكتموا الحق } منصوباً بأن مضمرة بعد واو المعية ويكون مناط النهي الجمع بين الأمرين وهو بعيد لأن كليهما منهي عنه والتفريق في المنهي يفيد النهي عن الجمع بالأوْلى بخلاف العكس اللهم إلا أن يقال إنما نهوا عن الأمرين معاً على وجه الجمع تعريضاً بهم بأنهم لا يرجا منهم أكثر من هذا الترك للبس وهو ترك اللبس المقارن لكتم الحق فإن كونه جريمة في الدين أمر ظاهر . أما ترك اللبس الذي هو بمعنى التحريف في التأويل فلا يرجا منهم تركه إذ لا طماعية في صلاحهم العاجل .
و { الحَق } الأمر الثابت من حَقَّ إذا ثبت ووجب وهو ما تعترف به سائر النفوس بقطع النظر عن شهواتها . والباطل في كلامهم ضد الحق فإنه الأمر الزائل الضائع يقال بطل بُطلاً وبطولاً وبطلاناً إذا ذهب ضياعاً وخسراً وذهب دمه بُطلاً أي هدراً . والمراد به هنا ما تتبرأ منه النفوس وتزيله مادامت خلية عن غرض أو هوى ، وسمي باطلاً لأنه فعل يذهب ضياعاً وخساراً على صاحبه .
واللبس خلط بين متشابهات في الصفات يعسر معه التمييز أو يتعذر وهو يتعدى إلى الذي اختلط عليه بعدة حروف مثل علَى واللامِ والباءِ على اختلاف السياق الذي يقتضي معنى بعض تلك الحروف . وقد يعلق به ظرفُ عندَ . وقد يجرد عن التعليق بالحرف . ويُطلق على اختلاط المعاني وهو الغالب ، وظاهر كلام الراغب في « مفردات القرآن » أنه هو المعنى الحقيقي ، ويقال في الأمر لُبسةٌ بضم اللام أي اشتباه ، وفي حديث شق الصدر " فخفت أن يكون قد التُبس بي " أي حصل اختلاط في عقلي بحيث لا يميز بين الرؤية والخيال ، وفعله من باب ضرب وأما فعل لبس الثياب فمن باب سمِع .
فلبس الحق بالباطل ترويج الباطل في صورة الحق ، وهذا اللَّبس هو مبدأ التضليل والإلحاد في الأمور المشهورة فإن المزاولين لذلك لا يروج عليهم قَصْد إبطالها فشأنُ من يريد إبطالها أن يعمد إلى خلط الحق بالباطل حتى يوهم أنه يريد الحق قال تعالى : { وكذلك زَين لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبِسوا عليهم دينهم } [ الأنعام : 137 ] لأنهم أوهموهم أن ذلك قربة إلى الأصنام .
وأكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل ، فقد قال الذين ارتدوا من العرب ومنعوا الزكاة إننا كنا نعطي الزكاة للرسول ونطيعه فليس علينا طاعة لأحد بعه ، وهذا نقض لجامعة الملة في صورة الأنفة من الطاعة لغير الله ، وقد قال شاعرهم وهو الخطيل بن أوس :
أطعنا رسولَ الله إذ كان بيننا *** فيا لعباد اللَّهِ مالِأَبــي بكر
وقد فعل ذلك الناقمون على عثمان رضي الله عنه فلبَّسوا بأمور زينوها للعامة كقولهم رقي إلى مجلس النبيء صلى الله عليه وسلم في المنبر وذلك استخفاف لأن الخليفتين قبله نزل كل منهما عن الدرجة التي كان يجلس عليها سلفه ، وسقط من يده خاتم النبيء صلى الله عليه وسلم وذلك رمز على سقوط خلافته . وقد قالت الخوارج « لا حكم إلا لله » فقال علي رضي الله عنه : « كلمة حق أريد بها باطل » . وحرَّف أقوام آيات بالتأويل البعيد ثم سموا ذلك بالباطن وزعموا أن للقرآن ظاهراً وباطناً فكان من ذلك لبس كثير ، ثم نشأت عن ذلك نحلة الباطنية ، ثم تأويلات المتفلسفين في الشريعة كأصحاب « الرسائل » الملقبين بإخوان الصفاء . ثم نشأ تلبيس الواعظين والمرغبين والمرجئة فأخذوا بعض الآيات فأشاعوها وكتموا ما يقيدها ويعارضها نحو قوله تعالى : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] فأوهموا الناس أن المغفرة عامة لكل ذنب وكل مذنب ولو لم يتب وأغضوا عن آيات الوعيد وآيات التوبة .
وللتفادي من هذا الوصف الذي ذمه الله تعالى قال علماء أصول الفقه إن التأويل لا يصح إلا إذا دل عليه دليل قوي ، أما إذا وقع التأويل لما يُظن أنه دليل فهو تأويل باطل فإن وقع بلا دليل أصلاً فهو لعب لا تأويل ، ولهذا نهى الفقهاء عن اقتباس القرآن في غير المعنى الذي جاء له كما قال ابن الرومي :
لئن أخطأتُ في مدْحي *** ك ما أخطأت في منعي
لقد أنزلتُ حاجاتــي *** بواد غيــر ذي زرع
وقوله : { وأنتم تعلمون } حال وهو أبلغ في النهي لأن صدور ذلك من العالم أشد فمفعول ( تعلمون ) محذوف دل عليه ما تقدم ، أي وأنتم تعلمون ذلك أي لَبسكم الحق بالباطل . قال الطيبي عند قوله تعالى الآتي : { أفلا تعقلون } [ البقرة : 44 ] إن قوله تعالى : { وأنتم تعلمون } غير منزل منزلة اللازم لأنه إذا نزل منزلة اللازم دل على أنهم موصوفون بالعلم الذي هو وصف كمال وذلك ينافي قوله الآتي : { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } إلى قوله : { أفلا تعقلون } [ البقرة : 44 ] إذْ نفى عنهم وصف العقل فكيف يثبت لهم هنا وصف العلم على الإطلاق .