الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا تَلۡبِسُواْ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُواْ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (42)

قوله تعالى : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } : الباءُ : [ هنا ] معناها الإِلصاقُ ، كقولِك : خَلَطْتُ الماءَ باللبن ، أَي : لاَ تَخْلِطوا الحقَّ بالباطلِ فلا يتميَّزَ . وقال الزمخشري : " إنْ كانت صلةً مثلَها في قولك لَبَسْتَ الشيء بالشيء وخَلَطْتُه به كان المعنى : ولا تكتُبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلِطُ الحقَّ المُنَزَّلُ بالباطلِ الذي كتبتم . وإن كانت باءَ الاستعانةِ كالتي في قولِك : كتبْتُ بالقلَمِ كان المعنى : ولا تجعلوا الحقَّ مشتبهاً بباطِلكم الذي تكتبونَه " فأجازَ فيها وجهين كما ترى ، ولا يريدُ بقوله : " صلة " أنها زائدةٌ بل يريدُ أنها مُوصِلَةٌ للفعلِ ، كما تقدَّم . قال الشيخ : " وفي جَعْلِهِ إياها للاستعانةِ بُعْدٌ وصَرْفٌ عن الظاهرِ مِنْ غيرِ ضرورةٍ ، ولا أدري ما هذا الاستبعادُ من وُضوحِ هذا المعنى الحَسَن ؟ .

قوله : { وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ } فيه وجهان ، أحدُهما وهو الأظهرُ : أنَّه مجزومٌ بالعطفِ على الفعلِ قبلَه ، نهاهم عن كلِّ فِعل على حِدَتِه أي : لا تفعلوا لا هذا ولا هذا . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمارِ " أَنْ " في جوابِ النهي بعد الواو التي تقتضي المعيةَ ، أي : لا تَجْمَعوا بين لَبْسِ الحق بالباطل وكتمانِه ، ومنه :

لاَ تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مِثْلَه *** عارٌ عليكَ إذا فَعَلْتَ عظيمُ

و " أَنْ " مع ما في حيِّزها في تأويلِ مصدرٍ ، فلا بُدَّ من تأويلِ الفعلِ الذي قَبلَها بمصدرٍ أيضاً ليصِحَّ عَطْفُ الاسمِ على مثلِه ، والتقديرُ : لا يكُنْ منكم لَبْسُ الحقِ بالباطلِ وكتمانُه ، وكذا [ سائرُ ] نظائره . وقال الكوفيون : " منصوب بواو الصرف " ، وقد تقدَّم معناه ، والوجهُ الأولُ أَحْسَنُ لأنه نَهْيٌ عن كلِّ فِعْلٍ على حِدَتِه . وأمَّا الوجهُ الثاني فإنه نَهْيٌ عن الجمع ، ولا يَلْزَمُ مِن النهيِ عن الجمعِ بين الشيئين النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَتِه إلا بدليل خارجي

واللَّبْسُ : الخَلْطُ والمَزْجُ ، يُقال : لَبَسْتُ عليه الأمرَ أَلْبِسُه خَلَطْتُ بيِّنَه بمُشْكِله ، ومنه قولُ الخَنْساء :

ترى الجلِيسَ يقولُ الحقَّ تَحْسَبُه *** رُشْداً وهيهاتَ فانظُرْ ما به التبسا

صَدِّقْ مقالتَه واحذَرْ عَداوَتَهُ *** والبِسْ عليه أموراً مثلَ ما لَبَسا

وقال العجَّاج :

لَمَّا لَبَسْنَ الحقَّ بالتجنِّي *** غَنِيْنَ واسْتَبْدَلْنَ زيداً مِنِّي

ومنه أيضاً :

وقد لَبَسْتُ لهذا الأمرَ أَعْصُرَهُ *** حتى تَجَلَّل رأسي الشيبُ فاشْتَعلا

وفي فلان مَلْبَسٌ أي : مُسْتَمْتَعٌ ، قال :

415- ألا إنَّ بعدَ العُدْمِ للمَرْءِ قُِنْوَةً *** وبعدَ المشيبِ طولَ عُمْرٍ ومَلْبَسَا

وقولُ الفَرَّار :

وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبةٍ *** حتى إذا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لها يَدِي

يحتمل أن يكونَ منه وأن يكونَ من اللِّباس ، والآيةُ الكريمةُ تحتمِلُ المعنيين أي : لا تُغَطُّوا الحقَّ بالباطِلِ .

والباطلُ ضدُّ الحقِّ ، وهو الزائلُ ، كقولِ لبيد :

ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد بَطَل يَبْطُلُ بُطولاً وبُطْلاً وبُطْلاناً . والبَطَلُ : الشجاعُ ، سُمِّي بذلك لأنه يُبْطِل شَجاعةَ غيرِه . وقيل : لأنه يُبْطِلَ دمَه ، فهو فَعَل بمعنى مَفْعُولِ ، وقيل : لأنه يُبْطِلُ دمَ غيرِه فهو بمعنى فاعلِ .

وقد بَطُل [ بالضم ] يَبْطُل بُطولاً وبَطالة أي : صارَ شجاعاً . قال النابغة :

لَهُمْ لِواءٌ بأيدي ماجدٍ بَطَلٍ *** لا يقطَعُ الخَرْقَ إلا طَرْفُه سامي

وبَطَل الأجيرُ بالفتح بِطالة بالكسر : إذا تَعَطَّل فهو بَطَّالٌ ، وذهب دَمُه بُطْلاً بالضم أَي : هَدْراً .

قولُه : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، وعامُلها : إمَّا تَلْبِسوا أو تَكْتُموا ، إلاَّ أنَّ عَمَل " تكتموا " أَوْلَى لوجهين ، أحدُهما : أنه أقربُ . والثاني : أنَّ كُتْمانَ الحقِّ مع العلمِ به أَبْلَغُ ذمَّاً ، وفيه نوعُ مقابلةٍ . ولا يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من بابِ الإِعمال ، لأنه يَسْتدعي الإِضمارَ ، ولا يجوزُ إضمارُ الحال ، لأنه لا يكونُ إلا نكرةً ، ولذلك مَنَعوا الإِخبارَ عنه بالذي . فإنْ قيل : تكونُ المسألةُ من باب الإِعمال على معنى أنَّا حَذَفْنَا من الأولِ ما أثبتناه في الثاني من غيرِ إضمارٍ ، حتى لا يَلْزَمَ المحذورُ المذكورُ والتقديرُ : ولا تَلْبِسوا الحقَّ بالباطلِ وأنتم تعلمون ، ولا تَكْتُموا الحقَّ وأنتم تَعْلَمون . فالجوابُ أنَّ هذا لا يُقال فيه إعمالٌ ، لأنَّ الإِعمالَ يَسْتَدْعي أن يُضْمَرَ في المهمل ثم يُحْذَفَ . وأجاز ابن عطية ألاَّ تكونَ هذه الجملةُ حالاً فإنه قال : " ويُحْتمل أن تكونَ شهادةً عليهم بِعِلْمِ حقٍّ مخصوصٍ في أمرِ محمدٍ عليه السلام ، ولم يَشْهَدْ لهم بالعلمِ [ على الإِطلاق ] ، فعلى هذا لا تكونُ الجملةُ في موضعِ الحال " وفيما قاله نظرٌ .

وقُرئ شاذاً : " وَتَكْتُمونَ " بالرفع ، وخَرَّجوها على أنها حالٌ . وهذا غيرُ صحيحٍ لأنه مضارعٌ مُثْبَتٌ ، فمِن حَقِّه الاَّ يقترنَ بالواوِ ، وما وَرَد من ذلك فهو مؤولٌ بإضمار مبتدأ قبلَه قَولِهم : " قُمْتُ وأَصُكُّ عينَه " ، وقولِ الآخر :

فَلَمَّا خَشِيْتُ أظافيرَهُمْ *** نَجَوْتُ وأَرْهُنُهُمْ مالِكَا

أي : وأنا أصُكُّ ، وأنا أَرْهُنهم ، وكذا : وأنتم تَكْتُمون ، إلاَّ أنه يَلْزَمُ منه إشكالٌ آخرُ ، وهم أنهم مَنْهِيُّون عن اللَّبْسِ مطلقاً ، والحالُ قََيْدٌ في الجملةِ السابقةِ فيكونُ قد نُهُوا بقيدٍ ، وليسَ ذلك مُراداً ، إلا أَنْ يُقال : إنَّها حالٌ لازمةٌ ، وقد قدَّرَه الزمخشري بكاتِمين ، فَجَعَله حالاً ، وفيه الإِشكالُ المتقدِّم ، إلاَّ أنْ يكونَ أرادَ تفسيرَ المعنى لا تفسيرَ الإِعرابِ . ويجوزُ أن تكونَ جملةً خبريةً عُطِفَتْ على جملةٍِ طلبيةٍ ، كأنَّه تعالى نَعَى عليهم كَتْمَهُمْ الحقَّ مع عِلْمِهِم أنَّه حق . ومفعولُ العلمِ غيرُ مرادٍ لأنَّ المعنى : وأنتم مِنْ ذوي العلمِ . وقيلَ : حُذِفَ للعلمِ به ، والتقديرُ : تَعْلَمُون الحقَّ من الباطِلِ . وقَدَّره الزمخشري " وأنتم تَعْلَمُون في حالِ عِلْمِكُم أنَّكم لابسونَ كاتمون " ، فَجَعَل المفعولَ اللَّبْسَ والكتمَ المفهومَيْنِ من الفعلَيْن السابقَيْن ، وهذا حَسَنٌ جداً .