قوله تعالى : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } : الباءُ : [ هنا ] معناها الإِلصاقُ ، كقولِك : خَلَطْتُ الماءَ باللبن ، أَي : لاَ تَخْلِطوا الحقَّ بالباطلِ فلا يتميَّزَ . وقال الزمخشري : " إنْ كانت صلةً مثلَها في قولك لَبَسْتَ الشيء بالشيء وخَلَطْتُه به كان المعنى : ولا تكتُبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلِطُ الحقَّ المُنَزَّلُ بالباطلِ الذي كتبتم . وإن كانت باءَ الاستعانةِ كالتي في قولِك : كتبْتُ بالقلَمِ كان المعنى : ولا تجعلوا الحقَّ مشتبهاً بباطِلكم الذي تكتبونَه " فأجازَ فيها وجهين كما ترى ، ولا يريدُ بقوله : " صلة " أنها زائدةٌ بل يريدُ أنها مُوصِلَةٌ للفعلِ ، كما تقدَّم . قال الشيخ : " وفي جَعْلِهِ إياها للاستعانةِ بُعْدٌ وصَرْفٌ عن الظاهرِ مِنْ غيرِ ضرورةٍ ، ولا أدري ما هذا الاستبعادُ من وُضوحِ هذا المعنى الحَسَن ؟ .
قوله : { وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ } فيه وجهان ، أحدُهما وهو الأظهرُ : أنَّه مجزومٌ بالعطفِ على الفعلِ قبلَه ، نهاهم عن كلِّ فِعل على حِدَتِه أي : لا تفعلوا لا هذا ولا هذا . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمارِ " أَنْ " في جوابِ النهي بعد الواو التي تقتضي المعيةَ ، أي : لا تَجْمَعوا بين لَبْسِ الحق بالباطل وكتمانِه ، ومنه :
لاَ تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مِثْلَه *** عارٌ عليكَ إذا فَعَلْتَ عظيمُ
و " أَنْ " مع ما في حيِّزها في تأويلِ مصدرٍ ، فلا بُدَّ من تأويلِ الفعلِ الذي قَبلَها بمصدرٍ أيضاً ليصِحَّ عَطْفُ الاسمِ على مثلِه ، والتقديرُ : لا يكُنْ منكم لَبْسُ الحقِ بالباطلِ وكتمانُه ، وكذا [ سائرُ ] نظائره . وقال الكوفيون : " منصوب بواو الصرف " ، وقد تقدَّم معناه ، والوجهُ الأولُ أَحْسَنُ لأنه نَهْيٌ عن كلِّ فِعْلٍ على حِدَتِه . وأمَّا الوجهُ الثاني فإنه نَهْيٌ عن الجمع ، ولا يَلْزَمُ مِن النهيِ عن الجمعِ بين الشيئين النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَتِه إلا بدليل خارجي
واللَّبْسُ : الخَلْطُ والمَزْجُ ، يُقال : لَبَسْتُ عليه الأمرَ أَلْبِسُه خَلَطْتُ بيِّنَه بمُشْكِله ، ومنه قولُ الخَنْساء :
ترى الجلِيسَ يقولُ الحقَّ تَحْسَبُه *** رُشْداً وهيهاتَ فانظُرْ ما به التبسا
صَدِّقْ مقالتَه واحذَرْ عَداوَتَهُ *** والبِسْ عليه أموراً مثلَ ما لَبَسا
لَمَّا لَبَسْنَ الحقَّ بالتجنِّي *** غَنِيْنَ واسْتَبْدَلْنَ زيداً مِنِّي
وقد لَبَسْتُ لهذا الأمرَ أَعْصُرَهُ *** حتى تَجَلَّل رأسي الشيبُ فاشْتَعلا
وفي فلان مَلْبَسٌ أي : مُسْتَمْتَعٌ ، قال :
415- ألا إنَّ بعدَ العُدْمِ للمَرْءِ قُِنْوَةً *** وبعدَ المشيبِ طولَ عُمْرٍ ومَلْبَسَا
وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبةٍ *** حتى إذا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لها يَدِي
يحتمل أن يكونَ منه وأن يكونَ من اللِّباس ، والآيةُ الكريمةُ تحتمِلُ المعنيين أي : لا تُغَطُّوا الحقَّ بالباطِلِ .
والباطلُ ضدُّ الحقِّ ، وهو الزائلُ ، كقولِ لبيد :
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد بَطَل يَبْطُلُ بُطولاً وبُطْلاً وبُطْلاناً . والبَطَلُ : الشجاعُ ، سُمِّي بذلك لأنه يُبْطِل شَجاعةَ غيرِه . وقيل : لأنه يُبْطِلَ دمَه ، فهو فَعَل بمعنى مَفْعُولِ ، وقيل : لأنه يُبْطِلُ دمَ غيرِه فهو بمعنى فاعلِ .
وقد بَطُل [ بالضم ] يَبْطُل بُطولاً وبَطالة أي : صارَ شجاعاً . قال النابغة :
لَهُمْ لِواءٌ بأيدي ماجدٍ بَطَلٍ *** لا يقطَعُ الخَرْقَ إلا طَرْفُه سامي
وبَطَل الأجيرُ بالفتح بِطالة بالكسر : إذا تَعَطَّل فهو بَطَّالٌ ، وذهب دَمُه بُطْلاً بالضم أَي : هَدْراً .
قولُه : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، وعامُلها : إمَّا تَلْبِسوا أو تَكْتُموا ، إلاَّ أنَّ عَمَل " تكتموا " أَوْلَى لوجهين ، أحدُهما : أنه أقربُ . والثاني : أنَّ كُتْمانَ الحقِّ مع العلمِ به أَبْلَغُ ذمَّاً ، وفيه نوعُ مقابلةٍ . ولا يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من بابِ الإِعمال ، لأنه يَسْتدعي الإِضمارَ ، ولا يجوزُ إضمارُ الحال ، لأنه لا يكونُ إلا نكرةً ، ولذلك مَنَعوا الإِخبارَ عنه بالذي . فإنْ قيل : تكونُ المسألةُ من باب الإِعمال على معنى أنَّا حَذَفْنَا من الأولِ ما أثبتناه في الثاني من غيرِ إضمارٍ ، حتى لا يَلْزَمَ المحذورُ المذكورُ والتقديرُ : ولا تَلْبِسوا الحقَّ بالباطلِ وأنتم تعلمون ، ولا تَكْتُموا الحقَّ وأنتم تَعْلَمون . فالجوابُ أنَّ هذا لا يُقال فيه إعمالٌ ، لأنَّ الإِعمالَ يَسْتَدْعي أن يُضْمَرَ في المهمل ثم يُحْذَفَ . وأجاز ابن عطية ألاَّ تكونَ هذه الجملةُ حالاً فإنه قال : " ويُحْتمل أن تكونَ شهادةً عليهم بِعِلْمِ حقٍّ مخصوصٍ في أمرِ محمدٍ عليه السلام ، ولم يَشْهَدْ لهم بالعلمِ [ على الإِطلاق ] ، فعلى هذا لا تكونُ الجملةُ في موضعِ الحال " وفيما قاله نظرٌ .
وقُرئ شاذاً : " وَتَكْتُمونَ " بالرفع ، وخَرَّجوها على أنها حالٌ . وهذا غيرُ صحيحٍ لأنه مضارعٌ مُثْبَتٌ ، فمِن حَقِّه الاَّ يقترنَ بالواوِ ، وما وَرَد من ذلك فهو مؤولٌ بإضمار مبتدأ قبلَه قَولِهم : " قُمْتُ وأَصُكُّ عينَه " ، وقولِ الآخر :
فَلَمَّا خَشِيْتُ أظافيرَهُمْ *** نَجَوْتُ وأَرْهُنُهُمْ مالِكَا
أي : وأنا أصُكُّ ، وأنا أَرْهُنهم ، وكذا : وأنتم تَكْتُمون ، إلاَّ أنه يَلْزَمُ منه إشكالٌ آخرُ ، وهم أنهم مَنْهِيُّون عن اللَّبْسِ مطلقاً ، والحالُ قََيْدٌ في الجملةِ السابقةِ فيكونُ قد نُهُوا بقيدٍ ، وليسَ ذلك مُراداً ، إلا أَنْ يُقال : إنَّها حالٌ لازمةٌ ، وقد قدَّرَه الزمخشري بكاتِمين ، فَجَعَله حالاً ، وفيه الإِشكالُ المتقدِّم ، إلاَّ أنْ يكونَ أرادَ تفسيرَ المعنى لا تفسيرَ الإِعرابِ . ويجوزُ أن تكونَ جملةً خبريةً عُطِفَتْ على جملةٍِ طلبيةٍ ، كأنَّه تعالى نَعَى عليهم كَتْمَهُمْ الحقَّ مع عِلْمِهِم أنَّه حق . ومفعولُ العلمِ غيرُ مرادٍ لأنَّ المعنى : وأنتم مِنْ ذوي العلمِ . وقيلَ : حُذِفَ للعلمِ به ، والتقديرُ : تَعْلَمُون الحقَّ من الباطِلِ . وقَدَّره الزمخشري " وأنتم تَعْلَمُون في حالِ عِلْمِكُم أنَّكم لابسونَ كاتمون " ، فَجَعَل المفعولَ اللَّبْسَ والكتمَ المفهومَيْنِ من الفعلَيْن السابقَيْن ، وهذا حَسَنٌ جداً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.