فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَا تَلۡبِسُواْ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُواْ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (42)

واللبس : الخلط ، يقال لبست عليه الأمر ألبسه : إذا خلطت حقه بباطله ، وواضحه بمشكله ، قال الله تعالى : { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] قالت الخنساء :

ترى الجليس يقول الحقَّ تحسبه *** رُشْداً وهيهات فانظر ما به التبسا

صدق مقالته واحذَر عداوته *** والبس عليه أموراً مثلَ ما لَبَسا

وقال العجاج :

لَما لَبَست الحقَّ بِالتَّجَنيّ *** غَنِين فاسْتبدلن زيداً منيّ

ومنه قول عنترة :

وكتيبة لبستها بكتيبة *** حتى إذا التبست نفضت لها يدي

وقيل : هو مأخوذ من التغطية : أي لا تغطوا الحق بالباطل ، ومنه قول الجعدي :

إذا ما الضجيع ثنى جيدها *** تثنت عليه وكانت لباسا

وقول الأخطل :

وقد لبست لهذا الأمر أعصره *** حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا

والأوّل أولى . والباطل في كلام العرب : الزائل ، ومنه قول لبيد :

*ألا كل شيء ما خلا الله باطل *

وبطل الشيء يبطل بطولاً و بطلاناً ، وأبطله غيره ، ويقال : ذهب دمه بطلاً : أي هدراً ، والباطل : الشيطان ، وسمي الشجاع بطلاً لأنه يبطل شجاعة صاحبه ، والمراد به هنا خلاف الحق .

والباء في قوله : { بالباطل } يحتمل أن تكون صلة ، وأن تكون للاستعانة ذكر معناه في الكشاف ، ورجّح الرازي في تفسيره الثاني . وقوله : { وَتَكْتُمُوا } يجوز أن يكون داخلاً تحت حكم النهي ، أو منصوباً بإضمار أن ، وعلى الأوّل يكون كل واحد من اللبس ، والكتم منهياً عنه ، وعلى الثاني يكون المنهي عنه هو الجمع بين الأمرين ، ومن هذا يلوح رجحان دخوله تحت حكم النهي ، وأن كل واحد منهما لا يجوز فعله على انفراده ، والمراد النهي عن كتم حجج الله التي أوجب عليهم تبليغها ، وأخذ عليهم بيانها ، ومن فسر اللبس أو الكتمان بشيء معين ، ومعنى خاص ، فلم يصب إن أراد أن ذلك هو المراد دون غيره ، لا إن أراد أنه مما يصدق عليه . وقوله : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية ، وفيه أن كفرهم كفر عناد لا كفر جهل ، وذلك أغلظ للذنب وأوجب للعقوبة ، وهذا التقييد لا يفيد جواز اللبس ، والكتمان مع الجهل ؛ لأن الجاهل يجب عليه أن لا يقدم على شيء حتى يعلم بحكمه خصوصاً في أمور الدين ، فإن التكلم فيها ، والتصدّي للإصدار ، والإيراد في أبوابها إنما أذن الله به لمن كان رأساً في العلم فرداً في الفهم ، وما للجهال والدخول فيما ليس من شأنهم ، والقعود في غير مقاعدهم . وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { يا بَنِى إسرائيل } قال للأحبار من اليهود { اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } أي بلائي عندكم ، وعند آبائكم لما كان نجاهم به من فرعون ، وقومه { وَأَوْفُوا بِعَهْدِى } الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه ، واتباعه بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال { وإياى فارهبون } أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات { وَءامِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم { وَتَكْتُمُوا الحق وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي ، وبما جاءكم به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم ، وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه في قوله : { أَوْفُوا بِعَهْدِى } يقول : ما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم ، وغيره { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } يقول : أرض عنكم ، وأدخلكم الجنة . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن مسعود مثله . وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : { أَوْفُوا بِعَهْدِى } قال : هو : الميثاق الذي أخذه عليهم في سورة المائدة { لَقَدْ أَخَذ الله ميثاق بَنِى إسرائيل } [ المائدة : 12 ] الآية .

/خ42