اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تَلۡبِسُواْ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُواْ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (42)

أمر بترك الإغواء والإضلال وإضلال الغير له طريقان :

أحدهما : أن يكون الغير قد سمع دَلاَئِلَ الحق ، فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش دلائل الحقّ عليه بالشبهات .

والثاني : أن تخفي تلك الدَّلائل عنه ، وتمنعه من الوصول إليها فقوله : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } إشارة إلى الأول ، وقوله : { وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ } إشارة إلى الثاني .

والباء في قوله : " بالباطل " للإلصاق كقولك : " خلطت المَاءَ باللَّبَنِ " ، أي : لا تخلطوا الحقّ بالباطل ، فلا يتميز .

وقال " الزمخشري " : إن كانت صلةً مثلها في قولك : لبست الشيء بالشَّيء ، وخلطته به كان المعنى : ولا تَكْتُبُوا في التوراة ما ليس فيها فَيَخْتَلِطَ الحق المنزّل بالباطل الذي كتبتم .

وإن كانت " باء " الاستعانة كالتي في قولك : " كتبت بالقَلَمِ " كان المعنى : ولا تجعلوا الحقَّ مشتبهاً بباطلكم الذي تكتبونه .

فأجاز فيها وجهين كما ترى ، ولا يريد بقوله " صِلَة " أنها زائدة ، بل يريد أنها موصلة للفعل كما تقدم .

وقال " أبو حيان " : " وفي جعله إياها للاستعانة بُعْد ، وصرف عن الظاهر من غير ضرورة " ، ولا أدري ما هذا الاستبعاد مع وضوح هذا المعنى الحق ؟

وقال ابن الخطيب : [ إنها " باء " الاستعانة ] . والمعنى : ولا تلبسوا الحَقّ بسبب الشبهات التي تُورِدُونَهَا على السَّامعين ، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد كانت نصوصاً خفيةً يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال ، ثم إنهم كانوا يُجَادلون فيها ، ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بإلقاء الشبهات ، فهذا هو المراد بقوله : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } ، فهو المذكور في قوله : { وَجَادَلُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ } [ غافر : 5 ] .

و " اللَّبْسُ " : الخَلْط والمَزْج ؛ لقوله : لَبَسْتُ عليه الأمر أَلْبِسُهُ خَلَطْتُ بَيِّنَهُ بمُشْكِلِهِ ؛ ومنه قوله الخَنْسَاءِ : [ البسيط ] .

436 تَرَى الجَلِيسَ يَقُولُ الحَقَّ تَحْسَبُهُ *** رُشْداً وَهَيْهَاتَ فَانْظُرْ مَا بِهِ الْتَبَسَا

صَدِّقْ مَقَالَتَهُ وَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ *** وَالْبِسْ عَلَيْهِ أُمُوراً مِثْلَ مَا لَبَسَا 

وقال العَجَّاج : [ الرجز ]

437 [ لَمَّا لَبَسْنَ الحَقَّ بِالتَّجَنِّي *** غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْداً مِنِّي ]

ومنه أيضاً : [ البسيط ]

438 وَقَدْ لَبَسْتُ لِهَذَا الأَمْرِ أَعْصُرَهُ *** حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ فَاشْتَعَلا

وفي فلان مَلْبَسٌ ، أي مستمتع ؛ قال : [ الطويل ]

439 أَلاَ إِنَّ بَعْدَ العُدْمِ لِلْمَرْءِ قُنْوَةً *** وَبَعْدَ المَشِيبِ طُولَ عُمْرٍ وَمَلْبَسَا

وقول الفَرَّاء وغيره : [ الكامل ]

440 وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ *** حَتَّى إذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي

يحتمل أن يكون منه ، وأن يكون من " اللِّبَاس " ، والآية الكريمة تحتمل المعنيين ، أي : لا تغطّوا الحق بالباطل .

ولبس الهَوْدَج والكعبة : ما عليهما من " لِبَاس " بكسر اللام ولِبَاسُ الرجل زوجته ، وزوجها لِبَاسُهَا . قال تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [ البقرة : 187 ] وقال النابغة : [ المتقارب ]

441 إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا *** تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاسَا

و " اللَّبُوس " : كل ما يُلْبَس من ثياب ودرع ؛ قال تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } [ الأنبياء : 80 ] ولاَبَسْتُ فلاناً حتى عرفت باطنه .

و " الباطل " : ضد الحق ، وهو الزائل ؛ كقول لَبِيدٍ : [ الطويل ]

442 أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بِاطِلُ *** . . .

ويقال : بَطَل الشيءُ يَبْطُلُ بُطُولاً وبُطْلاً وبُطْلاَناً .

و " البَطَل " : الشّجاع ، سمي بذلك ؛ لأنه يبطل شجاعة غيره .

وقيل : لأنه يبطل دمه فهو " فَعَل " بمعنى " مفعول " .

وقيل : لأنه يبطل دم غيره فهو بمعنى " فاعل " . وقد بَطُلَ بالضَّم يَبْطُلُ بُطُولاً وبَطَالَةً ، أي : صار شجاعاً ؛ قال النابغة : [ البسيط ]

443 لَهُمْ لِوَاءٌ بِكَفَّيْ مَاجِدٍ بَطَلٍ *** لاَ يَقْطَعُ الخَرْقَ إلاَّ طَرْفُهُ سَامِي

وبَطَل الأجيرُ بالفتح بِطَالة بالكَسْر : إذا تعطَّل ، فهو بَطَّال ، وذهب دمه بُطْلاً بالضم أي : هدراً .

فصل في المراد من قوله تعالى : " الحق بالباطل "

اختلفوا في المراد من قوله : " الحَقّ بِالبَاطِلِ " فروي عن " ابن عباس " وغيره : لا تخلطوا ما عندكم من الحَقّ في الكتاب بالباطل ، وهو التغيير والتبديل .

وقال " أبو العالية " : قالت اليَهُود : محمد مبعوثٌ ولكن إلى غيرنا ، فإقرارهم ببعثته حق ، وجحدهم أنه بعث إليهم باطل .

وقال " مجاهد " : لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام .

قوله : " وَتَكْتمُوا الحَقّ " فيه وجهان :

أحدهما ، وهو الأظهر : أنه مجزوم بالعَطْفِ على الفعل قبله ، نَهَاهم عن كل فعل على حِدَتِهِ ، أي : لا تفعلوا هذا ولا هذا .

والثاني : أنه منصوب بإضمار " أن " في جواب النهي بعد " الواو " التي تقتضي المعية ، أي : لا تجمعوا بين لَبْسِ الحق بالباطل وكِتْمَانه ، ومنه : [ الكامل ]

444 لا تَنْهَ عَنْ خُلُقِ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ *** عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

و " أن " مع ما في حيّزها في تأويل مصدر ، فلا بد من تأويل الفعل الذي قبلها بمصدر أيضاً ليصبح عطف [ الاسم ] على مثله ، والتقدير : لا يكن منكم لَبْس الحق بالباطل وكتمانه ، وكذا سائر نظائره .

وقال " الكوفيون " : منصوب ب " واو " الصرف ، وقد تقدم معناه ، والوجه الأول أحسن ؛ لأنه نهي عن كل فعل على حِدَتِهِ ، وأما الوجه الثاني فإنه نهي عن الجمع ، ولا يلزم من النَّهْي عن الجمع بين الشَّيئين النهي عن كل واحد على حِدَتِهِ إلا بدليل خارجي .

فصل في المراد بالكتمان

قال " ابن عبَّاس " : يعني كتمانهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه .

وقال " محمد بن سِيرِينَ " : نزل عصابة من ولد هَارُونَ ب " يثرب " لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العَدُوّ عليهم ، وتلك العصابة هم حَمَلَةُ التوراة يومئذ ، فأقاموا ب " يثرب " يرجون أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم بين ظَهْرَانيهم ، وهم مؤمنون مصدقون بنبوته ، فمضى أولئك الآباء ، وهم مؤمنون ، وخلف الأبناء وأبناء الأبناء ، فأدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فكفروا به وهم يعرفون ، وهو معنى قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] .

قوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحَالِ ، وعاملها : إما " تلبسوا " أو " تكتموا " إلاّ أن عمل " تكتموا " أولى لوجهين :

أحدهما : أنه أقرب .

والثاني : أن كتمان الحَقّ مع العلم به أبلغ ذمّاً ، وفيه نوع مقابلة .

ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الإعمال ؛ لأنه يستدعي الإضمار ، ولا يجوز إضمار الحال ؛ لأنه لا يكون إلا نكرةً ، ولذلك منعوا الإخبار عنه ب " الذي " .

فإن قيل : تكون المسألة من باب الإعمال على معنى أنا حذفنا من الأوّل ما أثبتناه في الثاني من غير إضمار ، حتى لا يلزم المَحْظور المذكور ، والتقدير : ولا تلبسوا الحق بالباطل وأنتم تعلمون ، ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون .

فالجواب : أن هذا لا يقال : فيه إعمال ، لأن الإعمال يستدعي أن يضمر في المهمل ، ثم يحذف .

وأجاز " ابن عطيَّة{[1275]} " ألا تكون هذه الجملة حالاً ، فإنه قال : " ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد عليه الصلاة والسلام ، ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق ، فعلى هذا لا تكون الجُمْلة في موقع الحال " . وفيما قاله نظر .

وقرئ شاذاً : " وَتَكْتُمُونَ " بالرفع ، وخرجوها على أنها حَالٌ ، وهذا غير صحيح ؛ لأنه مضارع مثبت فمن حقه ألا يقترن بالواو ، وما ورد من ذلك ، فهو مؤول بإضمار مبتدأ قبله ، نحو : " قُمْتُ وأَصُكُّ عَيْنَهُ " ، وقول الآخر : [ المتقارب ]

445 فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ *** نَجَوْتُ وأرْهَنُهُمْ مَالِكَا

أي : " وأَنَا أَصُكُّ " ، و " أَنَا أَرْهَنُهُمْ " ، وكذا " وأنتم تكتمون " ، إلا أنه يلزم منه إشكال آخر ، وهو أنهم منهيُّون عن اللّبس مطلقاً ، والحال قيد في الجملة السابقة ، فيكون قد نهوا بقيد ، وليس ذلك مراداً إلاّ أن [ يقال : إنها حال لازمة ، وقد قيّده " الزمخشري " ب " كاتمين " ، فجعله حالاً ، وفيه الإشكال المتقدّم ، إلاّ أنه ] يكون أراد تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ، قال " ابن الخطيب{[1276]} " : وجواب الإشكال أنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أو باطل ، وما لا يعرف كونه حقّاً وباطلاً لا يجوز الإقدام عليه بالنفي ، ولا بالإثبات ، بل يجب التوقّف فيه . وسبب ذكر هذا القيد أن الإقدام على الفعل الضَّار مع العلم بكونه ضارّاً أفحش من الإقدام عليه عند الجَهْلِ بكونه ضارّاً ، فلما كانوا عالمين [ بما ] في التلبيس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح .

ويجوز أن تكون جملة خبرية عطفت على جملة طلبية ، كأنه تعالى نَعَى عليهم كتمهم الحقّ مع علمهم أنه حق .

[ ومفعول ] العلم غير مُرَاد ؛ لأن المعنى : وأنتم من ذوي العلم .

وقيل : حذف للعلم به ، والتقدير : تعلمون الحقّ من الباطل .

وقدره " الزمخشري " : " وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون " ، فجعل المفعول اللَّبْس والكَتْم المفهومين من الفعلين السابقين . وهو حسن .


[1275]:- ينظر المحرر الوجيز: 1/136.
[1276]:- ينظر الفخر الرازي: 3/41.