وقوله - تعالى - : { والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان . . . } أى : والسماء أوجدها بقدرته مرفوعة بدون أعمدة ، وأنتم ترون ذلك بأعينكم .
فالمقصود بقوله { رَفَعَهَا } لفت الأنظار إلى مظاهر قدرته - تعالى - ، وإلى وجوب شكره وإخلاص العبادة له ، والتزام طاعته .
والميزان : يطلق على الآلة التى يزن الناس بها ما يريدون وزنه من الأشياء المختلفة .
والمراد به هنا : وجوب التزام العدل فى الأحكام ، وشاع إطلاق الميزان على العدل فى الأحكام ، لأن كليهما تضبط به الأحكام ، وتنال الحقوق . أى : والسماء خلقها مرفوعة ابتداء ، وشرع وأثبت العدل وأمر باتباعه فى الأقوال والأحكام ، ليستقيم أمر الناس .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { وَوَضَعَ الميزان } أى : شرع العدل وأمر به ، لينتظم أمر العالم ويستقيم ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " بالعدل قامت السموات والأرض " أى : بقيتا على أتقن نظام . . . وتفسير الميزان بالعدل ، هو المروى عن مجاهد ، والطبرى ، والأكثرين ، وهو مستعار للعدل استعارة تصريحية .
وعن ابن عباس والحسن وقتادة ، أن المراد بالميزان ما تعرف به مقادير الأشياء ، وهو الآلة المسماة بهذا الاسم . . أى : أوجده فى الأرض ليضبط الناس معاملاتهم فى أخذهم وعطائهم .
( والسماء رفعها ووضع الميزان . ألا تطغوا في الميزان . وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) .
والإشارة إلى السماء - كباقي الإشارات القرآنية إلى مجالي هذا الكون - تقصد إلى تنبيه القلب الغافل ، وإنقاذه من بلادة الألفة ، وإيقاظه لعظمة هذا الكون وتناسقه وجماله ، وإلى قدرة اليد التي أبدعته وجلالها .
والإشارة إلى السماء - أيا كان مدلول السماء - توجه النظر إلى أعلى . إلى هذا الفضاء الهائل السامق الذي لا تبدو له حدود معروفة ؛ والذي تسبح فيه ملايين الملايين من الأجرام الضخمة ، فلا يلتقي منها اثنان ، ولا تصطدم مجموعة منها بمجموعة . ويبلغ عدد المجموعة أحيانا ألف مليون نجم ، كمجموعة المجرة التي ينتسب إليها عالمنا الشمسي ، وفيها ما هو أصغر من شمسنا وما هو أكبر ألاف المرات . شمسنا التي يبلغ قطرها مليونا وثلث مليون كيلو متر ! ! ! وكل هذه النجوم ، وكل هذه المجموعات تجري في الكون بسرعات مخيفة ، ولكنها في هذا الفضاء الهائل ذرات سابحة متباعدة ، لا تلتقي ، ولا تتصادم !
وإلى جوار هذه العظمة في رفع هذه السماء الهائلة الوسيعة ( وضع الميزان )ميزان الحق . وضعه ثابتا راسخا مستقرا . وضعه لتقدير القيم . قيم الأشخاص والأحداث والأشياء . كي لا يختل تقويمها ، ولا يضطرب وزنها ، ولا تتبع الجهل والغرض والهوى . وضعه في الفطرة ووضعه في هذا المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسالات وتضمنه القرآن :
والسماء رفعها خلقها مرفوعة محلا ومرتبة فإنها منشأ أقضيته ومتنزل أحكامه ومحل ملائكته وقرئ بالرفع على الابتداء ووضع الميزان العدل بأن وفر على كل مستعد مستحقه ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال صلى الله عليه وسلم بالعدل قامت السموات والأرض أو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما كأنه لما وصف السماء بالرفعة من حيث إنها مصدر القضايا والإقرار أراد وصف الأرض بما فيها مما يظهر به التفاوت ويعرف به المقدار ويسوى به الحقوق والواجب .
اطّرد في هذه الآية أسلوب المقابلة بين ما يُشبه الضدين بعد مقابلةِ ذِكر الشمس والقمرِ بذِكر النجممِ والشجر ، فجيء بِذكر خلق السماء وخلق الأرض .
وعاد الكلام إلى طريقة الإِخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي كما في قوله : { الرحمن علم القرآن } [ الرحمن : 1 ، 2 ] ، وهذا معطوف على الخبر فهو في معناه .
ورفع السماء يقتضي خلقَها . وذُكر رفعها لأنه محل العبرة بالخلق العجيب . ومعنى رفعها : خلقُها مرفوعة إذ كانت مرفوعة بغير أعمدة كما يقال للخياط : وسّع جيب القميص ، أي خِطْه واسعاً على أن في مجرد الرفع إيذاناً بسموّ المنزلة وشرفها لأن فيها منشأَ أحكام الله ومصدرَ قضائه ، ولأنها مكان الملائكة ، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه .
وتقديم السماء على الفعل الناصب له زيادةٌ في الاهتمام بالاعتبار بخلقها .
و { الميزان } : أصله اسمُ آلة الوزن ، والوزن تقديرُ تعادُللِ الأشياء وضبط مقادير ثقلها وهو مِفعال من الوزن ، وقد تقدم في قوله تعالى : { والوزن يومئذٍ الحق فمن ثقلت موازينه } في سورة الأعراف ( 8 ) ، وشاع إطلاق الميزان على العدل باستعارة لفظ الميزان للعدل على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس .
والميزان هنا مراد به العدل ، مثل الذي في قوله تعالى : { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } [ الحديد : 25 ] لأنه الذي وضعه الله ، أي عيّنه لإِقامة نظام الخلق ، فالوضع هنا مستعار للجعل فهو كالإِنزال في قوله : { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } . ومنه قول أبي طلحة الأنصاري « وإنّ أحبَّ أموالي إليّ بئرحاءٍ وأنها صدقة لله فضَعْهَا يا رسول الله حيثُ أراكَ الله » أي اجعلها وعينها لما يدُلُّك الله عليه فإطلاق الوضع في الآية بعد ذكر رفع السماء مشاكلة ضِدية وإيهامُ طباق مع قوله : { رفعها } ففيه محسِّنان بديعيان .
وقرن ذلك مع رفع السماء تنويهاً بشأن العدل بأن نسب إلى العالم العلوي وهو عالم الحق والفضائل ، وأنه نزل إلى الأرض من السماء أي هو مما أمر الله به ، ولذلك تكرر ذلك العدل مع ذكر خلق السماء كما في قوله تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق } في سورة يونس ( 5 ) ، وقوله : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق } في سورة الحجر ( 85 ) ، وقوله : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق } في سورة الدخان ( 38 ، 39 ) . وهذا يصدّق القول المأثور : بالعدل قامت السماوات والأرض . وإذ قد كان الأمر بإقامة العدل من أهم ما أوصى الله به إلى رسوله قُرن ذكر جعله بذكر خلق السماء فكأنه قيل ووضع فيها الميزان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.