ولقد كذبهم الله - تعالى - تكذيباً مؤكداً في دعواهم أنهم مصلحون فقال : { ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } . فأنت ترى أن القرآن الكريم قد وضع في الرد عليهم جملة صدرها بأداة الاستفتاح إيذاناً بأن ما قالوه يجب أن يهمل إهمالاً ، بل يجب أن يكون وصفهم بالإِفساد قضية مبتدأة مقررة حتى يتلقاها السامع وهو منتبه النفس ، حاصر الذهن .
ثم أكد الجملة بعدة تأكيدات منها : وصل " ألا " " بإن " الدالة على تأكيد الخبر وتحقيقه ، ومنها تأكيد الضمير بضمير منفصل حتى يتم التصاق الخبر بالمبتدأ ، ومنها اسمية الجملة ، ومنها إفادة قصرهم على الإِفساد في مقابل تأكيدهم أنهم هم المصلحون .
ولما كان هذا الرد المؤكد عليهم يستدعي عجباً ، لأنهم زعموا أنهم لا حال لهم إلا الاصلاح ، مع أنهم في الحقيقة لا حال لهم إلا الإفساد ، لما كان الأمر كذلك ، فقد أزال القرآن هذا العجب بقوله : { ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } . أي : أنهم ما قالوه إلا عن غباء استولى على إحساسهم ، ونفي عنهم الشعور بما يصدر عنهم من الفساد ، فأمسوا لا يدركون من شأن أنفسهم شيئاً ، ومن أسوأ ألوان الجهل أن يكون الإِنسان مفسداً ولا يشعر بذلك ، مع أن أثر فساده ظاهر في العيان ، مرئى لكل ذي حس . فعدم شعورهم بالفساد الواقع منهم منبئ باختلاف آلات إدراكهم ، حتى صاروا يحسبون الفساد صلاحاً ، والشر خيراً . وليس عدم شعورهم رافعاً العقاب عنهم ، لأن الجاهل لا يعذر بجهله خصوصاً إذا كان جهله يزول بأدنى تأمل لوضوح الأدلة ، وسطوع البراهين .
{ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } رد لما ادعوه أبلغ رد للاستئناف به وتصديره بحرفي التأكيد : { ألا } المنبهة على تحقيق ما بعدها فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقا ، ونظيره { أليس ذلك بقادر } ، ولذلك لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يلتقي به القسم ، وأختها أما التي هي من طلائع القسم : وإن المقررة للنسبة ، وتعريف الخبر وتوسيط الفصل لرد ما في قولهم { إنما نحن مصلحون } من التعريض للمؤمنين ، والاستدراك ب{ لا يشعرون } .
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُون ( 12 )
و { ألا } استفتاح كلام ، و «إن » بكسر الألف استئناف ، و { هم } الثاني رفع بالابتداء ، و { المفسدون } خبره والجملة خبر «إن » ، ويحتمل أن يكون فصلاً ويسميه الكوفيون : «العماد » ويكون { المفسدون } خبر «إن » فعلى هذا لا موضع ل { هم } من الإعراب ، ويحتمل أن يكون تأكيداً للضمير في أنهم فموضعه نصب ، ودخلت الألف واللام في قوله : { المفسدون } لما تقدم ذكر اللفظة في قوله : { لا تفسدوا } فكأنه ضرب من العهد ، ولو جاء الخبر عنهم ولم يتقدم من اللفظة ذكر لكان ألا إنهم مفسدون ، قاله الجرجاني .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الألف واللام تتضمن المبالغة( {[236]} ) كما تقول زيد هو الرجل أي حق الرجل ، فقد تستغني عن مقدمة تقتضي عهداً ، و { لكن } بجملته حرف استدراك ، ويحتمل أن يراد هنا لا يشعرون أنهم مفسدون ، ويحتمل أن يراد لا يشعرون أن الله يفضحهم ، وهذا مع أن يكون قولهم { إنما نحن مصلحون } جحداً محضاً للإفساد . والاحتمال الأول هو بأن يكون قولهم : { إنما نحن مصلحون } اعتقاداً منهم أنه صلاح في صلة القرابة ، أو إصلاح بين المؤمنين والكافرين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله سبحانه: {ألا إنهم هم المفسدون}، يعني العاصين، {ولكن لا يشعرون} بأنهم مفسدون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{أَلآ إِنّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِن لاّ يَشْعُرُونَ} وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيب للمنافقين في دعواهم إذا أمروا بطاعة الله فيما أمرهم الله به، ونُهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه. قالوا: إنما نحن مصلحون لا مفسدون، ونحن على رشد وهدى فيما أنكرتموه علينا دونكم لا ضالون. فكذبهم الله عزّ وجلّ في ذلك من قيلهم، فقال:"ألا إنّهُمُ هُمُ المُفْسِدُونَ" المخالفون أمر الله عزّ وجل، المتعدّون حدوده، الراكبون معصيته، التاركون فروضه، وهم لا يشعرون ولا يدرون أنهم كذلك. لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين وينهونهم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يقال: كفى لصاحب الكذب فضيحة بأن يقال له في وجهه كذبتَ، فهم لمَّا قالوا إنما نحن مصلحون، أكذبهم الحق سبحانه فقال: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}: أنَّا نَعْلَمُهم فَنَفْضَحُهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَلآ إِنّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِن لاّ يَشْعُرُونَ}: {ألآ} مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي، لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً كقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر} [القيامة: 40]؛ ردّ الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ ردّ وأدله على سخط عظيم، والمبالغة فيه من جهة الاستئناف وما في كلتا الكلمتين ألا. وإن من التأكيدين وتعريف الخبر وتوسيط الفصل.
وقوله: {لاَّ يَشْعُرُونَ} أتوهم في النصيحة من وجهين:
أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده من الصواب وجرّه إلى الفساد والفتنة.
والثاني: تبصيرهم الطريق الأسد من أتباع ذوي الأحلام، ودخولهم في عدادهم؛ فكان من جوابهم أن سفهوهم لفرط سفههم، وجهلوهم لتمادي جهلهم. وفي ذلك تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{أَلآ إِنّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}: قال القاضي أبو محمد: وهذه الألف واللام تتضمن المبالغة، كما تقول: زيد هو الرجل، أي حق الرجل.
{وَلكِن لاّ يَشْعُرُونَ}: يحتمل أن يراد هنا لا يشعرون أنهم مفسدون. ويحتمل أن يراد لا يشعرون أن الله يفضحهم، وهذا مع أن يكون قولهم {إنما نحن مصلحون} جحداً محضاً للإفساد. والاحتمال الأول هو بأن يكون قولهم: {إنما نحن مصلحون} اعتقاداً منهم أنه صلاح في صلة القرابة، أو إصلاح بين المؤمنين والكافرين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان حالهم مبنياً على الخداع بإظهار الخير وإبطان الشر، وكانوا يرون إفسادهم لما لهم من عكس الإدراك إصلاحاً، فكانوا يناظرون عليه بأنواع الشبه، كان قولهم ربما غرّ من سمعه من المؤمنين؛ لأن المؤمن غرّ كريم والكافر خِبّ لئيم، فقال تعالى محذراً من حالهم مثبتاً لهم ما نفوه عن أنفسهم من الفساد وقاصراً له عليهم {ألا إنهم هم} أي خاصة {المفسدون} أي الكاملو الإفساد البالغون من العراقة فيه، ما يجعل إفساد غيرهم بالنسبة إلى إفسادهم عدماً، لما في ذلك من خراب ذات البين وأخذ المؤمن من المأمن.
وقال الحرالي: ولما كان حال الطمأنينة بالإيمان إصلاحاً، وجب أن يكون اضطرابهم فيه إفساداً، لا سيما مع ظنهم أن كونهم مع هؤلاء تارة ومع هؤلاء تارة من الحكمة والإصلاح، وهو عين الإفساد، لأنه بالحقيقة مخالفة هؤلاء وهؤلاء فقد أفسدوا طرفي الإيمان والكفر، ولذلك قيل: ما يصلح المنافق، لأنه لا حبيب مصاف ولا عدو مبائن، فلا يعتقد منه على شيء -انتهى.
ولما كان هذا الوصف موجباً لعظيم الرهبة، أتبعه ما يخففه بقوله: {ولكن لا يشعرون} أي هم في غاية الجلافة حتى لا شعور لهم يحسنون به التصرف فيما يحاولونه من الفساد الآن بما دلت عليه ما في الآية السابقة الدالة على أن المضارع للحال، ولا فيما يستقبل من الزمان...، فلأجل ذلك لا يؤثر إفسادهم إلا في أذى أنفسهم، فلا تخافوهم فإني كافيكموهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ألا إنهم هم المفسدون} فابتدأ الكلام المؤكد لإثبات إفسادهم بكلمة "ألا "التي يراد بها التنبيه والإيقاظ وتوجيه النظر، وتدل على اهتمام المتكلم بما يحكيه بعدها {ولكن لا يشعرون} بأن هذا إفساد غرز في طبائعهم، بما تمكن فيها من الشبهة بتقليد رؤسائهم الذين أشربوا عظمتهم. وهذا دليل على أنهم لم يكونوا معاندين ولا مرائين، وأنهم على اعتقاد ضعيف لا يشهد له العمل كما تقدم في تفسير آية {يخادعون الله}.
وإذا كانت الآيات في وصف طائفة من الناس توجد في كل أمة كما قدمنا فليحاسب بها نفسه كل مسلم يعتقد أن القرآن إمامه، وأن فيه هدى له فإنها حجة على كثير ممن يدعون الإسلام بالقول ويعملون بخلاف ما جاء به، ويتبعون غير سبيله؟
ودعواهم أن هذا إصلاح كدعواهم الإيمان، وكل مفسد وضال يسمى إفساده وضلاله بأسماء حسنة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله: {ولكن لا يشعرون} مَحمَلُه مَحْمَلُ قوله تعالى قبله: {وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون} [البقرة: 8] فإن أفعالهم التي يبتهجون بها ويزعمونها منتهى الحذق والفطنة وخدمةِ المصلحة الخالصة آيلة إلى فساد عام لا محالة، إلاَّ أنهم لم يهتدوا إلى ذلك لخفائه وللغشاوة التي ألقيت على قلوبهم من أثر النفاق ومخالطة عظماء أهله، فإن حال القرين وسخافة المذهب تطمس على العقول النيرة وتَخِفُّ بالأحلام الراجحة حتى تَرى حسناً ما ليس بالحَسَن.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإذا كان فسادهم قد ذاع وشاع فسببه أنهم جعلوا أنفسهم في حيز فكري ونفسي وأهل الإيمان في حيز غيره، وشأن المنافق دائما أنه يعتقد أنه في مكانة من الفكر والتدبر، وغيره ممن يدركون الحق في سفه وحمق، فهم يريدون أن يصرفوهم عن الإيمان ليضلوهم، ويفتنوهم لولا أن يتداركهم الله برحمته، فيستنقذهم منهم.
وهكذا يعطينا الله سبحانه وتعالى حكمه عليهم بأنهم كما أنهم يخدعون أنفسهم ولا يشعرون ويحسبون أنهم يخدعون الله سبحانه وتعالى والمؤمنين. كذلك فإنهم يفسدون في الأرض ويدعون أنهم مصلحون، ولكنهم في الحقيقة مفسدون لماذا؟.. لأن في قلوبهم كفراً وعداء لمنهج الله، فلو قاموا بأي عمل يكون ظاهره الإصلاح، فحقيقته هي الإفساد، تماماً كما ينطقون بألسنتهم بما ليس في قلوبهم.
والكون لا يصلح إلا بمنهج الله، فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق، وهو الذي أوجد، وهو أدرى بصنعته وبما يفسدها وبما يصلحها، لأنه هو الصانع، ولا يوجد من يعلم سر ما يصلح صنعته أكثر من صانعها.
ونحن في المنهج الدنيوي إذا أردنا إصلاح شيء اتجهنا لصانعه؛ فهو الذي يستطيع أن يدلنا على الإصلاح الحقيقي لهذا الشيء، فإذا لم يكن صانعه موجوداً في نفس البلدة.. اتجهنا إلى من دربهم الصانع على الإصلاح، أو إلى ما يسمونه "الكتالوج [دليل الاستعمال] "الذي يبين لنا طريق الإصلاح، وبدون هذا لا نصلح، بل نفسد، والعجيب أننا نتبع هذه الطريقة في حياتنا الدنيوية، ثم نأتي إلي الإنسان والكون، فبدلا من أن نتجه إلى صانعه وخالقه لنأخذ عنه منهج الإصلاح، وهو أدرى بصنعته، نتيجة إلى خلق الله يضعون لنا المناهج التي تفسد، وظاهرها الإصلاح لكنها تزيد الأمور سوءا والغريب أننا نسمي هذا فلاحا، ونسميه تقدما. ولكن لماذا لا نتجه إلى الصانع أو الخالق، الذي أوجد وخلق؟ هو سبحانه وتعالى أدرى بخلقه وبما يصلحهم وما يفسدهم.
ومادام الحق سبحانه وتعالى، قد حكم على المنافقين، بأنهم هم المفسدون فذلك حكم يقيني، وكل من يحاول أن يغير من منهج الله، أو يعطل تطبيقه بحجة الإصلاح، فهو مفسد وإن كان لا يشعر بذلك، لأنه لو أراد إصلاحا لاتجه إلي ما يصلح الكون، وهو المنهج السماوي الذي أنزله خالق هذا الكون وصانعه، وهذا المنهج موجود ومبلغ ولا يخفى على أحد.
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
وحصر الافساد في هؤلاء، لأنهم بمسلكهم الملتوي وسلوكهم المتلون أخطر ما يكونون بين الناس، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأن تتفشى العداوة بين الناس، وأن تتقطع الصلات بين الأقربين، وأن تتحول أسباب الخير، والرحمة، والمودة، إلى أضدادها.
وإنما يحول بينهم وبين إدراك خطأ ما هم فيه وضرر ما هم عليه؛ تبلد أذهانهم وانطماس بصائرهم حتى صاروا لا يشعرون فظنوا الشر خيرا، وسموا الإِفساد إصلاحا.
ونفي الشعور عنهم يعم نفي شعورهم بسوء حالهم في الدنيا، وشر مآلهم في الآخرة، فإنهم لو رُزقوا شيئا من نور العقل لأدركوا أن ما يزعمونه إصلاحا ويعتقدونه صلاحا، هو مفتاح كل شر على أنفسهم، ولأدركوا أن عاقبة مكرهم ستحيق بهم {وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}، ولو فكروا قليلا فيما بعد هذه الحياة لبادروا إلى الإِقلاع عن حالتهم والرجوع عن غيهم. والظاهر أن الشعور المنفي هنا هو شعور مقيد، وهو إدراك خطأ ما يأتونه من الأعمال التي يعاكسون بها دعوة المصلحين، أو إدراكهم شر ما ينتظرهم من العذاب في الآخرة ومن المهانة في الدنيا...
وقيل هو مطلق الشعور؛ للإِيغال في ذمهم والمبالغة في تسفيههم، فقد أُنزلوا منزلة البهائم العجماء التي لا تميز بين الخير والشر، ولا تفرق بين النافع والضار،
وعليه ففي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين حتى لا يبالوا بما يلقونه من عنت هؤلاء المنافقين، ومن نظرائهم في كل عصر، وذلك أن مسلك أهل النفاق لا يكاد يختلف بين زمان وآخر، وما يلقاه منهم المؤمنون الصالحون صورة متكررة مما صدر من أسلافهم الذين كانوا مصدر عنت وبلاء في عهد النبوة، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علو منزلته ورفعة قدره عند الله قد لاقى الذي لاقاه منهم، فلا عجب إن لقي أتباعه صلى الله عليه وسلم في العصور المتتابعة من سفه الضالين وعنت المنافقين ما يكاد يزهق النفوس ويطير العقول؛ لولا صلتها بالله وثقتها بوعده.