ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن هؤلاء المنافقين ، فوبختهم على سوء فهمهم ، وعلى جبنهم وخورهم ، وعلى سلاطة ألسنتهم . . فقال - تعالى - : { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار . . . . مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً } .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المنافقين : { لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت أَوِ القتل } ، لأن كل إنسان لا بد له من نهاية تنتهى عندها حياته ، سواء أكانت تلك النهاية عن طريق القتل بالسيف ، أم عن طريق الموت على الفراش .
وما دام الأمر كذلك ، فعلى هؤلاء المنافقين أن يعلموا : أن الجبن لا يؤخر الحياة ، وأن الشجاعة لا تقدمها عن موعدها . وصدق الله إذ يقول : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } وقوله : { إِن فَرَرْتُمْ . . . } جوابه محذوف لدلالة ما سبق عليه . أى : إن فررتم لن ينفعكم فراركم .
وقوله : { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } تذييل قصد به زجرهم عن الجبن الذى استولى عليهم .
أى : إن فراركم من الموت أو القتل ، إن نفعكم - على سبيل الفرض - لفترة من الوقت ، فلن ينفعكم طويلا ، لأنكم لن تتمتعوا بالحياة بعد هذا الفرار إلا وقتا قليلا ، ثم ينزل بكم قضاء الله - تعالى - الذى لا مرد لكم منه ، فما تفرون منه هو نازل بكم قطعا .
وعند هذا المقطع - وهم أمام العهد المنقوض ابتغاء النجاة من الخطر والأمان من الفزع - يقرر القرآن إحدى القيم الباقية التي يقررها في أوانها ؛ ويصحح التصور الذي يدعوهم إلى نقض العهد والفرار :
قل : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ؛ وإذن لا تمتعون إلا قليلا . قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ؛ ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا . .
إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر ، يدفعها في الطريق المرسوم ، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة . والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه ، في موعده ، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر . ولن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم عن فار . فإذا فروا فإنهم ملاقون حتفهم المكتوب ، في موعده القريب . وكل موعد في الدنيا قريب ، وكل متاع فيها قليل . ولا عاصم من الله ولا من يحول دون نفاذ مشيئته . سواء أراد بهم سوءا أم أراد بهم رحمة ، ولا مولى لهم ولا نصير ، من دون الله ، يحميهم ويمنعهم من قدر الله .
فالاستسلام الاستسلام . والطاعة الطاعة . والوفاء الوفاء بالعهد مع الله ، في السراء والضراء . ورجعالأمر إليه ، والتوكل الكامل عليه . ثم يفعل الله ما يشاء .
جواب عن قولهم { إن بيوتنا عورة } [ الأحزاب : 13 ] ولذلك فصِّلت لأنها جرت على أسلوب التقاول والتجاوب ، وما بين الجملتين من قوله { ولو دُخِلت عليهم إلى قوله مسؤولاً } [ الأحزاب : 14 15 ] اعتراض كما تقدم . وهذا يرجح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم بالرجوع إلى المدينة وأنه ردّ عليهم بما أمره الله أن يقوله لهم ، أي : قد علم الله أنكم ما أردتم إلا الفرار جبناً والفرار لا يدفع عنكم الموت أو القتل ، فمعنى نفي نفعه : نفيُ ما يقصد منه لأن نفع الشيء هو أن يحصل منه ما يقصد له .
فقوله { من الموت } يتعلق ب { الفرار وفررتم } وليس متعلقاً ب { ينفعكم } لأن متعلق { ينفعكم } غير مذكور لظهوره من السياق ، فالفائدة مستغنية عن المتعلق ، أي : لن ينفعكم بالنجاة .
ومعنى نفي نفع الفرار وإن كان فيه تعاطي سبب النجاة ، هذا السبب غير مأذون فيه لوجوب الثبات في وجه العدوّ مع النبي صلى الله عليه وسلم فيتمحض في هذا الفرار مراعاةُ جانب الحقيقة وهو ما قُدر للإنسان من الله إذ لا معارض له ، فلو كان الفرار مأذوناً فيه لجاز مراعاة ما فيه من أسباب النجاة ؛ فقد كان المسلمون مأمورين بثبات الواحد للعشرة من العدوّ فكان حينئذ الفرار من وجه عشرة أضعاففِ المسلمين غير مأذون فيه وأذن فيما زاد على ذلك ، ولما نسخ الله ذلك بأن يثبت المسلمون لِضِعف عددهم من العدوّ فالفرار فيما زاد على ذلك مأذون فيه ، وكذلك إذا كان المسلمون زحفاً فإن الفرار حرام ساعتئذ .
وأحسب أن الأمر في غزوة الخندق كان قبل النسخ فلذلك وبّخ الله الذين أضمروا الفرار فإن عدد جيش الأحزاب يومئذ كان بمقدار أربعة أمثال جيش المسلمين ولم يكن المسلمون يومئذ زحفاً فإن الحالة حالة حصار . ويجوز أن يكون المعنى أيضاً : أنكم إن فررتم فنجوتم من القتل لا ينفعكم الفرار من الموت بالأجل وعسى أن تكون آجالكم قريبة .
و { الموت } أريد به : الموت الزُؤام وهو الموت حتف أنفه لأنه قوبل بالقتل . والمعنى : أن الفرار لا يدفع الموت الذي علم الله أنه يقع بالفار في الوقت الذي علم أن الفار يموت فيه ويقتل فإذا خُيِّل إلى الفارّ أن الفرار قد دفع عنه خطراً فإنما ذلك في الأحوال التي علم الله أنها لا يصيب الفارَّ فيها أذى ولا بدّ له من موت حتف أنفه أو قتل في الإبان الذي علم الله أنه يموت فيه أو يُقتل . ولهذا عقب بجملة وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً } جواباً عن كلام مقدر دل عليه المذكور ، أي إن خيل إليكم أن الفرار نفع الذي فرّ في وقت ما فما هو إلاّ نفع زهيد لأنه تأخير في أجل الحياة وهو متاع قليل ، أي : إعطاء الحياة مدة منتهية ، فإن { إذن } قد تكون جواباً لمحذوف دل عليه الكلام المذكور ، كقول العنبري :
لو كنت من مأزن لم تستبح إبلي *** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبان
إذنْ لقام بنصري معشر خشـن *** عنـد الحفيظة إنْ ذو لَوْثَة لاَنا
فإن قوله : إذن لقام بنصري ، جواب وجزاء عن مقدر دل عليه : لم تستبح إبلي . والتقدير : فإن استباحوا إبلي إذَنْ لقام بنصري معشر ، وهو الذي أشعر كلام المرزوقي باختياره خلافاً لما في « مغني اللبيب » .
والأكثر أن { إذن } إن وقعت بعد الواو والفاء العاطفتين أن لا ينصب المضارع بعدها ، وورد نصبه نادراً .
والمقصود من الآية تخليق المسلمين بخُلق استضعاف الحياة الدنيا وصرف هممهم إلى السعي نحو الكمال الذي به السعادة الأبدية سيراً وراء تعاليم الدين التي تقود النفوس إلى أوج الملَكية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.