وهنا يرد عليهم إبراهيم - عليه السلام - بتهكم ظاهر ، واستهزاء واضح فيقول : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } يعنى الذى تركه بدون تحطيم ، فإن كنتم لم تصدقوا قولى { فَاسْأَلُوهُمْ } عمن فعل بهم ذلك { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } أى : إن كانوا ممن يتمكن من النطق أجابوكم وأخبروكم عمن فعل بهم ما فعل .
فأنت ترى أن إبراهيم - عليه السلام - لم يقصد بقوله هذا الإخبار بأن كبير الأصنام هو الذى حطمها ، أو سؤالهم للأصنام عمن حطمها ، وإنما الذى يقصده هو الاستهزاء بهم ، والسخرية بأفكارهم ، فكأنه يقول لهم : إن هذه التماثيل التى تعبدونها من دون الله . لا تدرى إن كنت أنا الذى حطمتها أم هذا الصنم الكبير ، وأنتم تعرفون أنى قد بقيت قريبا منها بعد أن وليتم عنها مدبرين ، وإذا كان الأمر كذلك فانظروا من الذى حطمها إن كانت لكم عقول تعقل ؟
قال صاحب الكشاف : هذا - أى قول إبراهيم لهم : بل فعله كبيرهم هذا - من معاريض الكلام ، ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الخاصة من علماء المعانى .
والقول فيه أن قصد إبراهيم - عليه السلام - لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، وإنما قصد تقريره لنفسه ، وإثباته لها على أسلوب تعريضى ، يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم .
وهذا كما لو قال لك صاحبك ، وقد كتبت كتابا بخط رشيق - وأنت شهير بحسن الخط - : أأنت كتبت هذا ؟ وصاحبك أمى لا يحسن الخط ، ولا يقدر إلى على خربشة فاسدة - أى كتابة رديئة - فقلت له : بل كتبته أنت ، كان قصدك بهذا الجواب ، تقرير أن هذه الكتابة لك . مع الاستهزاء به . . .
وهذا التفسير للآية الكريمة من أن إبراهيم - عليه السلام - قد قال لقومه ما قال من سبيل الاستهزاء بهم ، هو الذى تطمئن إليه قلوبنا ، وقد تركنا أقوالا أخرى للمفسرين فى معنى الآية ، نظرا لضعف هذه الأقوال بالنسبة لهذا القول .
فأما إبراهيم فهو يتهكم بهم ويسخر منهم ، وهو فرد وحده وهم كثير . ذلك أنه ينظر بعقله المفتوح وقلبه الواصل فلا يملك إلا أن يهزأ بهم ويسخر ، وأن يجيبهم إجابة تناسب هذا المستوى العقلي الدون :
( قال : بل فعله كبيرهم هذا . فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) . .
والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر . فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم - عليه السلام - والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون . فالأمر أيسر من هذا بكثير ! إنما أراد أن يقول لهم : إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا . فهي جماد لا إدراك له أصلا . وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل . فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم إن هذا التمثال هو الذي حطمها ! ( فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) !
قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وقوله { إِنِّي سَقِيمٌ } قال : " وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة ، إذ نزل منزلا فأتى الجبار رجل ، فقال : إنه قد نزل بأرضك رجل معه امرأة أحسن الناس ، فأرسل إليه فجاء ، فقال : ما هذه المرأة منك ؟ قال : هي أختي . قال : فاذهب فأرسل بها إليّ ، فانطلق إلى سارة فقال : إن هذا الجبار{[19677]} سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني عنده ، فإنك أختي في كتاب الله ، وأنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك ، فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي . فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها ، فتناولها ، فأخذ أخذًا شديدًا ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت له فأرسل ، فأهوى إليها ، فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد . ففعل ذلك الثالثة فأخذ ، [ فذكر ]{[19678]} مثل المرتين الأوليين{[19679]} فقال ادعي الله فلا أضرك . فدعت ، له فأرسل ، ثم دعا أدنى حجابه ، فقال : إنك لم تأتني بإنسان ، وإنما{[19680]} أتيتني بشيطان ، أخرجها وأعطها هاجر ، فأخرجت وأعطيت هاجر ، فأقبلت ، فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته ، قال{[19681]} : مَهْيَم ؟ قالت : كفى الله كيد الكافر الفاجر ، وأخدمني هاجر " قال محمد بن سيرين{[19682]} وكان{[19683]} : أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال : فتلك أمكم يا بني ماء السماء{[19684]}
{ قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون } أسند الفعل إليه تجوزا لأن غيظه لما رأى من زيادة تعظيمهم له تسبب لمباشرته إياه ، أو تقريرا لنفسه مع الاستهزاء والتبكيت على أسلوب تعريضي كما لو قال لك من لا يحسن الخط فيما كتبته بخط رشيق : أأنت كتبت هذا فقلت بل كتبته أنت ، أو حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه ، وقيل إنه في المعنى متعلق بقوله { إن كانوا ينطقون } وما بينهما اعتراض أو ضمير { فتى } أو { إبراهيم } ، وقوله { كبيرهم هذا } مبتدأ وخبر ولذلك وقف على فعله . وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال " لإبراهيم ثلاث كذبات " تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته .
فقال لهم إبراهيم عليه السلام { بل فعله كبيرهم } هذا على معنى الاحتجاج عليهم أي إنه غار من أن يعبد وتعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك ، وقالت فرقة هي الأكثر إن هذا الكلام قاله إبراهيم عليه السلام لأنها كذبة في ذات الله تؤدي إلى خزي قوم كافرين والحديث الصحيح يقتضي ذلك وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم ، «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات : قوله { إني سقيم } [ الصافات : 89 ] وقوله { بل فعله كبيرهم هذا } وقوله للملك هي اختي »{[2]} ثم تطرق إلى موضع خزيهم بقوله { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } على جهة التوقيف ع وذهبت فرقة إلى نفي الكذب عن هذه المقالات ، وقالت فرقة معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لم يكذب إبراهيم » أي لم يقل كلاماً ظاهره الكذب أو يشبه الكذب وذهبت إلى تخريج هذه المقالات فخرجت هذه الآية على معنى أنه أراد تعليق فعل الكبير بنطق الآخرين كأنه قال بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء ولم يخرج الخبر ، على أن الكبير فعل ذلك ، وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله { فاسألوهم } وذهب الفراء إلى جهة أخرى بأن قال قوله { فعله } ليس من الفعل وإنما هو فلعله على جهة التوقع حذف اللام على قولهم عله بمعنى لعله ثم خففت اللام{[3]} ع وهذا تكلف{[4]} .
قوله تعالى { بل } إبطال لأن يكون هو الفاعل لذلك ، فنفى أن يكون فعَل ذلك ، لأن ( بل ) تقتضي نفي ما دل على كلامهم من استفهامه .
وقوله تعالى { فعله كبيرهم هذا } الخبر مستعمل في معنى التشكيك ، أي لعله فعله كبيرهم إذ لم يقصد إبراهيم نسبة التحطيم إلى الصنم الأكبر لأنه لم يدع أنه شاهد ذلك ولكنه جاء بكلام يفيد ظنه بذلك حيث لم يَبق صحيحاً من الأصنام إلا الكبير . وفي تجويز أن يكون كبيرهم هذا الذي حطمهم إخطار دليل انتفاء تعدد الآلهة لأنه أوهمهم أن كبيرهم غضب من مشاركة تلك الأصنام له في المعبودية ، وذلك تدرّج إلى دليل الوحدانية ، فإبراهيم في إنكاره أن يكون هو الفاعل أراد إلزامهم الحجة على انتفاء ألوهية الصنم العظيم ، وانتفاء ألوهية الأصنام المحطمة بطريق الأوْلى على نية أن يكر على ذلك كله بالإبطال ويوقنهم بأنه الذي حطم الأصنام وأنها لو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها ولو كان كبيرهم كبير الآلهة لدفع عن حاشيته وحرفائه ، ولذلك قال { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } تهكُّماً بهم وتعريضاً بأن ما لا ينطق ولا يعرب عن نفسه غير أهل للآلهية .
وشمل ضمير { فاسألوهم } جميع الأصنام ما تحطم منها وما بقي قائماً . والقوم وإن علموا أن الأصنام لم تكن تتكلم من قبل إلا أن إبراهيم أراد أن يقنعهم بأن حدثاً عظيماً مثل هذا يوجب أن ينطقوا بتعيين من فعلَه بهم . وهذا نظير استدلال علماء الكلام على دلالة المعجزة على صدق الرسول بأن الله لا يخرق عادة لتصديق الكاذب ، فخلقه خارق العادة عند تحدّي الرسول دليل على أن الله أراد تصديقه .
وأما ما روي في « الصحيح » عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثَ كَذبات ثنتين منها في ذات الله عزّ وجل قوله { إني سقيم } [ الصافات : 89 ] وقوله { بل فعله كبيرهم هذا } . وبيْنَا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فقيل له : إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فقال : من هذه ؟ قال : أختي . فأتى سارة فقال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وأن هذا سألني فأخبرته أنككِ أختي فلا تكذبيني . . . " وساق الحديث .
فمعناه أنه كذب في جوابه عن قول قومه : { أأنت فعلت هذا بآلهتنا } حيث قال : { بل فعله كبيرهم هذا } ، لأن ( بل ) إذا جاء بعد استفهام أفاد إبطال المستفهم عنه . فقولهم : { أأنت فعلتَ هذا } سؤال عن كونه محطمَ الأصنام ، فلما قال : { بل } فقد نفى ذلك عن نفسه ، وهو نفي مخالف للواقع ولاعتقاده فهو كذب .
غير أن الكذب مذموم ومنهي عنه ويرخص فيه للضرورة مثل ما قاله إبراهيم ، فهذا الإضراب كان تمهيداً للحجة على نية أن يتضح لهم الحق بآخره . ولذلك قال : { أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم } الآية .
أما الإخبار بقوله { فعله كبيرهم هذا } فليس كذباً وإن كان مخالفاً للواقع ولاعتقاد المتكلم لأن الكلام والأخبار إنما تستقر بأواخرها وما يعقبها ، كالكلام المعقب بشرط أو استثناء ، فإنه لما قصد تنبيههم على خطأ عبادتهم للأصنام مهدّ لذلك كلاماً هو جار على الفرض والتقدير فكأنه قال : لو كان هذا إلهاً لما رضي بالاعتداء على شركائه ، فلما حصل الاعتداء عليهم بمحضر كبيرهم تعين أن يكون هو الفاعلَ لذلك ، ثم ارتقى في الاستدلال بأن سلبَ الإلهية عن جميعهم بقوله { إن كانوا ينطقون } كما تقدم . فالمراد من الحديث أنها كذبات في بادىء الأمر وأنها عند التأمل يظهر المقصود منها . وذلك أن النهي عن الكذب إنما علته خدع المخاطب وما يتسبب على الخبر المكذوب من جريان الأعمال على اعتبار الواقعُ بخلافه . فإذا كان الخبر يُعقب بالصدق لم يكن ذلك من الكذب بل كان تعريضاً أو مزحاً أو نحوهما .
وأما ما ورد في حديث الشفاعة « فيقول إبراهيم : لست هناكم ويذكر كذَبات كذبها » فمعناه أنه يذكر أنه قال كلاماً خِلافاً للواقع بدون إذن من الله بوحي ، ولكنه ارتكب قولَ خلاف الواقع لضرورة الاستدلال بحسب اجتهاده فخشي أن لا يصادف اجتهاده الصواب من مراد الله فخشي عتاب الله فتخلص من ذلك الموقف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} إبراهيم: {بل فعله كبيرهم هذا} يعني: أعظم الأصنام الذي في يده الفأس، غضب حين سويتم بينه وبين الأصنام الصغار، فقطعها.
{فسئلوهم إن كانوا ينطقون} يقول: سلوا الأصنام المجذوذة من قطعها؟ إن قدروا على الكلام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 62]
يقول تعالى ذكره: فأتوا بإبراهيم، فلما أتوا به قالوا له: أأنت فعلت هذا بآلهتنا من الكسر بها يا إبراهيم؟ فأجابهم إبراهيم: بل فعله كبيرهم هذا وعظيمهم، فاسألوا الآلهة من فعل بها ذلك وكسرها إن كانت تنطق أو تعبر عن نفسها...
عن قَتادة، قوله:"بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهِمْ هَذَا..." وهي هذه الخصلة التي كادهم بها.
وقد زعم بعض من لا يصدّق بالآثار ولا يقبل من الأخبار إلا ما استفاض به النقل من العوامّ، أن معنى قوله: "بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهِمْ هَذَا "إنما هو: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم، أي إن كانت الاَلهة المكسورة تنطق فإن كبيرهم هو الذي كسرهم. وهذا قول خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلها في الله، قوله: "بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهِمْ هَذَا"، وقوله: "إنّي سَقِيمٌ"، وقوله لسارة: هي أختي. وغير مستحيل أن يكون الله تعالى ذكْره أذِن لخليله في ذلك، ليقرّع قومه به، ويحتجّ به عليهم، ويعرّفهم موضع خطئهم، وسوء نظرهم لأنفسهم، كما قال مؤذّن يوسف لإخوته: أيّتُها العيرُ إنّكُمْ لَسارِقُونَ ولم يكونوا سرقوا شيئا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فقال لهم إبراهيم عليه السلام {بل فعله كبيرهم} هذا على معنى الاحتجاج عليهم أي إنه غار من أن يعبد وتعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك، وقالت فرقة هي الأكثر إن هذا الكلام قاله إبراهيم عليه السلام لأنها كذبة في ذات الله تؤدي إلى خزي قوم كافرين والحديث الصحيح يقتضي ذلك وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم، «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: قوله {إني سقيم} [الصافات: 89] وقوله {بل فعله كبيرهم هذا} وقوله للملك هي اختي» ثم تطرق إلى موضع خزيهم بقوله {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} على جهة التوقيف. وذهبت فرقة إلى نفي الكذب عن هذه المقالات، وقالت فرقة معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لم يكذب إبراهيم» أي لم يقل كلاماً ظاهره الكذب أو يشبه الكذب وذهبت إلى تخريج هذه المقالات فخرجت هذه الآية على معنى أنه أراد تعليق فعل الكبير بنطق الآخرين كأنه قال بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء ولم يخرج الخبر، على أن الكبير فعل ذلك، وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله {فاسألوهم}. وذهب الفراء إلى جهة أخرى بأن قال قوله {فعله} ليس من الفعل وإنما هو فلعله على جهة التوقع حذف اللام على قولهم عله بمعنى لعله ثم خففت اللام، وهذا تكلف.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ظَاهِرِ الْمَقْصُودِ بِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا تَعْرِيضٌ، وَفِي التَّعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ؛ فَشَرَطَ النُّطْقَ فِي الْفِعْلِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ: لِأَنَّهُ عَدَّدَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْرِيضِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ آلِهَةً دُونَ اللَّهِ، وَهُمْ كَمَا قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْك شَيْئًا؟ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، لِيَقُولُوا إنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ؛ فَيَقُولُ لَهُمْ: فَلِمَ تَعْبُدُونَ؟ فَتَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ. وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ فَرْضُ الْبَاطِلِ مَعَ الْخَصْمِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ من ذَاتِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ فِي الْحُجَّةِ وَأَقْطَعُ لِلشُّبْهَةِ، كَمَا قَالَ لِقَوْمِهِ: هَذَا رَبِّي، عَلَى مَعْنَى الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى إذَا أَفَلَ مِنْهُمْ تَبَيَّنَ حُدُوثُهُ، وَاسْتِحَالَةُ كَوْنِهِ إلَهًا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال} متهكماً بهم وملزماً بالحجة: {بل فعله كبيرهم} غيره من أن يعبد معه من هو دونه، وهذا على طريق إلزام الحجة؛ وتقييده بقوله: {هذا} إشارة إلى الذي تركه بغير كسر يدل على أنه كان فيهم كبير غيره. وكذا التنكير فيما مضى من قوله {إلا كبيراً لهم} وهذا -مع كونه تهكماً بهم وكناية عن أنهم لا عقل لهم لعبادتهم من يعلمون أنه لا يقدر على فعل ما- تنبيه على قباحة الشرك، وأنه لا يرضى به إله بل يهلك من عبد غيره وكل ما عبد من دونه إن كان قادراً، غيره على مقامه العظيم، ومنصبه الجسيم.
ولما أخبرهم بذلك، ولم يكن أحد رآه حتى يشهد على فعله، وكانوا قد أحلوهم بعبادتهم ووضع الطعام لهم محل من يعقل، سبب عنه أمرهم بسؤالهم فقال: {فاسألوهم} أي عن الفاعل ليخبروكم به {إن كانوا ينطقون} على زعمكم أنهم آلهة يضرون وينفعون، فإن قدروا على النطق أمكنت منهم القدرة وإلا فلا، أما سؤال الصحيح فواضح، وأما غيره فكما يسأل الناس من جرح أو قطعت يده أو رجله أو ضرب وسطه وبقيت فيه بقية من رمق، وإسناده الفعل ما لا يصح إسناده إليه وأمره بسؤاله بعد الإضراب عن فعله متضمن لأنه هو الفاعل.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وأراد الأصنام المكسرة اسألوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر، اسألوه لأي شيء كسرها، إن كان عندهم نطق، فسيجيبونكم إلى ذلك، وأنا وأنتم، وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم، ولا تنفع ولا تضر، بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما إبراهيم فهو يتهكم بهم ويسخر منهم، وهو فرد وحده وهم كثير. ذلك أنه ينظر بعقله المفتوح وقلبه الواصل فلا يملك إلا أن يهزأ بهم ويسخر، وأن يجيبهم إجابة تناسب هذا المستوى العقلي الدون: (قال: بل فعله كبيرهم هذا. فاسألوهم إن كانوا ينطقون).. والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر. فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم -عليه السلام- والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون. فالأمر أيسر من هذا بكثير! إنما أراد أن يقول لهم: إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا. فهي جماد لا إدراك له أصلا. وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل. فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم إن هذا التمثال هو الذي حطمها! (فاسألوهم إن كانوا ينطقون)!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله تعالى {بل} إبطال لأن يكون هو الفاعل لذلك، فنفى أن يكون فعَل ذلك، لأن (بل) تقتضي نفي ما دل على كلامهم من استفهامه. وقوله تعالى {فعله كبيرهم هذا} الخبر مستعمل في معنى التشكيك، أي لعله فعله كبيرهم إذ لم يقصد إبراهيم نسبة التحطيم إلى الصنم الأكبر لأنه لم يدع أنه شاهد ذلك، ولكنه جاء بكلام يفيد ظنه بذلك حيث لم يَبق صحيحاً من الأصنام إلا الكبير... أما الإخبار بقوله {فعله كبيرهم هذا} فليس كذباً وإن كان مخالفاً للواقع ولاعتقاد المتكلم؛ لأن الكلام والأخبار إنما تستقر بأواخرها وما يعقبها، كالكلام المعقب بشرط أو استثناء، فإنه لما قصد تنبيههم على خطأ عبادتهم للأصنام مهدّ لذلك كلاماً هو جار على الفرض والتقدير، فكأنه قال: لو كان هذا إلهاً لما رضي بالاعتداء على شركائه، فلما حصل الاعتداء عليهم بمحضر كبيرهم تعين أن يكون هو الفاعلَ لذلك، ثم ارتقى في الاستدلال بأن سلبَ الإلهية عن جميعهم بقوله {إن كانوا ينطقون} كما تقدم. فالمراد من الحديث أنها كذبات في بادئ الأمر، وأنها عند التأمل يظهر المقصود منها. وذلك أن النهي عن الكذب إنما علته خدع المخاطب وما يتسبب على الخبر المكذوب من جريان الأعمال على اعتبار الواقعُ بخلافه، فإذا كان الخبر يُعقب بالصدق لم يكن ذلك من الكذب، بل كان تعريضاً أو مزحاً أو نحوهما. وشمل ضمير {فاسألوهم} جميع الأصنام ما تحطم منها وما بقي قائماً. والقوم وإن علموا أن الأصنام لم تكن تتكلم من قبل إلا أن إبراهيم أراد أن يقنعهم بأن حدثاً عظيماً مثل هذا يوجب أن ينطقوا بتعيين من فعلَه بهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَاسألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} فهم الذين يجب أن يوجه إليهم السؤال، لأنهم هم الذين كانوا محلاً للاعتداء، وهم الأعرف بالمعتدي. فوجِّهوا إليهم السؤال إن كانوا يملكون منطقاً للجواب. إنه يريد أن يصدم عقيدتهم بالحقيقة الدامغة، ولكنهم لا يريدون أن يفكروا في نتائجها السلبية على العقيدة، ليقودهم إلى التفكير من جديد، وإلى القبول بإدارة الحوار حولها. وعلى ضوء هذا، فإن إبراهيم لم يكذب في كلامه باتهام الصنم الكبير، لأنه لم يقصد الحكاية عن الواقع، بل قصد التمهيد لإظهار الحقيقة للوصول إلى النتائج الإيجابية في خط الدعوة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فأجابهم إبراهيم جواباً أفحمهم، وجعلهم في حيرة لم يجدوا منها مخرجاً (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون).
إنّ من أسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتّهم بادية عليه آثار الجريمة، والملاحظ هنا أنّ آثار الجريمة كانت باديةً على يد الصنم الكبير، [وفقاً للرواية المعروفة: إنّ إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير].
لماذا تأتون إليّ؟ ولماذا لا تتّهمون إلهكم الكبير؟ ألا تحتملون أنّه غضب على الآلهة الصغيرة، أو إنّه اعتبرهم منافسيه في المستقبل فعاقبهم؟
ولمّا كان ظاهر هذا التعبير لا يطابق الواقع في نظر المفسّرين، ولمّا كان إبراهيم نبيّاً معصوماً ولا يكذب أبداً، فقد ذكروا تفاسير مختلفة، وأفضلها كما يبدو هو:
إنّ إبراهيم (عليه السلام) قد نسب العمل إلى كبير الأصنام قطعاً، إلاّ أنّ كلّ القرائن تشهد أنّه لم يكن جادّاً في قصده، بل كان يريد أن يزعزع عقائد الوثنيين الخرافية الواهية، ويفنّدها أمامهم، ويُفهم هؤلاء أنّ هذه الأحجار والأخشاب التي لا حياة فيها ذليلة وعاجزة إلى الحدّ الذي لا تستطيع أن تتكلّم بجملة واحدة تستنجد بعبّادها، فكيف يريدون منها أن تحلّ معضلاتهم؟!
ونظير هذا التعبير كثير في محادثاتنا اليوميّة، فنحن إذا أردنا إبطال أقوال الطرف المقابل نضعِ أمامه مسلّماته على هيئة الأمر أو الإخبار أو الاستفهام، وهذا ليس كذباً أبداً، بل الكذب هو القول الذي لا يمتلك القرينة معه.
وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب الكافي: «إنّما قال: بل فعله كبيرهم، إرادة الإصلاح، ودلالة على أنّهم لا يفعلون» ثمّ قال: «والله ما فعلوه وما كذّب».
واحتمل جمع من المفسّرين أنّ إبراهيم قد أدّى هذا المطلب بشكل جملة شرطيّة وقال: إنّ الأصنام إذا كانت تتكلّم فإنّها قد فعلت هذا الفعل، ومن المسلّم أنّ هذا التعبير لم يكن خلاف الواقع، لأنّ الأصنام لم تكن تتكلّم، ولم تكن قد أقدمت على مثل هذا العمل، ولم يصدر منها، ووردت رواية في مضمون هذا التّفسير أيضاً.
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب، لأنّ الجملة الشرطيّة «إن كانوا ينطقون» جواب الطلب في «فاسألوهم»، وليست شرطاً لجملة «بل فعله كبيرهم». (فلاحظوا بدقّة).
واللطيفة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هي: إنّ العبارة هي أنّه يجب أن يسأل من الأصنام المحطّمة الأيدي والأرجل عمّن فعل بها ذلك، لا من الصنم الكبير، لأنّ ضمير (هم)، وكذلك ضمائر «إن كانوا ينطقون» كلّها بصيغة الجمع، وهذا أنسب مع التّفسير الأوّل.
لقد هزّت كلمات إبراهيم الوثنيين وأيقظت ضمائرهم النائمة الغافلة، وأزاح الرماد عن شعلة النّار فأضاءها، وأنار فطرتهم التوحيديّة من خلف حجب التعصّب والجهل.